علي الطنطاوي
صور وخواطر
طبعة جديدة
راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنار
للنشر والتوزيع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة العاشرة
٢٠١١
دار المنار
للنشر والتوزيع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
1 / 4
مقدمة طبعة دار المنارة
بخط المؤلف ﵀
بسم الله وبحمده أصدّر هذه الطبعة الجديدة من كتابي «صور وخواطر»؛ وأسأل الله أن يستمر طبعُه وأن يدوم النفع به، وأن يكتب لي الثواب عليه وأن يجزي ناشره خيرًا.
علي الطنطاوي
مكة المكرمة
غرة شوال ١٤٠٨
1 / 5
عام جديد
نشرت سنة ١٩٦٦ (١)
لمّا قعدت أكتب هذا الفصل لم يكن في ذهني شيء عن الموضوع الذي أكتب فيه، ولكني نظرت في التقويم المعلَّق بالجدار فوجدت الموضوع؛ الموضوع أول المحرّم.
أفيمُرّ بكم أول المحرم كما يمر غيره من الأيام، وفي صبيحته وُلد عام وفي ليلته قضى عام؟
يجتاز المسافر مرحلة من الطريق فيحطّ الرحال ويقف ليستريح، فيتلفَّتُ وراءه ليرى كم قطع وينظر أمامه ليبصر كم بقي. والتاجر تنتهي سنته، فيقيم موازينه ويحسب غلته ليعلم ماذا ربح وماذا خسر. وهذه «محطة» جديدة نقف فيها ونحن نسير على طريق الحياة، وسنة أخرى تمضي من العمر، أفلا نقف عليها ساعة نفكر ونذكر ونحسب ونعتبر؟
_________
(١) لم تكن هذه المقالة في الطبعة الأولى من كتاب «صور وخواطر» التي صدرت سنة ١٩٥٨، وإنما أضافها إليه مؤلفه في طبعة لاحقة، وأصلها حديث حدّثَ به من إذاعة «صوت الإسلام» ثم نشره في مجلة «الوعي الإسلامي» (مجاهد).
1 / 7
نحن اليوم في أول المحرم من سنة ست وثمانين وثلاثمئة وألف، ننظر إليه في الفجر فنراه يومًا طويلًا يمتد أمامنا، نستطيع أن نعمل فيه ما نشاء، نستمتع فيه -إن أردنا- بدنيانا، ونحمّله ما نريد حمله من الزاد إلى أُخرانا، فإذا أمسى المساء وذهب اليوم لم نعد نستطيع أن نستفيد منه ولا أن نستمتع فيه. نظنّه باقيًا لنا، فنُبَذّر في دقائقه كما يُبَذّر المسرف في ماله، ونضيع ساعاته، ولكنا لا نجده حتى نفقده. إنه لا يكاد يبدأ حتى ينتهي، ثم يمضي فلا يعود أبدًا.
اذكروا الآن أول يوم من المحرم سنة خمس وثمانين. لقد كنا نراه أيضًا ونحن نستقبله طويلًا، وكنا نقدر أن نصنع فيه خيرًا كثيرًا، فأين هو منا اليوم؟ وأين الأول من المحرم سنة أربع وثمانين؟ وأين أوائل المحرَّمات التي مرت بنا أو مررنا نحن بها من قبل؟ ماذا بقي منها في أيدينا؟
تمضي السنة وتجيء أخرى بعدها، فمَن لم يعمل خيرًا فيها عمله في التي تليها. إن فاتك عمل الخير في النهار فعندك الليل خِلْفَة منه، فاعمل الخير فيه. مواسم متتابعة، إن أضعت الموسم فلم تزرع فيه فازرع في الذي يليه، وإن رسبت في الامتحان في دورة حزيران فعندك دورة أيلول.
هي خلفة لك ما بقيت حيًا، ولكن هل تعلم كم تبقى حيًا؟
* * *
ينقضي العام فتظن أنك عشته، وأنت في الحقيقة قَدْ مِتَّه! لا تعجبوا من هذا المقال ودعوني أوضح الفكرة بالمثال: أنت
1 / 8
كالموظف الذي مُنح إجازته السنوية شهرًا كاملًا، إذا قضى فيها عشرة أيام يكون قد خسر منها عشرة أيام فصار الشهر عشرين، فإذا مرَّ عشرون صار الشهر عشرًا، فإذا تم الشهر انقضت الإجازة فكأنها لم تكن.
أتظنون أني «أتفلسف»؟ لا والله، بل أصف الواقع. نحن كلما ازداد عمر الواحد منا سنة في العَدّ نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفد العمر ويأتي الأجل، ونستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت.
