Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
وكان الأغنياء غالبا ما يدعون الضيوف على فترات كثيرة متقاربة، أما الفقراء فكانوا يدعون الضيوف مرات أقل بكثير، وربما في مناسبات مميزة فقط مثل الأعراس والتجمعات العائلية. وتؤكد لنا مصادرنا أن ظروفا مختلفة كانت سائدة في عادات تناول الطعام الرسمية لدى الإغريق ولدى الرومان؛ فالمساواة بين كل من يجلسون إلى المائدة لتناول الطعام كانت سمة مميزة لدى الإغريق، بينما كانت المأدبة الرسمية الرومانية تتسم بتنظيم هرمي للتأكيد على تفضل الغني بمنحه هذه المأدبة. ويقال أيضا إنه كانت هناك فوارق واضحة قائمة على النوع الاجتماعي؛ إذ كانت النساء من صاحبات المكانة الرفيعة يحضرن المآدب الرومانية، ولكن لا يحضرن المآدب الإغريقية. وتستحق هذه المزاعم قدرا من الاستقصاء، لا سيما أن عددا من مصادرنا - من بينهم أثينايوس - كان يجمع بين العادات الإغريقية والرومانية. (6) الطعام والمكانة الاجتماعية
لم يكن مبدأ المساواة في المأدبة الإغريقية متبعا بدقة كما كان يفترض. كان التابعون في المجتمع الروماني يرتبطون بحام ذي نفوذ، أما المدن الإغريقية فكان ينتشر فيها عرف المنتفعين أو المتملقين، وكان هؤلاء هم من يحضرون المأدبة دون أن يحق لهم الحضور، ولكن كانوا مضطرين لتملق صاحب المأدبة. يصور زينوفون أحد هؤلاء في كتابه «حوار المأدبة»، وفيه يصل فيليب جائعا ودون دعوة ويتوقع أن يستحق الحصول على طعامه مقابل إلقاء النكات، وحين لا تلقى نوادره فيما يبدو إعجاب أحد يلوذ بالصمت؛ لأن خطته فشلت حسبما يبدو؛ فلا يتناول الطعام بسبب فشله في تسلية الحاضرين، وفي الأحداث التالية، يقلد رقصة تؤديها إحدى الراقصات تقليدا منفرا. ونجد أن أفضل المعلقين على الحياة اليومية في أثينا إبان القرن الرابع - وهم الشعراء الهزليون - يكثر بينهم المنتفعون الذين كانوا يذلون أنفسهم بطرق مخزية شتى حتى يحق لهم الحصول على طعامهم، ويجمع أثينايوس الكثير من الأمثلة على ذلك في الجزء السادس من كتابه «مأدبة الحكماء»، وكذلك ألف الشاعر الهزلي يوبوليس مسرحية بعنوان «المتملقون» في القرن الخامس، وهي تصور مجموعة من الكسالى يستجدون كالياس الغني طمعا في طعام موائده. ونجد وصفا أكثر إيجابية لهذه الصورة من صور التفضل في كتاب «بروتاغوراس» لأفلاطون وكتاب «حوار المأدبة» لزينوفون، وفي كليهما يدعو كالياس سقراط وفلاسفة آخرين إلى مأدبة في منزله. وكان المنتفعون حاضرين فعلا في ملحمة «الأوديسا» من وجهة نظر ما؛ فقد كان المتقدمون لطلب يد بينيلوبي رجالا ذوي مقام رفيع وليسوا منتفعين، ولكنهم كانوا يأكلون من ماشية الملك أوديسيوس دون أن يقدموا شيئا مقابل ما يأكلونه، وكانوا أيضا يسيئون معاملة فئة اجتماعية أدنى من المنتفعين - وهم الشحاذون - الذين كان يحق لهم استجداء الناس طلبا للطعام من الموائد، مع أنه لم يكن يحق لهم الجلوس إلى المائدة وحضور المأدبة. وكان هؤلاء الخطاب يسيئون معاملة أفراد أسرة أوديسيوس الغائب حين كانوا يأكلون من حيواناته دون وجه حق، ويسيئون معاملة الشحاذين حين حاولوا حرمانهم من الطعام الذي لم يكن حتى ملكا لهم.
