ملحق بالمقدمة
أشعار التيفاشي
(1)
- 1 -
نبه نديمك أن الليل قد صخبا ... والليل قوض من تخييمه الطنبا
والفجر في كبد الليل السقيم حكى ... سر المتيم عن إخفائه غلبا
كأنه بظلام الليل ممتزجا ... سمراء تفتر أبدت مبسما شنبا
كأنما الفجر زند قادح شررا ... في فحمة الليل لاقي الفحم والتهبا
كأن أول فجر فارس حملت ... راياته البيض في إثر الدجى فكبا
كأن ثاني فجر غرة وضحت ... تسيل في وجه طرف أدهم وثبا (الوافي 8: 289)
- 2 -
سعد الغرب وازدهى الشرق عجبا ... وابتهاجا بمغرب ابن سعيد
طلعت شمسه من الغرب تجلى ... فأقامت قيامة التقييد
لم يدع للمؤرخين مقالا ... لا ولا للرواة بيت نشيد
أن تلاه على الحمام تغنت ... ما على ذا في حسنه من مزيد (بغية الطلب 2: 160 ونفح الطيب 2: 325)
Page 38
- 3 -
يا طيب الأصل والفرع الذكي كما ... يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر
ومن خلائقه مثل النسيم إذا ... يهفو على الزهر حول النهر في السحر
ومن محياه والله الشهيد إذا ... يبدو إلى بصري أبهى من القمر
أثقلت ظهري ببر لا أقوم به ... لو كنت أتلوه قرآنا مع السور
أهدت لي الغرب مجموعا بعالمه ... في قاب قوسين بين السمع والبصر
كأنني الآن قد شاهدت أجمعه ... بكل من فيه من بدو ومن حضر
نعم ولاقيت أهل الفضل كلهم ... في مدتي هذه والأعصر الأخر
إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري ... فقد رددت علي الصدر من عمري
وكنت لي واحدا فيه جميعهم ... ما يعجز الله جمع الخلق في بشر
جزيت أفضل ما يجزى به بشر ... مفيد عمر جديد الفضل مبتكر (بغية الطلب 2: 160 - 161 ونفح الطيب 2: 325)
- 4 -
ويوم سرقناه من الدهر خلسة ... بل الدهر أهداه لنا متفضلا
أشبهه بين الظلامين غرة ... لحسناء لاحت بين فرعين أرسلا - 5 -
مغناك أغناك من أرض تيممها ... لكسب مال فلا تفرح به ونم
فسوف تأكل فيه [رزق] كل فتى ... من سائر الناس من عرب ومن عجم
ربع تعدى لما يلقى بساحته ... من لذة وانبساط سائر الأمم
وكل ما فيه ممنوع ومحترم ... فلا سبيل به إلا إلى الحرم (نزهة الألباب: 38)
- 6 -
قد كان للماضين من ... أرباب مصر همم
فالفضل عنهم فضلة ... والعلم فيهم علم
إن انقضت أعلامهم ... وعلمهم وانصرموا
Page 39
فاليوم مصر عدم ... إن كان يرجى العدم
وانظر تراها ظاهرا ... باد عليها الهرم (الوافي 8: 290 وخطط المقريزي 1: 122)
- 7 -
ألست ترى الأهرام دام بناؤها ... ويفنى لدينا العالم الأنس والجن
كأن رحى الأفلاك أكوارها على ... قواعدها الأهرام والعالم الطحن (خطط المقريزي 1: 121)
- 8 -
خليلي لا باق على الحدثان ... من الأول الباقي فيحدث ثان
إلى هرمي مصر تناهت قوى الورى ... وقد هرمت في دهرها الهرمان
فلا تعجبا أن قد هرمت فإنما ... رماني بفقدان الشباب زماني
وعوجا بقرطاجنة فانظرا بها ... جنايتي العادين تنتحبان
وإيوان كسرى فانظراه فإنه ... يخبركما بالصدق كل أوان
فلا تحسبا أن الفناء يخصني ... ألا كل ما فوق البسيطة فان (خطط المقريزي 1: 122)
Page 40
أحمد الله سبحانه على نعمه الباطنة والطاهرة، وأسأله الصلاة على سيدنا محمد وآله العترة الطاهرة، وأصحابه العصبة الزاهرة، وأجدد حمده على ما جبلني عليه من تتبع آثار العلماء، واقتفاء سنن الأدباء.