فتحت كتابي «من حديث النفس» فقرأت فيه فصلًا نشرته في العدد الممتاز من مجلة الرسالة في مطلع سنة ١٩٣٨، عنوانه: «على أبواب الثلاثين»، لو تصورت يومئذ أني سأقرؤه في مطلع سنة ١٩٦٦ لتراءى لعيني دهر طويل. ثمان وعشرون سنة، أنظر إليها الآن بعدما مَرَّتْ فأراها كأنها يوم وليلة. ولو نظرت الآن إلى ما بعد ثمان وعشرين سنة، إلى سنة ١٩٩٤، لرأيتها بعيدة جدًا، ولكن من يقرأ هذا الفصل يومئذ سيرى سنتنا هذه كأنما كانت بالأمس.
فنحن نوسع المستقبل بالأمل.
* * *
وما هذا المستقبل الذي نسعى إليه ونَكِدُّ من أجله؟
لما كنت طالبًا كان مستقبلي في نيل الشهادة، فلما نلتها صار المستقبل في الوصول إلى الوظيفة، فلما وصلت إليها صار
1 / 9
المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحَفَدة صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدَّخَر، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تمَّ لي -بفضل الله- ذلك كله لم يبقَ لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينوّر الله بصيرتي ويريني طريقي فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإنّي لَفي غفلة عنها.
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له؛ إنه يوم لن يأتي أبدًا، لأنه إن جاء صار حاضرًا وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه -كما قلت مرة- مثل حزمة الحشيش المعلَّقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبدًا.
إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟
وقد يكون هذا الذي أقوله فلسفة، ولكنها فلسفة واقعة، إنها حقائق لا يفكر فيها أحدٌ منّا. نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همّه الغرفة الجميلة أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ويَصْفَح الجرائد والمجلات، ينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد، ولكن هذا كله لأيام السفر، وأيام السفر معدودة. أفما كان خيرًا له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟ أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفّر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟ أم قد شغلته متعةُ السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمالُ الطريق عن غاية الطريق؟
1 / 10
الحياة سفر، فكم من الناس يسأل نفسه: لِمَ السفر؟ وإلى أين الرحيل؟ كم منا من يسأل: ما الحياة؟ ولماذا خُلقنا؟ وإلامَ المصير؟
إننا نقطع الوقت من الصباح إلى المساء في مشاغل نخترعها لننسى بها أنفسنا ونبدّد بها أعمارنا؛ من أحاديث تافهة، ومجالس فارغة، ومطالعات في كتب لا تنفع أو نظرات في مجلات لا تفيد، فإن خلا أحدنا بنفسه ثَقُلت عليه صحبة نفسه وحاول الهرب منها، كأن نفسه عدوٌّ له لا يطيق مجالسته، فهو يضيق بها ويفتّش عما يشغله عنها، وكأن عمره عبء عليه، فهو يحاول أن يلقيه عن عاتقه وأن يتخلص منه.
نَفِرُّ من نفوسنا ونبدد أعمارنا في لذائذ نتوهمها ونسعى وراءها، ولكنّا لا ننالها.
لما كنت أشرف على طبع كتاب ابن الجوزي، «صيد الخاطر»، الذي قَدَّمتُ له وعلقت عليه، وجدت فيه كلمة عظيمة يقول فيها: "إن لذائذ الدنيا نماذج تُعرَض ولا تُقبَض". نماذج للعرض والإعلان لا للبيع والاقتناء، فأنت تُسَرّ برؤيتها ولكن لا تقدر على امتلاكها.
خذوا أكبر لذات الدنيا، اللذة المعروفة، تروا أنها ليست في الحقيقة إلا لحظة، دقيقة أو دقيقتين، لا تكاد تحس بأنك قد وصلت إليها حتى تجد أنك قد فقدتها. إنها ليست إلا نموذجًا مصغَّرًا للذة الآخرة، فما يستمر هنا دقيقة فقط يدوم هناك إلى الأبد. إنك فيها كمن يعطى ملعقة من الطعام ليذوقه ويجد طعمه
1 / 11
في حلقه، فإذا ارتضاه اشترى منه فأكل حتى شبع ... فالذواق في الدنيا والشبع في الآخرة.
لذلك ترى الرجل الفاسق يشكو الجوع الجنسي مهما ذاق من الحرام. يعرف مئة من النساء، ثم يرى الواحدة بعد المئة فتطلبها نفسه كأنه ما عرف امرأة قط! ولا يزال كذلك حتى يعجز جسده ولا تكلّ رغبته، فهو كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شربًا ازداد عطشًا.
