بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ((1) اللهم إنا نحمدك على ما أنعمت وأعطيت، ونشكرك لما أوليت وأسديت، ونسألك الصلاة على من انتخبت ((2) وارتضيت، وانتجبت لرسالتك وارتضيت ((3)، سيدنا محمد رسولك الذي اصطفيت، الحافظ لما أوجبت، والناهض بما أمضيت، وعلى الأئمة الطاهرين أهل البيت، [صلاة] تزيد على عدد من ((4) أبقيت وأفنيت، وترفع فوق كل من ((5) اختصصت وأعليت، وأكرمت برضوانك فارتضيت، وترغب ((6) إليك في التثبت على ما أرشدت إليه وهديت، من موالاة
Page 29
من واليت، ومعاداة من عاديت ((1)، والتسليم لما ارتضيت، والرضا ((2) بما أقضيت.
وبعد: فهذا الكتاب ((3) حداني على عمله أن أحد الإخوان من أهل الإيمان شملهم الله بفضله اطلع من أمالي الشيخ المفيد (رضي الله عنه) على كتاب موسوم ب " أطراف الدلائل وأوائل المسائل " يتضمن كلاما في الإمامة، فرأى في آخره (4) بابا من أغلاط العامة، أورده الشيخ (رضي الله عنه) على طريق التعجب منهم، وضمنه يسيرا من خطأهم المحفوظ عنهم، وجعله بابا قصيرا، وقولا يسيرا، حسب ما اقتضاه غرضه [في الكتاب، من الاختصار في كل باب، فراقه وأعجبه، ولم يحب فراقه] واستطرفه واستغربه، وتأسف لقصر الباب، وتلهف على طول الخطاب، وسألني في سلوك سبيله، واتباع قصده وقوله، بكلام فصيح، وغرض كغرضه صحيح، [اتبعته] ليكون ما أورده كتابا مفردا، وفنا في الإمامة واحدا.
فأعلمته أن كتب الشيخ (5) المفيد (رحمه الله) مفاتيح الفوائد، ومصابيح المراشد، وأن السعيد من سلك أممه، ووطئ [أثر] قدمه، وقصد نهجه، واعتمد حججه، واتبع آثاره، واقتبس أنواره.
Page 30
فأما العامة فلا (١) تنحصر أغلاطهم، ولا تجتمع في الإمامة مناقضاتهم، لأن زللهم غير قليل، والتعجب منهم طويل، وكيف لا يتعجب ممن قتل الدليل، والتمس السبيل، واتهم (٢) الهداة، وطلب النجاة، وهجر (٣) اليقين، واتبع الظنون، وكره الائتلاف، ورضي الاختلاف؟!
وكيف لا يتعجب ممن يتقرب إلى الله سبحانه بمعاداة أوليائه، ويدينه بموالاة أعدائه، ويطلب طاعته من معصيته، ويلتمس ثوابه بمخالفته؟!
بل كيف لا يتعجب من قوم ادعوا الشريعة وغيروها، وانتحلوا الملة وبدلوها، وضيعوا الفرائض واختلفوا فيها، وتركوا السنة وانتسبوا إليها؟! قوم غلبتهم العصبية، وملكتهم الحمية [حمية الجاهلية]، وأضلتهم الأهواء، وضلت عنهم الآراء، فعميت أبصارهم، وصدئت أفكارهم، وتناقضت أقوالهم، وتباينت أفعالهم، [فهم] في ظلمات غيهم تائهون، وبأذيال جهلهم عاثرون، وعن الحق حائدون (٤)، وللحق معاندون، <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/0/19" target="_blank" title="سورة المجادلة: 19">﴿أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون﴾</a> (5).
وأنا متبع ما رغب فيه الأخ الرشيد، أدام الله له التسديد، من عمل هذا الكتاب، وإيراد ما حضرني (6) في فصوله من كل باب، من مناقضات القوم في الإمامة وأغلاطهم، وغلوهم في المعاندة وإفراطهم، مما يقتضي التعجب منهم، ويوجب
Page 31
الشكر لله سبحانه عن (1) الانفصال عنهم.