كانت ثمة وسائل أخرى لإظهار المكانة الاجتماعية الراقية، ومن أبرزها رعاية القرابين وعمليات توزيع الطعام على الأهالي؛ وهذه سمة من سمات المدن الإغريقية الهلنستية، وهي منتشرة في روما في عهديها الجمهوري والإمبراطوري، كما سجلت ذلك دوناهو (2005) (راجع الصفحات السابقة من هذا الفصل). وفي روما، كانت المآدب - سواء أكانت خاصة أم عامة - تنظم تنظيما هرميا متشددا، وهذا واضح في عمليات توزيع الطعام التي يشرف عليها الإمبراطور في ساحات واسعة، وكانت فئات مختلفة من المواطنين تتلقى فيها حصصا مختلفة من الطعام، وهو واضح كذلك في استضافة الأسياد الأغنياء للتابعين الفقراء. وقد استشهدت في موضع سابق في هذا الفصل بمثال حافل بالتفصيل عن هذا في المقطوعة الهجائية الخامسة لجوفينال، وكان المضيف يستعرض أيضا ثراءه وإحسانه بدعوة أعداد كبيرة من الضيوف إلى مأدبة، كما كان يفعل الكثير من الأباطرة الرومان، وكما رأينا فيما سبق من ديونيسوس الثاني في سيراقوسة وأنطيوخوس الرابع الظاهر في أنطاكية. ويذكر بلوتارخ في كتاب «حديث المائدة» (5، 5) أن ذلك البذخ لم يكن بالضرورة فكرة جيدة؛ وفي هذا الشأن، يجب أن نضع في اعتبارنا أن دعوة الضيوف على العشاء بمثل هذا العدد الكبير كانت دائما الاستثناء وليست القاعدة، وأنه حتى بين أفراد الطبقة الراقية، كانت مشاهد مثل بلينوس وهو يتناول الطعام مع زوجته (راجع ما يأتي) معتادة ومألوفة أكثر من الوليمة الكبيرة المقامة بغرض الإحسان. (7) الطعام والنوع الاجتماعي
كانت النساء من صاحبات المكانة الرفيعة يحضرن المأدبة الرومانية، خاصة في القصر الملكي، وغيرها من المناسبات الرسمية، ولكن يبدو أن عدد الحاضرات في المأدبة لم يكن كبيرا مثل الرجال. ويرسم كاتب السير الروماني كورنيليوس نيبوس فارقا واضحا بين العادة الإغريقية والعادة الرومانية في هذا الشأن (تمهيد 6-7):
أي روماني يخجل من إحضار زوجته إلى المأدبة الرسمية؟ أو من الذي لا يتيح لربة الأسرة أن تحتل المكان الأول في المنزل وتنتقل في الأماكن العامة؟ تختلف العادات الإغريقية في هذا الشأن اختلافا كبيرا؛ إذ لا يسمح للمرأة الإغريقية بحضور المأدبة الرسمية إلا إذا كانت مأدبة عائلية، ولا يتاح لها الجلوس إلى المائدة إلا في القسم الداخلي من المنزل.
