Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
توضح هذه اللمحة الرائعة عن حياة الطبقة الدنيا في منازل أثينا وشوارعها، التي من المفترض أن تصور الشخصية الشائنة التي وصفها أرسطو ، سواء أكانت على المسرح أم في نص أدبي؛ الرجل السيئ الخلق وهو عاجز عن ربط تقديم القرابين بمشاركة الطعام مع الآخرين، وكذلك وهو عاجز (بالتضمين) عن تناول الطعام بالتبادل مع الآخرين، وأخيرا وهو عاجز عن الالتزام بالأمانة عند الشراء من القصاب. والنظام الاجتماعي مترسخ في هذه المشاهد مثلما هو مترسخ في مسرحية «ديسكولوس» من تأليف ميناندر.
أسدى القديس بولس نصيحة شهيرة للمسيحيين في كورنث ممن كان يساورهم القلق من احتمال أنهم يأكلون لحما متخلفا عن طقوس تقديم قرابين وثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح 8). ونصيحته هي أن يأكلوا اللحم على الرغم من ذلك؛ لأن المسيح إله أقوى من الآلهة الوثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح 8). ويبدو أنه كان يتسنى الحصول على اللحم في كورنث لمن كانوا لا يرغبون في المشاركة في طقوس تقديم القرابين. وتشير مصادر أخرى في العصر الروماني - كما رأينا - إلى إنتاج اللحوم بكميات كبيرة، ومن الصعب تقدير إلى أي مدى روعي فعليا في هذا التطور فصل تقديم القرابين عن إنتاج اللحوم. لا شك أن ما أورده فارو - وهو كاتب يسبق عهد القديس بولس بقرن - (في كتابه «عن الزراعة» 2، 5، 11) يشير إلى أنه كانت هناك حيوانات تربى «بغرض الذبح» - أي كي تذبح على يد القصاف بغرض الاستهلاك التجاري - وعلى النقيض منها كانت هناك حيوانات تربى من أجل تقديم القرابين، «آد ألتاريا» (فراين 1993: 156، دالبي 2003: 213). وكانت اللحوم (ذات المنشأ غير المعروف) متاحة في المنافذ التجارية، على ما يبدو. وكانت الحانات ومحال الطهي في إيطاليا تقدم فيما يبدو قطع لحم وأنواع سجق رخيصة (وذلك رهن بالتشريعات المقيدة الصادرة عن أباطرة مختلفين)؛ فمن المرجح أن نفترض أن نسبة لا بأس بها من السكان كانت تستهلك كميات قليلة من اللحوم، ولكن ليس على فترات متقاربة. ويستحق الأمر أن نقارن هذا بالدليل المتعلق بمدينة نابولي من القرن التاسع عشر الذي استشهدنا به في الفصل الثاني . كان بعض الزبائن يأكلون المكرونة مضافة إليها صلصة، ولم يكن بوسع الفقراء إضافة الصلصة إلى الطعام، والأشد فقرا لم يكن بوسعهم حتى الحصول على المكرونة، بل كانوا يحصلون فقط على ماء سلق المكرونة لإضفاء نكهة. ويبرهن فروست (الذي يجمع بعضا من الفقرات الواردة فيما سبق) على انتشار تناول اللحوم. يدعي فارو (2، 4، 11، بناء على ما جاء في عمل مفقود من أعمال كاتو الأكبر) أن الإنسوبريين في شمالي إيطاليا يملحون ما يتراوح بين 3000 و4000 قطعة من لحم الخنزير المقدد. ويتناول كورتيس (2001) مدى انتشار أكل اللحوم في إيطاليا في العصر الروماني.