ومن الله أستمد (2) التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
Page 32
الفصل الأول في (1) أغلاطهم في ذكر الوصية [فمن عجيب أمرهم: أنهم قد أجمعوا معنا على حسن الوصية] وفضلها وشرفها، وحميد فعلها، وأنها [قد] تكون في المال والأهل والولد، وجميع من (2) كان يسوسه الموصي ويرعاه، وما كان [يقوم] به ويتولاه، وأن إهمالها تفريط، وتركها تضييع، وفي فعلها حسن نظر واحتياط، وجميل حزم واحتراز، وسمعوا في القرآن ذكرها، واعترفوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بها، وحث عليها، ورغب فيها، ودعا إليها. ورووا (3) عنه (صلى الله عليه وآله) أخبارا من جملتها [قوله عليه الصلاة والسلام]: " لا ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته [مكتوبة عنده " (4).
وفي خبر آخر: " إلا ووصيته] تحت رأسه " (5).
Page 33
ثم ادعوا مع ذلك أنه (صلى الله عليه وآله) مضى [من الدنيا] ولم يوص إلى أحد. [هذا] وقد كان يرعى أمته (1) ويسوسهم، ويقوم بشأنهم، ويدبر أمورهم، كما يسوس الرجل أطفاله، ويرعى أهله وعياله، ومنهم الضعفاء والأيتام، والعجائز والأطفال، الذين حاجتهم إلى سياسته، وحسن نظره ورعايته، أشد من حاجة الولد إلى والده، والعبد إلى سيده.
ثم إنه (صلى الله عليه وآله) خلف مع ذلك أهلا وأولادا، وأقارب وأزواجا، وأشياء يتنازع أهله وغيرهم [فيها] وأملاكا، وكان له حق في الخمس يحب أن يصرف إلى مستحقيه (2) [وغيرهم]، وكان عليه دين يتعين وفاءه عنه لأهله (3)، وعنده ودائع يلزم ردها إلى أربابها، وقد وعد جماعة بعدات يجب أن تقضى عنه بعده (4)، ولا يقضيها إلا وصيه، فنسبوه إلى تضييع ما حث على حفظه، والتفريط فيما أمر بالاحتياط في بابه، والزهد فيما رغب فيه أمته، وحاشا له من ذلك، بل كان (صلى الله عليه وآله) أفعل الخلق فيما (5) دعا إليه، وأسرع الناس إلى فعل ما رغب فيه، وأسبق العالمين إلى كل فضل، وأولاهم بشرائف الفعل.
ومن عجيب أمرهم: أنهم إذا طرقتهم الحجج الجلية في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يمض من الدنيا إلا عن وصية، وأنه أوصى [إلى] أمير المؤمنين [علي بن أبي طالب] (عليه السلام) دون سائر الأمة، وسمعوا تمدح أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك في كلامه وحجاجه لخصومه، وذكره [له] في خطبه على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واحتجاج
Page 34
أهل بيته (عليهم السلام) وشيعته من الأنصار بذلك في فضله، وما نظمه الشعراء فيه، وسارت [الركبان به]، مثل قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين (رضي الله عنه) في أبيات يذكر فيها فضله [حيث يقول]:
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه مذ كان في سالف الزمن (1) وقوله حين بلغه عن عائشة كلام تعيب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام):
أعائش خلي عن علي وعيبه (2) * بما ليس فيه إنما أنت والده وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهده (3) وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (رحمه الله):
وإن (4) ولي الأمر بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه وصي رسول الله حقا وصهره * وأول من صلى ومن لان جانبه (5) وقول عبد الرحمن بن حنبل (6) الجمحي لما بايع أمير المؤمنين (عليه السلام):
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة * على الدين معروف العفاف موفقا (7)
Page 35
عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجدا * صدوقا وللمختار (1) قدما مصدقا أبا حسن فارضوا به وتبايعوا * فلن (2) تجدوا فيه لذي العيب منطقا علي وصي المصطفى وابن عمه (3) * وأول من صلى لذي العرش واتقى (4) وقول (5) زفر بن زيد (6) الأسدي:
فحوطوا عليا وانصروه فإنه * وصي وفي الإسلام أول أول (7) وإن تخذلوه والحوادث جمة * فليس لكم في الأرض من متحول (8) ونحو ذلك من الأقوال التي يطول بذكرها الكلام.
