The Effects of Music » فقدمت قطع موسيقية مختلفة لجمهور فيه الموسيقيون المحترفون، وفيه ذوو الثقافة الفنية الرفيعة، ولكنهم ليسوا موسيقيين، وفيه من يحب الموسيقى سماعا، ومن لا يتذوقها على الإطلاق. ولوحظ أن ذوي الذوق الفني الرفيع، الذين لا يحترفون الموسيقى ولا يعرفون أصولها، يلجئون دائما إلى التشبيهات في فهمهم للموسيقى، وإلى إيراد الارتباطات التي تذكرهم بها، أما محترف الموسيقى، أو ذلك الذي اكتسب دراية بأصولها، فلا يفكر أثناء الاستماع إلا في الموسيقى من حيث هي موسيقى، ويتمتع بها تمتعا جماليا يخلو من أية صورة تخيلية أو تشبيهية. ومن هذه التجارب نستطيع أن نستنتج أن الخبرة الطويلة تؤدي بالمرء إلى أن يفهم الموسيقى على النحو الصحيح، فلا يحشدها بالمعاني الجزئية؛ إذ إن الموسيقى تقبل عديدا منها، وإنما يكتفي بالاستمتاع بها دون إقحام للخيال الشعري أو التصويري.
وهنا قد يتساءل المرء: هل تعني قابلية القطعة الموسيقية الواحدة لتفسيرات مختلفة، أن الموسيقى لا تعني شيئا على الإطلاق، وأن لكل فرد أن يفهمها كما يشاء، وفهمه في كل الأحوال باطل؟ الواقع أن هذه النتيجة أبعد ما تكون عما نهدف إليه؛ فللموسيقى - كما أكدنا من قبل - معنى بالضرورة، غير أن من طبيعتها أن يكون هذا المعنى عاليا على التشبيهات الجزئية التي يلجأ إليها أصحاب المزاج الشاعري أو الرومانتيكي من غير الخبراء في الموسيقى، الذين يؤكدون أن هذه الحركة من سيمفونية بيتهوفن الخامسة (مثلا) تشير إلى ضربات القدر، وتلك تعني الاستسلام له، وهذه يمثل بها الصراع معه، والأخيرة تعني الانتصار عليه ... إلى آخر هذه التشبيهات الأدبية التي تسيء إلى المتعة الجمالية أكثر مما تعين على تحقيقها؛ ذلك لأن أقصى ما تستطيع الموسيقى أن تبعثه فينا، هو أن تضفي علينا معاني وأحاسيس عامة، أي: إنها تخلق فينا «جوا» معينا، يمكننا أن ندرك تياره العام، ولكننا لا نستطيع أن نحدد تفصيلاته الجزئية، ولن نستفيد شيئا لو استطعنا ذلك.
كل هذه الأفكار عن صلة المعنى الموسيقي بمجال التشبيهات الشعرية أو التصويرية تؤدي بنا ضرورة إلى بحث علاقة الموسيقى بمجال مرتبط بها أوثق الارتباط، وأعني به مجال الكلمات، الذى اختلط بها اختلاطا وثيقا في الغناء. فإلى أي مدى تفيد الكلمات المرتبطة بالموسيقى في تحديد معانيها؟ وهل يزداد معنى الموسيقى دقة ووضوحا إذا شرح عن طريق الأغنية؟
لكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي أولا أن نفهم العلاقة بين الغناء والموسيقى فهما صحيحا؛ فليس الغناء أمرا دخيلا على الموسيقى، أو عنصرا أضيف إليها فيما بعد، بل إن العلاقة بينهما عكس ذلك؛ فالموسيقى هي التي استمدت من الغناء؛ ذلك لأن الفن الموسيقي قد بدأ منذ أن تعلم بعض المنشدين كيف ينظمون طريقة إنشادهم على نحو إيقاعي منغم، وظل فن الأنغام مرتبطا بالغناء طويلا، وعندما ظهرت الآلات الموسيقية، كان الغرض منها هو مساعدة الصوت البشري أو تقويته أو تزيينه. وبعد تطور طويل بدأت الآلات تستقل عن الصوت تدريجيا، ونظرا لاتساع مجال التعبير بها، فقد أخذت تفوقه بالتدريج، حتى أصبحت موسيقى الآلات هي الأساسية عند الغرب، وإن كان فن الغناء لا يزال على ازدهاره. وعلى ذلك فتطور علاقة موسيقى الآلات بالغناء تتلخص في أنها كانت تعتمد عليه في أول الأمر اعتمادا تاما، ثم استقلت عنه فيما بعد. وهذا الاستقلال الذي أصبحت تتصف به موسيقى الآلات في الوقت الحالي هو في ذاته دليل على أن الأنغام الخالصة، دون أية كلمات مصاحبة، هي وسيلة كافية للتعبير. بل إن هذه بعينها هي الصفة المميزة للتعبير في الموسيقى؛ أن يكون عاما، مستقلا عن كل وسيلة لتخصيص معانيه. فإذا قيل: إن هناك وجها هاما للموسيقى الغربية لم نتحدث عنه، وهو الفنون الغنائية؛ كالأوبرا، قلنا: إن هذا الوجه ليس استثناء لهذه القاعدة؛ فالأصوات البشرية في الأوبرا إنما تعامل معاملة الآلات الموسيقية، أعني أن المقصود منها هو التأثير عن طريق أنغامها، لا عن طريق كلماتها. والدور الذي تلعبه الكلمات في الأوبرا دور غير كبير، فما هي إلا وسيلة لإظهار الصوت البشري، ومطية له فحسب. والمستمعون إلى الأوبرا لا يترددون عليها من أجل ما فيها من كلمات، بل من أجل موسيقاها: موسيقى الآلات، وموسيقى الأصوات معا.
