Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Genres
أيها السادة:
إن التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للترجمة فوق ما قدمنا أنه كان يعتنق مذهب الحريين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضا؛ لأنه لو كان اشتراكيا في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل كان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية.
ولو شئنا أن نبين عقائد فتحي باشا من منتجاته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام، ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أن بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحري في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبا متصلا جد الاتصال.
حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أن فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء، فكما أنه ابتدأ في خدمة العلم الابتداء الطبيعي، وهو نقل العلم إلى البلاد، كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تمدنت من قبلنا؛ ولا شك في أن إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجة اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه.
من ذلك نأخذ أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة، إنه كان يكره الثورة، يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها، فكما إنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه، كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب، تكمل ما فيها من نقص وتقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية، فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة، فلقد نشرها بالترجمة والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب، بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك، من شأنه أن يكون شقيا بغرضين معذبا ضعفين، يكاد لا يكون له من وقته شيء، فهو يقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم، يعمل لها بالتأليف والترجمة شطر الليل وأحيانا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة فيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غدا.
نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين.
يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية، كلا! إن فتحي باشا على ذلك كان مترفا في عيشته متأنقا في مظاهرها المختلفة، كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه، ولا رد لزيارة ولا مؤاساة معارفه في أحزانهم، كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس، ولا تلوي به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التحف والطرف وتعرف أوضاع الجمال حيث كان، رحمه الله، كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلا غاية في الوداعة والظرف.
من ذلك يظهر لي أن فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلا واحدا من حقه أن يكون متعادلا في جميع مظاهره، وأن اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره، حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لملكة أخرى، ولا شك في أن خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية ملكات الإنسان وقواه بنسبة واحدة.
كذلك كان فتحي باشا، وعلى هذا كنا نراه في شئونه، غير أن الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضا، فإنه يظهر لنا من جهة أخرى أنه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية.
Unknown page