قالوا عند ذلك (9):
لسنا نجحد أن عليا (عليه السلام) وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا ننكر ما قد اشتهر من شهادة القوم بوصيته، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما أوصى [إليه] بما كان [له] في
Page 36
يديه (1) ويمتلكه ويحويه، ولم يوص إليه بأمر الأمة كلها، ولا تعدت وصيته إليه أمور تركته وأهله إلى غيرها، ثم [إنهم] يدعون بعد هذا (2) أن جميع ما خلفه صدقة، وأنه لا يورث كما يورث سواه (3) من الأمة، وأن (4) فدكا والعوالي صدقة ينظر فيها الخليفة الذي (5) تختاره الأمة، ولا يجوز أن تقبل فيها شهادة من تثبت (6) له الوصية، فليت شعري بماذا أوصى إذا كان جميع ما خلفه صدقة، ولم يكن أوصى (7) بحفظ الشريعة والقيام بأمر الأمة؟ فإن هذا مما يتحير فيه ذو البصيرة، والخبرة والمعرفة (8).
Page 37
الفصل الثاني في أغلاطهم في النص ومن عجيب أمرهم: قولهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا خرج من (1) المدينة استخلف عليها وعلى من [كان] فيها من يقوم بمصالحهم [بنهضته]، ويسير فيهم بعده بسيرته، إشفاقا من إهمالهم، وفرقا من فساد أحوالهم، وكراهة لاضطرابهم وتشتتهم (2)، وإيثارا لانتظام أمرهم ومصلحتهم، وإنما أهلها [بعض] من قلد القيام بأمره، وأمر بحسن النظر [له] في سياسته وتدبيره، هذا مع قرب المسافة بينه وبينهم، وسرعة عوده إليهم، ثم إنه عند خروجه من الدنيا بوفاته، وانقطاعه عن جميع أمته بفقده، وطمع أهل الكفر والنفاق فيهم، وتطلعهم إلى اختلاف كلمتهم، وتشتت شملهم، أهمل أمرهم، وترك الاستخلاف فيهم [، وحرمهم الألطاف] بالرئاسة عليهم، ولم يحسن النظر لهم بمتقدم يخلفه فيهم!
فأمعن (3) النظر في حياته في الأمر الصغير، وحرسه من التفريط، وأهمله بعد
Page 38
وفاته في (1) الأمر الكبير، والخطب الخطير (2)، وعرضه للتضييع، إن هذا [لهو] العجب العجيب، والأمر معكوس عند كل حصيف (3) ولبيب!
ومن عجيب أمرهم: [قولهم:] (4) أن النص على علي بن أبي طالب (عليه السلام) [بالإمامة] لو كان صحيحا لاحتج به على القوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، أو احتج به (5) غيره، ولم يجز أن يهمل [هذا] الأمر، حتى لا يدور بينهم (6) في الذكر، ويقولون: إنهم [لو] كانوا ذكروه، وخاضوا فيه وتحاوروه، لنقل إلينا ما جرى، ولم يجز أن يخفى، كما [نقل ما] جرى بين المهاجرين والأنصار من المحاورة في الكلام، وما احتجت به قريش في استحقاقها [في] المقام، وفي خلو النقل من ذلك دليل على أن القوم لم يتفوهوا به، وهذا شاهد فيما زعموا ببطلانه.