كان أكل الأسماك يختلف عن أكل اللحوم في العصور القديمة؛ فكما رأينا، لم يكن أكل الأسماك جزءا من نظام تقديم القرابين، سواء أكان لدى الإغريق أم الرومان. وكان بعض جيرانهم - الليديين والسوريين والمصريين - لديهم بعض الأسماك المقدسة، ولم يكن لدى الإغريق والرومان إلا عدد أقل بكثير من الأسماك المقدسة. يذكر أثينايوس بعض الأسماك المقدسة في الجزء السابع من كتابه، وناقشنا بعض استثناءات هذه القاعدة في الفصل الثالث. ولم تكن الأسماك عادة جزءا من النظام الديني؛ ومن ثم كان من الممكن أن يشتريها من السوق كل من يستطيع دفع ثمنها. وتشتهر إمدادات الأسماك بأنها عرضة للتقلب، ولم تكن العصور القديمة استثناء في ذلك (جالانت 1984، وبورسيل 1995)؛ فالسمك كان يتوافر بكثرة أحيانا لمن كانوا يعيشون بالقرب من السواحل، وفي بعض الأحيان على الأقل كان يتوافر بسعر زهيد بشرط أن يكون من الأنواع التي تعيش في المياه الضحلة، مثل الأنشوفة والسردين، التي يمكن صيدها بكميات كبيرة. ولم يحظ الوصف المتشائم الذي قدمه جالانت بأي استحسان بوجه عام، ومع ذلك راجع بورسيل (1995) وهورديرن وبورسيل (2000). لقد حاولت أن أبرهن (ويلكنز 2005) على أن الكثير من أدلة جالانت يمكن قبولها، شريطة النظر إلى الأسماك بصفتها من المكملات الغذائية وليست غذاء أساسيا يمد الجسم بالسعرات الحرارية.
ومن المعروف عن أعمال هوميروس أنها كانت تخلو من أي ذكر عن أكل الأسماك، وسنناقش هذا الموضوع في الفصل التاسع، ولكنه يستحق الذكر هنا كذلك . يأكل أبطال هوميروس كمية مدهشة من لحم البقر، ونادرا ما يأكلون الأسماك، وهم لا يأكلونه في الواقع إلا بدافع الجوع. ويأتي ذكر الأسماك وصيدها والصنانير في قصائد هوميروس، ويصف هوميروس أي ملك بأنه يشرف على بحار تزخر بالأسماك إذا كان ملكا صالحا. ولكن لا أحد يأكل الأسماك في أعماله، ومن الواضح أن الشاعر يتبع منهجا يروج للحوم على حساب الأسماك. ولعلنا على يقين إلى حد ما بأن الإغريق في العصر البرونزي كانوا يأكلون الأسماك فعلا، وذلك استنادا إلى الأدلة الأثرية المذكورة في الفصل الأول، والأدلة المأخوذة من عدة مواقع أخرى تابعة للحضارة المينوية، وبعض هذه الأدلة يسردها كورتيس (2001: 274-275). وتعود ملكية الماشية المخصصة لتقديم القرابين إلى عالم الأبطال، وربما تعكس القرب بين الأبطال وآلهتهم، وتعكس أيضا ثراءهم الذي يتيح لهم أكل اللحوم يوميا. وتصور القواعد الحاكمة للأعمال الأدبية اللاحقة الأسماك على أنها من السلع الفاخرة؛ وهذا الموقف يمثل طرف النقيض، ويأتي كتفسير على القدر نفسه من التفرد لدور الأسماك في النظام الغذائي القديم.
وكما هي الحال في مواضع أخرى من هذا الكتاب - ينطبق الأمر كذلك على أكل الأسماك - توجد تفاصيل محلية كثيرة لا بد من إضافتها إلى الصورة العامة، وهذا التنوع هو الأساس الذي تقوم عليه قصيدة أركستراتوس. كانت ثمة أسماك مثل البوري الأحمر أكثر شيوعا في المياه الإغريقية منها في المياه الإيطالية؛ ومن ثم كانت تباع بأسعار أعلى في الأسواق الرومانية. وكان الدولفين في الكثير من المجتمعات الإغريقية الرومانية، مقدسا أو على الأقل غير مخصص للأكل. يزخر الأدب - بدءا من هيرودوت وحتى بلينوس الأصغر - بقصص التقارب بين الدلافين والبشر، ولكن زينوفون صادف عادة مختلفة للغاية، وذلك أثناء اجتيازه آسيا الصغرى كما ذكر في كتابه «الصعود» أو «أناباسيس» باللاتينية:
أثناء بحث الإغريق عن غنائم في هذه المواقع، وجدوا في المنازل مخازن من أرغفة الخبز المكدسة - بحسب ما قاله الموسينوكي - المصنوعة من دقيق العام الماضي، ووجدوا كذلك محصول الذرة الجديد محفوظا كما هو بسيقانه. وكان هناك قمح خشن للغاية، ووجدوا شرائح من لحم الدرفيل مخللة محفوظة في جرار، ودهن درفيل محفوظا في أوعية. وكان الموسينوكي (تسمية معناها سكان الأبراج الخشبية، وهي تسمية أطلقها الإغريق على أهالي بنطس) يستخدمون هذا الدهن كما يستخدم الإغريق زيت الزيتون. وكانت هناك في الغرف العلوية كميات من ثمار الكستناء، من النوع العريض ذي السطح الناعم. وكانوا يستخدمون ثمار الكستناء بكميات كبيرة للأكل؛ إذ كانوا يسلقونها ثم يخبزون أرغفة منها. ووجدوا نبيذا هناك أيضا، وعند خلطه يصبح طعمه مرا بسبب نكهته اللاذعة، ولكن رائحته تصبح جيدة، وكذلك طعمه، عند خلطه بالماء.
