Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
أبدى الذواقة إعجابهم بكبد أسماك البوري الحمراء نظرا لطعمه اللذيذ ... ولكني لا أعتقد أنه لذيذ الطعم أو مفيد للجسم بما يبرر ذلك الإعجاب ... ولا أستطيع أن أفهم أيضا السبب الذي يدفع الكثيرين لشراء أسماك البوري الحمراء من الحجم الأكبر؛ فلحمها ليس لذيذا مثل لحم الأسماك الأصغر حجما، وصعب الهضم لأنه قاس نوعا ما؛ ولذلك، استفسرت من أحد الذين كانوا يشترون أسماك البوري الحمراء بسعر مرتفع عن سبب حماسه لهذه الأسماك؛ فأجابني بأن ما يدفعه لشراء أسماك كبيرة السن مثل تلك الأسماك هو كبدها بالتحديد، ومع ذلك كان يشتريها أيضا من أجل رءوسها. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
في معظم أعماله، لا يتحدث جالينوس عن عادات تناول الطعام لدى الأغنياء إلا حديثا عابرا؛ فالأغنياء كان يهتم بالحديث عنهم الكثير من المؤلفين مثل بلينوس وكولميلا، وذلك في بداية كتابه «عن الزراعة»، ويصور فيه المعاصرين له باعتبارهم يبتعدون عن القيم التقليدية (خصوصا القيم الزراعية المقدسة) ويتجهون نحو التفاخر الحضري البلاغي المتأنق. تترافق مع أراضي الأسلاف ظاهرة التجنيد بنظام نصف الوقت للمواطن المزارع. يتبع أثينايوس - في استعراضه للترف في الجزء الثاني عشر من كتابه - نموذجا لتطور الدولة يبدأ بمجتمع يعج بالقوة والشجاعة القتالية؛ ثم يصبح ناجحا وعظيما، والأهم أنه يصبح «رقيقا»، ثم يتحطم في نهاية الأمر على رمال الترف. ويذكر أثينايوس أمثلة للدول والأفراد التي تعاني من تلك الرقة، وتأتي هذه الأمثلة في القصص الأخلاقية التي تنطوي على غرض تعليمي واضح.
وكثيرا ما يكون الطعام جزءا لا يتجزأ من ذلك التطور الاجتماعي والثقافي؛ ولذلك، نجد أن كتاب هيرودوت يتحدث مرتين عن قائد عسكري من الغزاة يسأل عن سبب غزوه لبلد أفقر من بلده في الزراعة، ثم يلقى الهزيمة في نهاية الأمر. ويبدو أن الحجة هي أن مصر وبلاد فارس على التوالي أغنى من جيرانهما من حيث وفرة الغذاء والزراعة؛ ومن ثم فإن الرغبة في غزو هذه البلدان المجاورة أمر يبعث على الدهشة. ويقارن خطاب الترف أيضا بين عادات تناول الطعام الفاخرة الحالية وعادات تناول الطعام الأقدم الأكثر تقشفا؛ ونلاحظ هذا في كتابات المؤلفين الإغريق والرومان، بل في بلاد فارس حيث نجد أن الأطعمة التقليدية التي قامت عليها الهوية الفارسية هي البطم ونوع من نبات الرشاد، وذلك بصرف النظر عن فخامة القصور الملكية هناك (سانشيسي ويردينبرج 1995). ويعلق جالينوس على الكسل في عصره الذي تقابله الفضائل القديمة (وهو ما نستشهد به في الفصل الثامن)، ويبدي بلينوس أسفه - كما رأينا - بشأن التدهور في العصر الحديث («التاريخ الطبيعي» 8، 210):
كان الخنزير البري يقسم إلى ثلاثة أجزاء، وكان يطلق على الجزء الأوسط خاصرة الخنزير. كان أول من يقدم خنزيرا كاملا في مآدبه من الرومان هو بوبليوس سيرفيليوس رولوس ... (في أوائل القرن الأول قبل الميلاد) فذلك التاريخ هو الذي شهد بداية هذا الحدث الذي أصبح حاليا من الأحداث اليومية، ويأتي ذلك الحدث في النصوص التاريخية - ربما بسبب تحسن هذه العادات - وفيه يؤكل خنزيران بريان أو ثلاثة في مناسبة واحدة، وليس بصفته الطعام الذي يقدم على مدى المأدبة بأكملها، بل بصفته أحد المقبلات.