فإذا قيل لهم: فمن (7) الذي منع القوم من تقديم الفاضل ونصبه رئيسا للعالم؟
ادعوا أن الجماعة علمت علة - بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) - منعت تقديمه، وأوجبت تأخيره، ولم ينطق بها ناطق، ولا تكلم فيها (8) متكلم، ولا ظهرت من قلب على لسان، ولا لفظ بها إنسان، ولا ذكر خوضهم فيها ذاكر، ولا أخبر بمفاوضتهم فيها مخبر، ولا ادعى محاورتهم فيها بشر، ولا اخترع في ذكرهم (9) لها خبر،
Page 39
وهذه مناقضة قبيحة، ومباهتة صريحة [، وعكس لأحكام العقول، وقلب للعادات عند ذوي التحصيل].
ومن عجيب أمرهم: اعتمادهم في إنكار النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) [على] أنه لو كان حقا قد أعلن به على رؤوس الأشهاد، ولنقله الخاص [منهم] والعام، ولم يقع [فيه] بين الأمة اختلاف، وقولهم: [إن] وجود الاختلاف [فيه] دلالة على أنه لم ينص عليه.
هذا مع علمهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله) نص على عبادات كثيرة وأظهرها، وأعلمها أمته وشهرها، ثم اختلفت الأمة فيها، ولم تتفق عليها.
ومن ذلك الوضوء الذي عرفهم كيفيته وشرحه، وكرر فعله بحضرتهم وأوضحه، وهو فرض عام لجميعهم، يترادف وجوبه عليهم، ويتكرر فعله منهم، فلم يتفقوا عليه، ولا صدق بعضهم بعضا فيما يروونه (1)، فمنهم من مسح أذنيه، ومنهم من أنكر ذلك وبدع فاعليه، ومنهم من مسح بعض رأسه، ومنهم من مسح جميعه، ومنهم من مسح رجليه، فقال: لا يجوز غير غسلهما، ومنهم من يروي أن الفرض غسلها، ومنهم من مسح على خفيه، ومنهم من أنكر ذلك وضلل ، وكل ذلك ينسب قوله وفعله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومن ذلك الأذان على اشتهاره بين الناس، وسماعهم له في اليوم والليلة خمس دفعات، ينادي بهم للصلاة وهم فيه وفي الإمامة على غاية الاختلاف، بين زيادة ونقصان وتبديع بعضهم بعضا في الخلاف.
ومن ذلك أحكام الصلاة التي نص لهم على جملتها وتفاصيلها، وعلمهم بالقول والفعل وكيفيتها، وكان يصلي بهم حضرا وسفرا فلم يتفقوا فيها،
Page 40
فقال بعضهم: يرفع يديه مع كل تكبيرة، وقال آخرون: إنما رفعها في تكبيرة الافتتاح، وقال بعضهم: جهر به ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال آخرون: لم يجهر بها، وقال قوم: كبر على الميت أربعا، وقال قوم: خمسا.
ونحو ذلك من العبادات التي قد نص عليها، وشهر أمرها، فلم يتفقوا فيها، ويعلمون أنه (صلى الله عليه وآله) قد حج حجة الوداع، وأعلن بما فعله فيها على رؤوس أشهاد الناس، فلم يتفقوا على صفة حجه، ولا صدق بعضهم بعضا في كيفية فعله، فمنهم من يقول: أفرد، ومنهم من يقول: قرن، ومنهم من يقول: تمتع، وقد قطع بحضرتهم السارق، ورأوا ما فعل ذلك بعد أن نص لهم على حكم القطع نصا قطع به العذر، فلم يتفقوا على مقدار ما يقطع من اليد حتى أن منهم من يقول: يقطع من أصول الأصابع، ومنهم من يقول: من الزند، ومنهم من يروي: من المرفق، ويروي قوم: من الكتف.
وغير ذلك من الخلف الذي يطول به الوصف، مما ليس يلحقه في نقله ما يلحقهم في نقل النص على الإمام، المتقدم على الأنام، لما فيه من التكلف والمشقة، للشوق إلى نيل الرئاسة على الأمة.