وكنت فما أيام الوالد - رحمه الله - أرى تردد الفضلاء إليه، وتهافت الأدباء عليه؛ ورأيت الشيخ شرف الدين أحمد بن يوسف بن أحمد التيفاشي القيسي في جملتهم، وأنا في سن الطفولة لا أدري ما يقولونه، ولا أشاركهم فيما يلقونه؛ غير أني كنت أسمعه يذكر للوالد كتابا صنفه، أفنى فيه عمره، واستغرق دهره، وأنه سماه " فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب "، وأنه لم يجمع ما جمعه كتاب. وكنت على صغر السن أنكر تجاسره على هذا الاسم الذي عده الله عز وجل من النعمة، ومن على نبيه بأنه آتاه فصل الكتاب مع الحكمة.
وكنت شديد الشوق إلى الوقوف عليه، وترفي الوالد رحمه الله في سنة خمس وأربعين وستمائة، وشغلت عن الكتاب، وتوفي شرف الدين التيفاشي بعده بمدة، فلما ذكرته بعد سنين، وقد جاوزت الستين، تطلبته من كل جهة، ورمته من كل وجهة، فلم أجد من يدلني عليه، ولا من يذكر أنه نظر إليه؛ فبذلت الجهد في طلبه إلى أن ظفرت به عند شخص كان من أصحابه، فسعيت إلى بابه، وبذلت له جملة لم تكن في حسابه، فلم يسمح لي مع فقره ببيع ولا عارية، ولا استحسنت تملكه باليد العادية؛ وعدت إلى طلبه منه، واستعنت عليه بمن لا غنى له عنه، فلم يفد فيه سؤال ولا شفاعة. ولم يعط لنا فيه طاعة. إلى أن قدر الله تعالى تملكه في سنة تسعين وستمائة. فرأيته مجردا في مسودات وجزازت. وظهور وتخريجات. وقد جعله
Page 1
من تجزئة أربعين جزءا. لم أجد منها سوى ست وثلاثين ربطة. وهو في غاية الاختلال، لسوء الحظ، وعدم الضبط. ولو لم يكن تكرر وقوفي على خطة في زمن الوالد، وعرفت اصطلاحه، في تعليقه. لما قدرت على قراءة حرف منه غير أني عرفت طريقته في خطه واصطلاحه، وتحققت فساده من صلاحه (1) ، ووقفت منه على أوراق في مفرقات ومفردات. وجزازات تفعل في مطالعها ما لا تفعل الزجاجات. فضممت ما وجدت منه وجدت منه بعضه إلى بعض. وأحرزته بتجليده من الأرضة والقرض.
ورأيته (2) قد جمع فيها أشياء لم يقصد بها سوى تكثير حجم الكتاب، ولم يراع فيه التكرار، ولا ما تمجه أسماع ذوي الألباب. فاستخرت الله في تعليق ما يحتار منه ورغبت في إبرازه إلى الوجود، فإنه ما دام بخطه لا يفهم أحد شيئا عنه. فأخذت زبده، ورميت زبده، وأوردت تكرره، وتركت مكرره، وبذلت في تنقيص جهدي، وجعلته سميري أوقات هزلي وجدي، فإنه روضة المطالع، ونزهة القلوب والمسامع، ويسر به الخاطر، ويقر به الناظر (3) ، وسميته:
" سرور النفس بمدارك الحواس الخمس "
وإلى الله الرغبة في الصفح عن مصنفه وعني، والعفو عما أثبتناه بقلمينا فإن العفو غاية التمني.