فللموسيقى إذن قدرة معبرة بذاتها، وهي ليست في حاجة إلى معونة الكلمات النثرية أو الشعرية لإكمال قدرتها التعبيرية، بل إن قوتها لتكمن في استقلالها، وفيما لها من كيان خاص ينقل لنا معاني عامة حقا، ولكن عموميتها هي أصل روعة هذا الفن.
على أن هناك موسيقيا واحدا له رأي آخر في علاقة الموسيقى بالكلمات أو الشعر، ولن يكمل عرضنا للقدرة التعبيرية في الموسيقى إلا إذا ناقشناه؛ هذا الموسيقي هو رتشارد فاجنر.
فقد رأى فاجنر - وهو في رأيه هذا يتفق مع ما قلناه ها هنا - أن تعبير الموسيقى عام إلى حد بعيد؛ فمعانيها لا تحدد في نطاق واضح يدركه الذهن عن وعي، بل هي غامضة مبهمة، تتسع لعديد من التفسيرات والتأويلات؛ فهي في رأيه تتعلق حقا بالمجال الباطن للنفس الإنسانية، ولكنها لا تقدم عن هذا المجال صورة واضحة المعالم. ومن جهة أخرى، فهو يرى أن الشعر قد ابتعد عن المجال الباطن، وأصبح أميل إلى سرد الحوادث الخارجية التي لا تتغلغل في أعماق النفس. أما محاولة التقريب بين الموسيقى والشعر في الأوبرا المعتادة، فيصفها بأنها محاولة سطحية، تظل الموسيقى فيها هي الطاغية؛ لهذا دعا فاجنر إلى خلق «الدراما الموسيقية»، التي تحاول الموسيقى فيها أن تقترب من الشعر إلى أقصى حد، ويعمل الشعر من جهته على تكملة الموسيقى؛ إذ إن الكلمات، بما تثيره من معان عقلية، تأخذ طريقها إلى النفس بتوسط الذهن أو العقل، وهي مع ذلك - وربما من أجل ذلك - تستطيع بسهولة أن تحدد المعنى الذي ترمي إليه، وتخصص الانفعال الذي تتجه إلى إثارته؛ فالموسيقى والشعر إذن وجهان يكمل كل منهما الآخر في الدراما، كما تصورها فاجنر: الأولى تنفذ إلى أعماق النفس مباشرة، ولكنها لا توجهها وجهة محددة، بل يتولى الشعر هذه المهمة، فتوضح كلماته معالم الصورة التي قدمتها إلينا الموسيقى في إطار مبهم.
رتشارد فاجنر.
وفي ضوء ما قلناه من قبل، يمكننا أن نهتدي إلى عناصر النقد الذي يوجه إلى رأي فاجنر هذا؛ فمن الخطأ البين الاعتقاد بأن عمومية التعبير الموسيقي هي مصدر نقص فيه، بل إن هذه هي طبيعة ذلك التعبير. وليست الموسيقى في حاجة إلى فن آخر مكمل، كالشعر؛ حتى تعوض هذا النقص المزعوم. وللمرء أن يشك في القيمة الحقيقية لهذا العمل الفني الجامع
Gesamtkunstwerk
Unknown page