فمن العجب أن يكون الاختلاف في جميع ما ذكرناه من هذه العبادات ليس بدلالة على أنه لم ينص عليها ويكون الاختلاف في النص على الإمام دلالة على أنه لم ينص عليه، وهل هذا إلا تجاهل من الخصوم!؟
ومن عجيب أمرهم، وظاهر مناقضتهم: قولهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان نص بالإمامة على رجل بعينه، وشهر بين الأمة شخصه، وأمرهم بطاعته، لم يقع من الصحابة بعد وفاته خلاف أمره، ولا استجازوا مع تقدمهم وفضلهم أن يؤخروا من قدمه، ويعملوا برأيهم الذي يلوح لهم، ويتركوا رأيه، ولا يجوز أن يحدثوا أمرا
Page 41
يقتضي ترك امتثال أوامره.
فإذا قيل لهم: أفلستم مجمعين على أنه (صلى الله عليه وآله) عند وفاته نص على أمارة أسامة بن زيد، وقدمه وعقده على طائفة من وجوه الصحابة، وفرض عليهم طاعته، وأمرهم بالتوجه معه إلى حيث بعثه، وأكد أمره، وحث على تنفيذه، ونادى دفعة بعد دفعة: " أنفذوا جيش أسامة " (1)، ولعن المتخلفين عنه وفيهم أبو بكر وعمر، فلم استدركوا رأيه؟
قالوا: حدث أمر اقتضى ذلك، وبحدوث أحوال علمها الحاضرون، وهذه مناقضة من غلب عقله العصبية!
ومن العجب: استبعادهم مخالفة أكثر الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أوجبه عليهم من طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وترك اتباع من نصبه قدوة للأنام، مع علمهم بخلاف جميع قوم موسى أخاه هارون، واقتدائهم بسواه، وعبادتهم العجل من دون الله، وهارون بينهم يذكرهم الله ويخوفهم، هذا مع ميل أولئك إلى هارون، ونفور هؤلاء من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن أولئك خالفوا دليل العقل الذي لا يحتمل التأويل، وهؤلاء خالفوا دليل النص إلى ضرب من التأويل، فما هذا الاستبعاد لولا العصبية والعناد!
ومن عجيب أمرهم: أنهم إذا سمعوا الشيعة تحتج في صحة النص الجلي على
Page 42
أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتواتر الذي نقله الخلف منهم عن السلف، استضعفوا هذه الطريقة، ودفعوا أن تكون دلالة، وبمثلها احتج المسلمون في تثبيت معجزات النبي (صلى الله عليه وآله)، والتحدي بكتاب الله سبحانه، ويزعمون أن هذا النص لو كان حقا، وقد ورد متواترا، لعلمت صحته ضرورة، وهذا بعينه قول الكفار في إنكار التحدي والمعجزات التي ورد بذكرها متواتر الأخبار، ويقولون: لو كان ما تدعون من النص حقا لنقله الكافة، وهم يعلمون أن هذا قول من جحد الملة في إنكار ما كان لنبينا من معجز وآية، ويحيلون جواز الكتمان على الكثرة مع معرفتهم بانتفاء طريق الكفار والملاحدة، ويقولون: إنكم معاشر الشيعة وإن كنتم اليوم لاحقين بالمتواترين في الكثرة فإنكم نقلتم في الأصل عن قلة، ولا يشكون في أن هذا قول الكفار لأهل الملة، كل ذلك لقلة التأمل والنصفة، وعدم التوفيق والمعرفة.
ومن عجيب أمرهم: قولهم: كيف خص الله من تشيرون إليه بالنص بالإمامة، وما سبب هذا التميز، وهل هو بفضل منحصر (١) أم استحقاق أوجبه؟ وينسون أن ذلك عائد عليهم في الأنبياء وتقديم الله تعالى على الأنام، هذا مع ما يطرق أسماعهم من قول الله سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/0/105" target="_blank" title="سورة البقرة: 105">﴿والله يختص برحمته من يشاء﴾</a> (2).