شهد الكتاب الإغريق والرومان الكثير من أمثلة هذا التطور، وكتبوا عن نماذج للبساطة تتناقض مع ذلك وتقع في الماضي أو في المناطق غير الحضرية. ويرى أثينايوس أن هذه البساطة تكمن في قصائد هوميروس، مثلا. والسؤال الذي يهمنا هو: هل كانت التطورات من هذا النوع مؤثرة في تاريخ الطعام وعادات تناول الطعام، أم كانت تختلف عن تطور الطعام في الثقافة، مثل ذلك التطور الذي ناقشناه في الفصل الأول؟ وربما كانت هذه الظواهر المترفة - على سبيل المثال - أحداثا متفرقة كانت تؤدي بدورها إلى نتائج متشابهة في قرون مختلفة، وتتعلق بالكتابات الفلسفية أكثر منها بعادات تناول الطعام. يذكر بلينوس التغيرات التي طرأت على طريقة أكل الخنزير البري، شأنه شأن المؤلف المهتم بالوعظ الأخلاقي جوفينال في قصيدة «المقطوعة الهجائية الأولى»، ولكن بلينوس في الفقرة نفسها يروي أيضا أن كاتو الرقيب في بداية القرن الثاني قبل الميلاد كان قد كتب خطبا تشجب «كالوم»، أو دهن الخنزير البري. وكان كاتو محقا على الأرجح في رأيه عن شرور لحم الخنزير.
وكثيرا ما يعرف كاتو بوصفه شخصية جمهورية صارمة حاولت المحافظة على القيم التقليدية الرومانية أمام التأثير الإغريقي. وكان يناهض توسع المصالح الرومانية في البلدان الإغريقية، وكان يناهض عائلة سكيبيو الذين كان لهم دور مؤثر في التوسع في إسبانيا وقرطاج واليونان. ويشتهر بشكواه من جلب فتية يتسمون بالوسامة إلى إيطاليا، واستيراد الأسماك المملحة من البحر الأسود، وكان يصل سعر الجرة منها إلى 300 دراخما وهو سعر أعلى من سعر الأرض (بوليبيوس 31 وأثينايوس). ويتحدث بلوتارخ في كتابه «حياة كاتو» عن عادات تناول الطعام الغريبة التي كان يتبعها كاتو، مثل عادته أن يأكل الخبز ويشرب النبيذ مع عبيده.
لا بد أن نشاهد هذه الصورة على حقيقتها، بصفتها صورة مصنوعة خصوصا لتحقيق أكبر تأثير سياسي وخطابي؛ فالقائد العسكري المنتصر إميليوس باولوس، المحب لكل ما هو إغريقي، المعروف باهتماماته الإغريقية وكتبه الإغريقية، لم يكن هو النقيض لكاتو؛ إذ إن كاتو درس اللغة الإغريقية واستعمل الأبحاث الإغريقية في كتابه المتخصص في الزراعة، وكان كفيل الشاعر الأوسكاني الشاب إينيوس. فهذا الخطيب الذي يجيد ثلاث لغات أصبح أيقونة أخرى للتقشف في روما في عصر الجمهورية، ولكن أحد أعماله كان نسخة لاتينية من كتاب «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس، وليس المقصود بهذا أن نتهم كاتو وإينيوس بالنفاق، بل المقصود أن نذكر أن هذا كان عصرا مركبا يعج بالعلاقات الدولية والأيديولوجيات المركبة. ولم يكن من الصعب على تلميذ تحت التدريب، من جنوب اليونان، أن يقدم لمن يقرءون اللاتينية قصيدة من قرن سابق في صقلية الإغريقية. وكان الترف من بين تلك الموضوعات الأيديولوجية. يقارن بلوتارخ بين عادات تناول الطعام لدى كاتو، وعادات تناول الطعام لدى اثنين من جيرانه، وهما مانيوس كوريوس دينتاتوس وفاليريوس فلاكوس، وقد اشتهر الثاني بأنه هزم بيروس - القائد المقدوني الذي غزا إيطاليا - وبعد هذا الانتصار الهائل وبعد ثلاثة انتصارات عاد للعمل في زراعة حقله. يروي بلوتارخ (2، 1):
وجده سفراء منطقة سامنيوم في حقله جالسا عند المصطلى يسلق اللفت. كانوا يريدون أن يمنحوه كمية كبيرة من الذهب، ولكنه صرفهم قائلا إن الرجل الذي يكفيه عشاء مثل ذلك ليس بحاجة إلى الذهب، وإنه يفضل غزو البلاد التي تمتلك اللفت عن الحصول على الذهب.