يبدو أن هذا الكلام ينطبق على الأدلة الإغريقية؛ إذ نجد أن الشذرة 186 من ميناندر تصف مأدبة عائلية: «إنها مهمة صعبة أن يجد المرء نفسه في حفل مأدبة عائلية، وفيها يمسك الأب بالقدح ويستهل الكلام، وبعد أن يوجه النصائح إلى الشاب في مرح يأتي دور الأم بعده، ثم تتمتم الخالة العجوز ببعض الترهات على هامش الحديث، ثم يتحدث شيخ ذو صوت أجش، وهو أبو الخالة، وتعقبه امرأة عجوز تخاطب الشاب بأنه أعز من لديها بينما يومئ هو برأسه موافقا على كلامهم جميعا» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). تقدم النصوص الهزلية من القرنين الخامس والرابع أدلة على مناسبة مشتركة، ولكن ذات ترتيبات مختلفة للضيوف من الرجال والنساء في حفلات الزفاف (يوانجيلوس الشذرة 1): «أخبرتك، أربع موائد للنساء وست موائد للرجال، مأدبة كاملة ولا ينقصها شيء ...» (راجع ويلكنز 2000: 60). ويصف ديو كريسوستوم ترتيبات مشابهة في حفل الزفاف الذي أقيم في جزيرة يوبيا في القرن الثاني الميلادي (ورد ذكر ذلك في بداية الفصل). فحفلات الزفاف من المناسبات شبه العامة التي تتوافر أدلة عليها، وليست لدي فكرة عن أي دليل يثبت إقامة مآدب خاصة ويتناقض مع ما قاله نيبوس، وهو يتحدث عن النساء صاحبات المكانة الرفيعة طبعا، وليس الإماء و«الهيتاراي» (أي المحظيات)، ممن كن يحضرن في جلسة الشراب الإغريقية، كما نتناول ذلك في الفصل السادس. ويبدو أن هيرودوت قد استبق في كتابه (5، 18، 2-3) الدليل الذي يقدمه نيبوس قبل ذلك بأربعمائة عام. يذكر هيرودوت أن بعض المبعوثين الفرس يطلبون من أمينتاس المقدوني دعوة الزوجات والمحظيات لحضور المأدبة، سيرا على العادات الفارسية؛ فيقال لهم إن تلك ليست العادة المتبعة في مقدونيا (ويشمل هذا ضمنيا اليونان). ينقل بلوتارخ («حديث المائدة» 1، 1) العادة الفارسية على نحو مختلف، زاعما أن الحاضرات في جلسات الشراب كن من المحظيات لا الزوجات.
والأدلة التي تثبت حضور النساء أوقات الطعام كثيرة نسبيا. يقدم فاليريوس ماكسيموس وصفا يضفي صبغة مثالية (2، 1) على النساء الجالسات في المأدبة بجوار أزواجهن الذين كانوا متكئين. وكان يتخيل أن الإلهة جونو والإله جوبيتر يتناولان الطعام أيضا. ولكن يشير فاليريوس إلى أن الناس لم يعودوا يتبعون تلك العادة في عصره. وفي الماضي أيضا، لم يكن النساء يشربن النبيذ. وربما تكون هذه الصورة المثالية للفضيلة الواردة في كتاب «الجمهورية» ليست أكثر من مبدأ عام قائم على الورع يتناسب مع الخطاب الوعظي للعصر. وكانت الفضيلة المحافظة أيضا ممكنة في ظل حكم الأباطرة. يصف بلينوس الأصغر أمسية في المنزل مع زوجته وأصدقائه («الرسالة» 9، 36):
حين أتناول طعامي بمفردي مع زوجتي أو مع بضعة أصدقاء، يقرأ لنا أحدهم كتابا بصوت عال في أثناء ذلك، وبعدئذ نستمع إلى مسرحية كوميدية أو مقطوعة موسيقية. (ترجمه إلى الإنجليزية: راديس)
يؤكد شعراء الحب وجود النساء في المآدب، وأن منهن من كن يتعرضن للإغواء وهن برفقة أزواجهن (ماكيون 1987). ومن الصعب قراءة هذا الدليل ما دام هذا الجنس الأدبي يسعى لخلخلة أنماط السلوك المقبولة، وكثيرا ما تكون مكانة حبيبة الشاعر غير واضحة. ويصور فن الهجاء أيضا حضور النساء للمآدب، وذلك في تصوير عدائي في «المقطوعة الهجائية السادسة» لجوفينال، وفي وصف أقل عنفا في «عشاء مع تريمالكيو» من تأليف بيترونيوس. وفي أعلى مستوى اجتماعي، كانت زوجات الأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ يتناولن طعامهن في القصر الإمبراطوري (كتاب «كاليغولا» من تأليف سيوتونيوس).
وقد نتوقع أن يساعدنا في حسم هذه المسألة كل من بلوتارخ وأثينايوس، المؤلفين اللذين عاشا في القرن الثاني الميلادي ودمجا بين الكثير من جوانب السلوك الإغريقي الروماني في عالمهما الفكري، ولكنهما لا يذكران شيئا بخصوص موضوع حضور النساء في المآدب الرسمية في عصرهما؛ فلا يوجد مدعوات يحضرن مأدبة للعالمات على غرار مأدبة الحكماء.
Unknown page