ومن عجيب الأمور: أنهم يستصغرون الكلام في النص إذا رمنا إثباته، ويستعظمونه إذا] (3) راموا بطلانه، فيقولون لمن يثبته: ما هذه العناية المفرطة بهذا الأمر، وإنما هو مسألة فرع، والخلف فيها غير قادح في الأصل، ولا موجب
Page 43
لفسق (1) ولا كفر، وهي كسائر مسائل الفقه؟ وما الحاجة [إلى] النص على إمام والأمة (2) تقيم لأنفسها من تشاء وتختار؟ ويستصغرون الكلام في النص على هذا غاية الاستصغار، ويزهدون الأصاغر في الاطلاع عليه (3)، ويقللون فائدته [عند المتشوق] إليه، حتى إذا تكلموا في إبطاله عظموا الأمر، وقحموا (4) الخلف وقالوا: هذه المسألة قطب الشريعة، وأصل عظيم في الملة، ومن خالفنا فيها فقد خرج عن الجماعة ودخل في [أهل] البدعة، ولهذا لا يعدون (5) قول من أثبت النص خلافا بين الأمة، ويحذرون من [قبول] قول الشيعة، ويوهمون المسترشدين أن (6) القول بالنص قدح في الشريعة، كل ذلك قلة ديانة، وكثرة خيانة، وبرهان عصبية، ودليل ألف للباطل [وحمية].
Page 44
الفصل الثالث في (١) أغلاطهم في الاختيار ومن عجيب أمرهم: اعترافهم بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مشفقا على (٢) أمته، رؤوفا بمعتقدي (٣) شريعته، مجتهدا في مصالحهم، حريصا على منافعهم، لا يقف في ذلك دون غاية، ولا يقصر عن نهاية، وبهذا وصفه الله تعالى في كتابه حيث يقول جل اسمه: [أعوذ بالله من الشيطان الرجيم] <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/0/128" target="_blank" title="سورة التوبة: 128">﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾</a> (4)، ثم يزعمون أنه مع ذلك مضى من الدنيا ولم يختر لأمته [إماما]، ولا استخلف عليهم (5) رئيسا، وعول عليهم في اختيار الإمام، وتقديمه على الأنام، مع علمه بأن اختيارهم لا يبلغ اختياره، ورأيهم لا يلحق رأيه، إذ كان أبصر [منهم]
Page 45
بمصالحهم، وأعلم بعواقبهم، وأعرف بمن ينتظم به أمرهم، وينصلح بإقامته شأنهم، فنسبوه (1) (صلى الله عليه وآله) إلى أنه حرمهم اختياره المقرون بالصواب، واقتصر بهم على اختيارهم الذي لا يؤمن معه [من] الفساد، وقد نزهه الله تعالى عن هذه (2) الحال، ورفعه عما يدعيه [أهل] الضلال.
ومن عجيب أمرهم: أنهم يعترفون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يرد قط إلى أمته، ولا إلى أحد منها في حياته اختيار الرؤساء، ولا تأمير الأمراء، وأنه كان المتولي بنفسه استخلاف من يستخلفه، وتأمير من يؤمره على مدينته ورعاياه، وجيوشه وسراياه، حتى أنفذ سريته إلى مؤتة (3) قدم جعفرا (رضي الله عنه) وقال للناس: " إن أصيب فأميركم زيد بن حارثة، وإن (4) أصيب فأميركم عبد الله بن رواحة " (5)، من غير أن رد إليهم الاختيار، ولا كلفهم ولا أحدا منهم هذه الحال، ثم يدعون مع هذا أنه وكل إليهم عند مفارقته لهم بالوفاة اختيار الإمام، وإقامة رئيس للأنام، وكلفهم من ذلك بعد وفاته ما لم يكلفهموه في أيام حياته، وهو لو امتحنهم في أيامه فزلوا، و [لو] كلفهموه فغلطوا، كان يتدارك فارطهم بيمنه، ويصلح ما أفسدوه ببركته ورأيه، وليس (6) كذلك من بعده لأنهم لو غلطوا بتقديم من يجب تأخيره وتأخير
Page 46
من يجب تقديمه لم يجدوا من يتلافى فارطهم، ويتدارك زللهم، ويصرف عنهم (1) من قد ملكوه أمرهم، وعظم به ضررهم.