ومثلها لذة المال. إن الفقير الذي ينام في كوخ الطين ويأكل خبز الشعير، ويمشي بالحذاء البالي أو يركب عربة النقل التي يجرها الحمار، يتصور أنه لو نام يومًا على فراش الغني أو أكل على مائدته أو ركب في سيارته لنال اللذائذ كلها. ولكن الغني الذي أَلِفَ ذلك لم يعد يجد فيه لذة، بل يجد الألم إن فقد منه شيئًا. والشاب المغمور يتمنى أن يكون علمًا مشهورًا تردد الإذاعات اسمه وتنشر الصحف رسمه ويتحدث الناس عنه، ولكن العالم المشهور الذي ألف ذلك لم يعد يهتم به ولا يباليه.
إن لذّات الدنيا مثل السراب. ألا تعرفون السراب؟ تراه من بعيد غديرًا، فإذا جئته لم تجد إلا الصحراء، فهو ماء ولكن من بعيد!
* * *
عفوًا يا سادتي القراء إن جئت أعظكم وأزهّدكم، فما أردت وعظًا ولا تزهيدًا، وما أنا من الوُعّاظ الزُّهّاد، ولكنها خواطر أثارها في نفسي أننا في اليوم الأول من المحرم، وأني وقفت كما يقف المسافر وقعدت أحسب كما يحسب التاجر.
1 / 12
إني أنظر إلى حياتنا هذه التي نعيشها، فأرانا فيها كموكب من السيارات تمضي مجنونة مسرعة متسابقة، هَمُّ كل واحدة أن تسبق الأخرى وتخلفها وراءها. ولكن لو سألت سُوّاقها إلى أين يسيرون ولماذا يسرعون لما وجدت عندهم جوابًا.
سباق إلى المال، سباق إلى اللذات، سباق إلى الوظائف، سباق في كل طريق من طرق الحياة ... ثم ينتهي العمر، فنترك كل ما استبقنا إليه ونمضي. فلنقف لحظات في مطلع كل عام لنسائل أنفسنا: ما الذي نربحه من هذا السباق؟ أوَليس الربح الحق في جهة أخرى غير الجهة التي يتجه الناس كلهم إليها ويحسبون أن الربح المقصود فيها؟
إن هذا اليوم نذير لنا بأن السنة المقبلة ستمضي كما مضت السنوات السابقة، وأن كل واحدة منها تحمل معها جزءًا من أعمارنا، حتى تنفد أعمارنا. فلنتدارك ما بقي، ولنكن يومًا واحدًا في السنة من المتناصحين ومن المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر.
إنكم تقرؤون في المجلات كلامًا كثيرًا، كلامًا جليلًا يزيد ثقافة عقولكم، وكلامًا جميلًا يُدخل البهجة على قلوبكم. وكل هذا خير، ولكن خيرًا منه أن تسمعوا كلمة تذكركم أخراكم وتنفعكم يوم العرض على ربكم. وما أصلح -والله- لأن أقول أنا هذه الكلمة، وأنا إلى أن أُوعَظ فأتّعظ أحوج مني إلى أن أعظ، ولكن «على مدير الكاس أن ينهى الجُلاّس».
لما أردت أن أسافر إلى جدة من بيروت قعدت في مطعم
1 / 13
المطار أفطر وأنتظر، وكان المطعم ممتلئًا، وكل من فيه يأكل ويشرب ويتحدث مثلما كنت آكل وأشرب وأتحدث، تراهم فتحسبهم أصدقاء متلازمين لا يفترقون وأنّ شَمْلَهم جميع لا يتشتّت، ولكن مطار بيروت (الذي تحط فيه كل ربع ساعة طيارة وتقوم منه طيارة) لا يلبث الصوت أن يخرج منه ينادي من المكبِّر: ركاب طائرة «BOAC» المسافرة إلى لندن يتوجهون إلى أرض المطار. فتترك أكلَها وشربها جماعةٌ من الحاضرين وتقوم. ثم ينادي: ركاب طائرة «KLM» المسافرة إلى جاكرتا، فيترك ناسٌ أكلَهم وشربهم ويقومون. وطائرة إلى أميركا، وأخرى إلى الكونغو، وثالثة إلى إيران، ورابعة إلى موسكو ...