Page 2
الجزء الأول من هذا الكتاب سماه
نثار الأزهار في الليل والنهار، وأطايب
أوقات الأصائل والأسحار، وسائر ما
يشتمل
عليه من كواكبه الفلك الدوارا
وجعله أبوابا عدة، جمعت أنا جميع ما فيها في عشرة أبواب:
الباب الأول
: في الملوين الليل والنهار.
الباب الثاني: في أوصاف الليل وطوله وقصره، واستطابته، والاغتباق ومدحه، وذم الاصطباح.
الباب الثالث: في الاصطباح ومدحه، وذم شرب الليل، وايقاظ النديم للاصطباح.
الباب الرابع : في الهلال وظهوره وامتلائه وكماله، والليلة المقمرة.
الباب الخامس: في انشقاق الفجر، ورقة نسيم السحر، وتغريد الطير في الشجر، وصياح الديك.
الباب السادس: في صفات الشمس في الشروق، والضحى والارتفاع والطفل والمغيب، والصحو والغيم والكسوف.
الباب السابع: في جملة الكواكب وآحادها المشهورة.
الباب الثامن: في آراء المنجمين والفلاسفة الأقدمين في الفلك والكواكب.
الباب التاسع: في شرح ما يشتمل عليه من أسماء الأجرام العلوية وما يتصل بها واشتقاقه.
الباب العاشر: في تأويل رؤيا الأجرام العلوية وما يتعلق بها في المنام على مذهب حكماء الفلاسفة والإسلام.
Page 7
فراغ
Page 8
الباب الأول
في الملوين الليل والنهار
1 -
في التنزيل العزيز (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن كل تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) . (1)
2 -
الليل والنهار يسميان الملوين، ويسميان الجديدين والاحدين والعصرين والقرنين والبردين والأبردين والخافقين والدائرين والحاذقين والخيطين، وهما زنمتا الدهر وابنا سمير وابنا سبات. وذكر أبو العلاء المعري الحرسين، والحرس الدهر، ولم يسمع مثنى إلا في قوله (2) :
ويحق في رزء الحسين تغير ال ... حرسين بله الدر في الأصداف وجمع الحرس أحرس، وقد يجمع ما لا يثنى ويثنى ما لا يجمع، وما ذكر من مثنى هذا الباب مسموع لا مقيس. وسميا ملوين لأنهما يملآن الآفاق نورا وظلمة، وسميا جديدين لتجددهما بالضياء والإظلام على الدوام وسمي النهار نهارا لظهور ضوء الفجر يجري كالنهر من المشرق إلى المغرب معترضا حتى يأتي على الظلام، وسمي الليل ليلا لأنه يلالي بالأشخاص حتى يتشكك الناظر في الشيء فيقول: هو هو، ثم يقول: لا لا - فقد لالا بها. والنهار ضد الليل، ولا يجمع، كما لا يجمع العذاب والسراب، فإن جمعت قلت في قليله نهر، وفي الكثير نهر. والنهار ذكر الحبارى.
Page 9
3 -
وقوله: (نسلخ منه النهار) أي ننزع عنه الضوء فيظهر سواده، لأن أصل، ما بين السماء والأرض من الهواء والظلمة. والنهار في اللغة الضوء، والليل الظلمة .
4 -
(والشمس تجري) جري الشمس سيرها على عكس دور الفلك. فتقطع الفلك في ثلاثماثة وخمسة وستين يوما وربع يوم وجزء من يوم عند أهل الهند. وعند أهل الروم في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما إلا جزءا من ثلاثمائة جزء يوم.
(لمستقر) أي محل استقرار الليل والنهار على الاستواء، اعتدال الزمان عند حلولها أول نقطة الحمل أو الميزان، وقيل استقرارها استعلاؤها على جانب الشمال عند نهاية طول النهار في الأقاليم السبعة المائلة نحو الشمال (1) عن خط الاستواء، فيطول اليوم في الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة إلى أن ينتهي في الإقليم ست عشرة ساعة بتفاوت نصف ساعة بين كل إقليمين، حسب بعد الأقاليم من خط الاستواء نحو الشمال وقربها منه. وقيل: لمستقر لها أي محل شرف لها، في الدرجة التاسعة عشرة من الحمل عند ظهور أثرها في نفي آثار الشتاء، واعتدال الزمان والهواء، ومحل رفعه في أوجها يعني الجوزاء عند استقامة الحر وبدو الثمار وتمام الرياحين، أو محل قوة لها في بيتها، يعني الأسد عند إدراك الزروع وينع الثمار. وقيل لمستقر لها أي محل استقرار الدور واستمرار السير على الاستقامة من غير رجعة وانعكاس، كالخمسة المتحيرة أعني زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.