للأسماك ثلاث سمات أساسية؛ أولا: كانت كميات الأسماك المتوافرة - كما أشار بورسيل (1995) تتسم بالتقلب؛ فربما يصطاد الصيادون قطيع أسماك فيكون السعر منخفضا للغاية لمدة قصيرة، وربما تكون الكمية كبيرة بحيث تتحول إلى طعام للحيوانات، كما يحدث في العالم الحديث؛ ولذلك، فمن الجائز أن تكون الأسماك من هذا النوع - مثل التونة والسردين - متاحة للجميع، على الأقل لمن يسكنون بالقرب من البحر. ولكن هذا كان يشترط وجود توقعات تفيد بوجود كميات وفيرة من حين لآخر. ونجد أن توافر الأسماك المفردة - وهي الأسماك التي لا تتحرك في قطعان ويصطادها الصيادون فرادى - يتسم بقدر أكبر من التقلب؛ ومن ثم فإنها تباع بسعر أعلى. وهذه هي الأسماك التي يتحدث عنها ديفيدسون (1997)، وهي نوع الأسماك الفريد الذي يؤخذ إلى الملك أو الإمبراطور عند صيده. وتقدم الروايات المتعلقة ببوليكريتيس ودوميتيان أمثلة عن ظاهرة الأسماك المميزة التي كان لا بد من أخذها مباشرة إلى أقوى فرد في المجتمع (هيرودوت 3، 41-43، و«المقطوعة الهجائية الرابعة» لجوفينال، وويلكنز 1993: 195-196).
شكل 5-3: تصور عملة التيترا دراخمة هذه من سيراقوسة الاستخدام المتكرر للأسماك على العملات المعدنية للمدن القديمة. وكانت الأسماك من بين الصور الكثيرة التي استخدمتها منشآت سك العملة المحلية للتعبير عن هوية تلك المدن وثرائها. (حقوق الطبع والنشر من أمناء المتحف البريطاني.)
وتفيد المقارنة مع المصادر في العصر الحديث أن الأسماك كانت في متناول الفقراء، وقد استشهدت في الفصل الثاني بالدليل الذي قدمه هيلتوسكي (2004) عن نابولي في القرن التاسع عشر. يذكر كامبوريزي (1993) توافر الأسماك لأفقر سكان المدن والريف في إيطاليا في القرن العشرين، والأسماك المتوافرة هي الرنجة أو السردين؛ وهذا يؤكد الدليل الذي تقدمه مصادرنا القديمة.
ثانيا: توجد أنواع كثيرة ومختلفة من الأسماك، وهو ما يفسح المجال لقدر كبير من الاستفاضة؛ فهذا التنوع الكبير من الأسماء والأشكال أتاح لأجناس أدبية معينة سرد أعداد هائلة من الأسماك ووصفها. ففي الثقافة الإغريقية، كان سرد أسماء الأسماك في المسرح الكوميدي من الفقرات المتوقع ظهورها في المسرحية في القرن الرابع قبل الميلاد، بما في ذلك أنواع من الأسماك يعجز عن شرائها غالبية الجمهور إلا فيما ندر (ديفيدسون 1997، ويلكنز 2000). كانت الأسماك الواردة في الأعمال الأدبية - مثل اللحم البقري المذكور في أعمال هوميروس - تسر المستمع دون أن يضطر لتذوق السمكة للاستمتاع بها.
Unknown page