ومن عجيب أمرهم: أنهم يعترفون بأن الأمة ليس لها أن تمضي حكما، ولا تقيم على أحد حدا، ولا تنفذ جيشا، ويزعمون أن لها أن تجعل هذه [الأمور] لأحدها، وترد إليه [ما لم] يرد إليها، وتملكه من الشريعة أشياء لا تملكها، من غير أن يأذن لها في ذلك مالكها، وهذا من أطرف الأمور وأعجبها!
ومن عجيب أمرهم: أنهم فيما ذهبوا إليه من الاختيار قد أجازوا إهمال أمر [هذه] الأمة إلى أن يختار علماؤها واحدا، مع أنه (2) لو اختار أهل مدن مختلفة عدة أئمة وجب عندهم أن يقف أمرهم إلى أن ينظروا من الأولى منهم فيقدموه، ويبطلوا إمامة من سواه ويسقطوه، فإن كان قد عقد لهم في وقت واحد سقطت إمامتهم [كلهم، فأباحوا بهذا ترك الناس في هذه] المهلة (3) بغير إمام، وربما تراخت وطالت واضطرب فيها أمر الأمة، وضاعت وحدثت أمور لا مدبر لها، وتولدت مضارا عامة لا مصلح لفاسدها.
وقيل لهم على (4) هذا الرأي: لم لا يصبر (5) أصحاب السقيفة عن المبادرة بالعقد لإمام، والمسارعة التي انفردوا بها عن الأنام ريثما يفرغ بنو هاشم من تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6) ومواراته، وقضاء مفترض حقه في مراعاته، حتى إذا
Page 47
انتجزت هذه الحال حضروا معهم العقد فشاركوهم في الرأي والأمر، فإنهم إن لم يكونوا أخص بهذا الأمر [منهم] فهم فيه شركاءهم، ونصيبهم منه على أقل الوجوه نصيبهم، فقالوا: إنما فعلوا ذلك مبادرة بالأمر الذي يخشى فواته، ويخاف المضرة بتأخيره، مع العلم العام بأنهم ما اضطروا في ذلك الوقت إلى هذا البدار، ولم تختلف الكلمة لولا ما فعلوه اختلافا يعظم به المضار، ولا قصدهم من الأعداء قاصد، ولا أحاط بهم عدو معاند، فما هذه العجلة والبدار، مع ما حكيناه عنهم في شرائط الاختيار، لولا أن القوم اغتنموا الفرصة فانتهزوها، وبادروا المكنة فاختلسوها، وإن مصوبتهم ناقضوا فعلهم، وناصريهم (1) أوضحوا زللهم [، مع أن رأيهم في الاختيار وما ساقهم إليه أحكام التقية في هذا الزمان المخلة بنصبة الإمام، قد أداهم إلى إهمال أمر الأمة وتركهم بغير إمام].
ومن عجيب أمرهم: قولهم: إن اختيار الأمة إلى العلماء، وأن الجماعة [التي] تختارهم [من] (2) الذين لا يغلطون في اختيارهم [ولا يخطئون في أخبارهم]، ويعلمون مع هذا أن أبا بكر اختاره أبو عبيدة [بن الجراح وعمر بن الخطاب]، وأن عمر اختاره أبو بكر، وأن عثمان اختاره عبد الرحمن (3)، وليس فيهم من حصل [في اختياره] الشرط الذي ذكروا.
Page 48