فنظرت في الناس وقلت لأخي (وكان معي): هذه هي حياتنا؛ نعكف على طعامنا وشرابنا ومشاغل عيشتنا، وإذا بالنداء يدعو مَن جاء دوره ليذهب إلى حيث يُحمَل، إما إلى غابات إفريقيا وإما إلى ثلج سيبيريا، وإما إلى ملاهي باريس ومشاهد نيويورك. فمَن كان مستعدًا للسفر، حاجاته مَقْضِيَّة وحقائبه مُعَدَّة وحمله خفيف، مضى مستريح البال، ومَن جاء دوره وهو لم يعد متاعه ولم يقضِ حاجته ذهب بلا زاد ومضى على غير استعداد.
أفلا نستعدّ للسَّفْرة التي لا بد منها، ونتزود بها الزاد الذي لا ينفع غيره فيها؟ أم نحن نتناسى الموتَ وهو أمامنا، نظنه أبعد شيء عنا وهو أقرب الأشياء منا، نصلّي على الأموات ونشيّع الجنائز ونحن نفكر في أمور الدنيا، كأنّا مُخَلَّدون فيها وكأن الموت كُتب على الناس كلهم إلا علينا؟
* * *
1 / 14
يا إخوتي القراء: إننا نعيش الأيام كلها في غفلة، فلننتبه اليوم، ولنقف كما يقف المسافر على المحطة، ينظر كم قطع من الطريق وكم بقي عليه منه. ولنفتح دفاترنا كما يفتح دفاترَه التاجرُ، لنرى ماذا ربحنا في سنتنا التي مضت وماذا خسرنا. ولنَمُدَّ أيدينا فنقول: يا ربنا، اغفر لنا ما سلف ووفقنا فيما بقي.
اللهم إذا كتبت لنا أن نعيش إلى مثل هذا اليوم من قابل، فاجعل ما يأتي خيرًا لنا وللمسلمين مما ذهب، وإلا فاكتب لنا بفضلك وكرمك حسنَ الخاتمة، واغفر لنا ذنوبنا، وكفِّرْ عنّا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار.
* * *
1 / 15
السّعادة
نشرت سنة ١٩٤٨
كنت أقرأ في ترجمة كانْت، الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك فأزعجه عن عمله وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقًا له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدّثه عن هذا الديك وما كان يلقى منه من إزعاج وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكّر في أمان واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته ولم يزعجه صياحه.
ودخل الخادم بالطعام، وقال معتذرًا إن الجار أبى أن يبيع ديكه فاشترى غيره من السوق، فانتبه كانْت، فإذا الديك لا يزال يصيح!
فكّرتُ في هذا الفيلسوف العظيم، فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح وسَعِدَ به وهو لا يزال يصيح، ما تبدّل الواقع، ما تبدّل إلا نفسه؛ فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته. وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي
1 / 17
إليها من غير طريقها ونَلِجُها من غير بابها؟
إننا نريد أن نذبح «الديك» لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مئة ديك لأن الأرض مملوءة بالدِّيَكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسدّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدّ أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تُسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة وخطوة على ثراها خفيفة، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي ولا صوت القطار وهو يهتزّ بي، فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك، وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟
ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقتَه أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وإن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجَّهْتَ إلى هذا حسَّك وأغفلت ذلك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات. فلماذا لا تصرف حسّك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك، ولكن ما
1 / 18
أدخلته أنت برضاك وقبلته باختيارك، كما يُدخل الملكُ العدوَّ قلعتَه بثغرة يتركها في سورها! فلماذا لا نقوّي نفوسنا حتى نتخذ منها سورًا دون الآلام؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: فلسفة وأوهام. نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانًا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام: يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحِمْلَ الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنّي فكأنه ما حمل شيئًا! ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرضَ الواحد، فيتشاءم هذا ويخاف ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه، فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويُحكَم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا ويفزع فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلتُه لم يقتله قبل الموت وهمه.
وهذا بسمارك، رجل الدم والحديد وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدَّخينة من الدخينة نهارَه كله، فإذا افتقدها خلَّ فكره وساء تدبيره. وكان يومًا في حرب، فنظر فلم يجد معه إلاّ دخينة واحدة لم يصل إلى غيرها، فأخّرها إلى اللحظة التي يشتدّ عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعًا كاملًا من غير دخان صابرًا عنه أملًا بهذه الدخينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
1 / 19
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أُصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعبانًا، فراجع الأطباء وسأل الحكماء، فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق. حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب بصير بالنفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مُسْهلًا وأدخله المُستراح (المرحاض) -وكان قد وضع له فيه ثعبانًا ميتًا- فلما رآه أشرق وجهه ونشط جسمه وأحسّ بالعافية، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملًا على نفسه يلهث إعياء ويئن ويتوجع. ولم يمرض بعد ذلك أبدًا.