5 -
(والقمر قدرناه منازل) يعني منازله الثمانية والعشرين المعروفة وهي الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ الموخر، بطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج الاثني عشر لكل برج منها منزلتان وثلث، منزلة بالتقريب، فينزل القمر كل يوم منزلا، حتى إذا اجتمع مع الشمس في منزل انتقص الهلال في ثاني ذلك المنزل كالعرجون القديم. وقيل: قدرناه منازل أي قدرنا نوره في منازل، فيزيد في مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية، وينقص في المنازل الاستقبالية. وقيل: أي جعلنا أجزاء جرمه
Page 10
منازل لعكس أنوار الشمس " فإن جرم القمر مظلم ينزل فيه النور بقبوله عكس ضياء الشمس "، مثل المرآة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع تضاحل إلى الظل ويضرب بالنور المقبول عليه، وكذا القمر يقبل نور الشمس ويؤديه إلى الأرض، ولا يزال نصف القمر مقابلا للشمس ونصفه غائبا عنها، فعند اجتماع الشمس يكون نصفه الذي يلي الشمس مضيئا كله، فيظلم نصفه الذي يلي الأرض، فإذا جاوزها ليلة الاستهلال انحرف عن موازاتها فمالت الظلمة من النصف لم الأسفل إلى النصف الأعلى بقدر ما ينجلي منها ليلة الهلال كالعرجون القديم لا يزال ينحرف عنها حتى يدبر عن الشمس نصفه الأعلى، ويقابلها نصفه الذي يلي الأرض عند الامتلاء، وهو الاستقبال، فيأخذ النور في الاستقبال من نصفه الأسفل إلى نصفه الأعلى، حتى ينتهي إلى الاجتماع وتدور الشمس والقمر على جانب من الأرض إلا ليلة الخسوف، تحول الأرض بينهما فتحجب القمر عن الشمس، فيخسف بظل الأرض.
6 -
وقوله عز وجل: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي لا يمكنها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن دائرة فلك القمر في فلك عطارد، وفلك عطارد داخل في فلك الزهرة، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس فإذا كان طريق الشمس أبعد قطع القمر جميع أجزاء فلكه - أعني البروج الإثني عشر - في زمان تقطع الشمس برجا واحدا من فلكها. وقيل لم يكن يليق بمصلحة العباد لو جعلت الثمس في سرعة السير كالقمر، فإنها لو قطعت الفلك في ثلاثين يوما لولدت الفصول الأربعة في كل شهر، واختلت الزروع والثمار واستقامة الأحوال.
7 -
وقوله عز وجل: (ولا الليل سابق النهار) أي الشمس التي بها الضياء خلقت مضيئة والليل بكرة الأرض التي يغيب ضوء الشمس بطرف منها عن الأرض، وهي في بعدها من الأفلاك بعد واحد من جميع الجهات، لأنها في العالم بمنزلة الثقل، والأفلاك والكواكب في غاية اللطف، لما أديرت وقعت كثافة الأرض إلى أسفل، فإن اللطيف يتحرك إلى الأعلى، والثقيل الكثيف إلى أسفل، فلما دفعت أجرام الفلك عنه التراب من جميع النواحي دفعة واحدة اجتمع إلى الوسط، وقد جرب ذلك في قنينة ملئت ماء وألقي فيها حفنة من تراب ، ثم أديرت بالخرط، فبدأت أجزاء التراب تجتمع من جميع النواحي حتى استمسكت في الوسط. فإذا كان الليل بالأرض، والأرض تدفع الأفلاك أجزاءها - كما ضربنا من المثال - كان النهار سابقا لليل، فذلك قوله عز وجل: (ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)
Page 11
أي يعومون على عكس سير الفلك، كالسباحة على خلاف جري الماء. وخص الشمس والقمر بالذكر ههنا، وفي سورة الأنبياء، لأن سيرهما سباحة أبدا على عكس دور الفلك، وسير الخمسة المتحيرة قد يكون موافقا لدور الفلك عند الرجعة، والجري للاستقامة، والكنوس للدخول تحت الشعاع والاحراق. هذا كلام السجاوندي (1) .