وفي الوقت نفسه، كان فاليريوس معجبا بعادات تناول الطعام التي يتبعها كاتو؛ إذ كان يجلس إلى المائدة مع عبيده ويشاركهم الطعام والنبيذ نفسه، ودعاه إلى مأدبة عشاء. ولم تكن هذه المأدبة على شاكلة المآدب غير الرسمية التي لا تكترث بالفوارق الطبقية، ويتناول فيها العبيد النبيذ والخبز الذي يتناوله أسيادهم من أبناء الطبقة الراقية؛ إذ كانت تمثل البوابة التي دخل منها كاتو إلى معترك الحياة السياسية في روما. ومع ذلك، ما إن صار كاتو رجلا له سلطان في روما، «حتى أصبح يرضى بعشاء بسيط وإفطار/غداء بارد (أريستون) ...» حسبما يروي بلوتارخ ضمن جوانب أخرى من حياة كاتو البسيطة (4، 2). وظل كاتو يمارس نشاطه كسياسي وكرقيب لمناهضة الإسراف، وكان يرى (حسب ما أورده في الموضع (4، 2) من كتابه) أن «الجمهورية لم تكن تحمي نقاءها نظرا لمساحتها الشاسعة، وأن حكم الكثير من الأماكن والشعوب كان يستدعي منها المشاركة في الكثير من الأنظمة الأخلاقية واعتناق نماذج لأنماط حياة متباينة تماما.» ويتشابه ما قاله بلوتارخ مع ما قاله بوليبيوس؛ فهذه معركة أيديولوجية على روح الجمهورية التقليدية التي تتنافس مع الجمهورية ذات الميول التوسعية إبان القرن الثاني قبل الميلاد. وفي الموضع (16، 4)، يروي بلوتارخ أن ترشيح كاتو لمنصب الرقيب كان قائما على ضرورة «تخفيف الترف والرقة («تروفين كاي مالاكايان») مثل الأفعى المتعددة الرءوس» (راجع أستين 1978: 173).
وهذا الجدل الأيديولوجي الدائر حول شخصية كاتو الأكبر ينطوي على أهمية للفكر الذي يتناوله هذا الفصل؛ فهو يعرض التضاد بين ادعاءات الحياة الريفية التقليدية ومتطلبات المدينة الآخذة في النمو، بالإضافة إلى عوامل التأثير الخارجية. تظهر مخاوف في بعض المناطق من أن الإمبراطورية التي تتبع نهج التوسع ربما تكون معرضة لخطر الغرق في طوفان السلع المترفة الأجنبية. وللطعام وعادات تناول الطعام دور في هذه العملية، كما أنها آلية وأسلوب للنظر إلى العالم الذي لا يقتصر على روما وحدها، بل ينعكس في أثينا وربما في الكثير من المدن الإغريقية. وأناقش هذا في ويلكنز (2000: الفصل السادس). ونجد أصداء لذلك في المسرح الكوميدي الإغريقي والروماني؛ حيث تعرض تلك المتضادات أمام عدد كبير ومتنوع من المشاهدين. وهي سمة شائعة قبل كل شيء في الأدب الروماني الذي نناقشه في الفصل التاسع، وفي «الهجائيات» التي ألفها هوراس وجوفينال (في «المقطوعة الهجائية الحادية عشرة»، يشير جوفينال بوضوح إلى مانيوس كيوريوس)، والخطابات والخطب والمقالات التي ألفها كل من شيشرون وسينيكا، وفي قصيدة «الأعياد» من تأليف أوفيد (راجع ما سبق)، وكتب التاريخ التي ألفها سالوست وتاسيتوس والتي نسجت حولها الأساطير. وما يهمنا هو تاريخ الطعام، وهو يستقى من مصادر متباينة للغاية، ولكن تلقي ذلك التاريخ يعتمد أساسا على هذه الأعمال الأدبية ذات المضمون الأخلاقي التي ظهرت في بداية الإمبراطورية الرومانية.
Unknown page