ما شُفي الشيخ لأن ثعبانًا كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار (١)، لأنه أيقظ قُوى نفسه التي كانت نائمة. وإن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى فيوقظها الخوف أو الفرح. ألم يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تُقبل عليه ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسيًا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره أو كتابًا مستعجَلًا من الوزير
_________
(١) انظر مقالة «مرضى الوهم» في كتاب «فصول اجتماعية»، وفيها تفصيل لهذا الإجمال وفيها حكايات مشابهة (مجاهد).
1 / 20
يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحسّ الخفة والشبع، وعدا عدوًا إلى المحطة أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة، تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيًا عذبًا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة والسواقي العَكِرة.
* * *
يا أيها القراء: إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهدًا فيها واحتقارًا لها.
يُصاب أحدكم بصداع أو مغص أو بوجع الضرس فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يَرَها -لمّا كان صحيحًا- بيضاء مُشرقة؟ ويُحمى عن الطعام ويُمنَع منه فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم ويحسد من يأكلها، فلماذا لم يعرف لها لذّتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟ لماذا يبكي الشيخ على شبابه ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنا، ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متَّشِحة بضباب المستقبل؟ كلٌّ يبكي ماضيه ويَحِنُّ إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟
أيها السادة والسيدات: إنّا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤتَى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لمّا نظر من شُبّاكه
1 / 21
إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًا؟
فلماذا لا تقدّرون ثمن الصحة؟ أما للصحّة ثمن؟ من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مئة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي؟ (١) أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا، فلما رأى ما فيه ارتَدّ يأسًا وسقط إعياء. لقد رآه مملوءًا بالذهب!
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا أنه سأل ربه أن يحوّل كل ما مسته يده ذهبًا، ومس الحجر فصار ذهبًا، فكاد يُجَنّ من فرحته لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل، فمَسّ الطعام فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهبًا ... فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب.
وروتشلد الذي دخل خزانةَ ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها فمات غريقًا في بحر من الذهب!
* * *
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟
_________
(١) الشربتلي أحد أثرياء مدينة جدة المعروفين.
1 / 22
أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به والوقت يمر، أيامه ساعات وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتِبرًا، واستفدت من كل لحظة، حتى لقد كتبت أكثره في محطة «باب اللوق» (١) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها!
فلو أني فكرت -كلما وقفت أنتظر الترام- بشيء أكتبه (وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها) لربحت شيئًا كثيرًا. ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلّم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب «قواعد التحديث» للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب. والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا (٢)، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمَرَ مَن يتلو عليه شيئًا
_________
(١) في مصر، وقد كنت سنة ١٩٤٧ مقيمًا فيها.
(٢) انظر فصل «ابن عابدين ورسائله» في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» (مجاهد).
1 / 23
من العلم، فألّف الحاشية. والسَّرَخْسي أملى وهو محبوس في الجُبّ كتابه «المبسوط»، أجَلّ كتب الفقه في الدنيا (١).
وأنا أعجب ممّن يشكو ضيق الوقت. وهل يضيّق الوقتَ إلا الغفلةُ أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنه لو قرأ مثله، لا أقول كل ليلة بل كل أسبوع، لكان علاّمة الدنيا. بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتابًا واحدًا كـ «نهاية الأرَب» أو «لسان العرب» وانظروا: هل يستطيع واحدٌ منكم أن يصبر على قراءته كله ونَسْخه مرة واحدة بخطه، فضلًا عن تأليف مثله من عنده؟
* * *
والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكّن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكّركم بشيء قريب منكم سهل عليكم هو الحفظ. إنكم تسمعون قصة البخاري لمّا امتحنوه بمئة حديث خلطوا متونَها وأَسْنادَها، فأعاد المئة بخطئها وصوابها! (٢) والشافعي لما كتب مجلس مالك
_________
(١) «المبسوط» هو أوسع كتب الأحناف، وهو شرح «الكافي» للحاكم الشهيد. وكان السَّرَخْسي محبوسًا لمّا ألَّفَه، حبسه في الجُبّ خاقانُ أوزجَنْد بسبب كلمة حق نصحه بها (مجاهد).
(٢) القصة جميلة فلا تفوّتوا قراءتها، وهي في مقالة «أمير المؤمنين في الحديث»، في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).
1 / 24