8 -
وقال أبو الحسن الحوفي (2) : (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي لا يصلح لها أن تدرك القمر فيذهب نوره بضوئها، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليلا (ولا الليل سابق النهار) أي يعاقب النهار حتى يذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلا، أي لكل واحد منهما حد لا يتجاوزه، إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا.
9 -
وقال ابن فورك (3) : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن سير القمر أسرع من سير الشمس. وروي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قرأ: لا مستقر لها، أي أنها تجري في الليل والنهار، لا وقوف لها ولا قرار.
10 -
وقال يحيى بن سلام (4) : لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها.
و (العرجون القديم) العذق اليابس إذا استقوس. قال: وفي استدلال قوم من هذه الآية على أن الليل أصل، والنهار فرع طار عليه، نظر. وفي مستقر الشمس أقوال، منها أن مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين، لأنهما نهايتا مطالعها، فإذا استقر وصولها كرت راجعة، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين.
11 -
وقال أبو نصر القشيري (5) : ولا الليل سابق النهار أي غالب، فتمحي آية
Page 12
أحدهما بالآخر، ليكون الليل للاستراحة والنهار للتصرف ولتميز الأوقات ولعلم السنين والحساب، ولا تصير الأوقات كلها ليلا أو نهارا.
12 -
قال الشيخ شرف الدين أحمد التيفاشي المصنف: وليس في هذه الأقوال بيان في أن الليل قبل النهار في الوجود، أو أن النهار قبل الليل، وهو محط السؤال. قال، وأنا أقول: إن الليل والنهار لا يخلو إما أن نعتبر وجودهما بالإضافة الينا أو بالإضافة إلى العالم نفسه؛ فإن كانا بالإضافة إلينا كانا في منزلة المضاف في المنطق كالأب والابن؛ وإذا كانا كذلك لم يكن أحدهما متقدما على الاخر، فإنا لا نعرف الليل إلا وقبله نهار ولا النهار إلا وقبله ليل، كما لا نعرف الأب من حيث هو أب إلا ومعه الابن، والابن إلا ومعه أب. وسأل الاسكندر (1) بعض الحكماء عن ذلك فقال: هما في دائرة واحدة، والدائرة لا يعرف لها أول ولا آخر. وإن اعتبر وجودهما بالإضافة إلى العالم نفسه، فلا يخلو أن يكون الاعتبار بالإضافة إلى العالم العلوي، وهو من الفلك المحيط إلى مقعر فلك القمر، أو إلى العالم السفلي، وهو من مقعر فلك القمر إلى كرة الأرض، فإن كان بالإضافة إلى العالم العلوي كما اعتبره السجاوندي، كان ذلك باطلا، إذ العالم العلوي لا ليل فيه ولا نهار، إذ لا ظلام يتعاقب عليه فيسمى نوره نهارا، بل الأجرام العلوية أجسام شفافة مضيئة نيرة بطبعها على الدوام، نورا لا ظلمة تشوبه ولا عتمة تتعاقب عليه. كما في هذا العالم. وإن كنا نرى الشمس والقمر يكسفان عندنا فإنما ذلك لحائل يحول بين أبصارنا في هذا العالم وبين إدراك نوريهما، وإلا فهما في عالمهما على وتيرة واحدة من النور والضياء والبهجة، لا تبديل لها ولا تغيير، إلى أن يشاء العزيز القدير. وإن اعتبر وجود الليل والنهار بإضافتهما إلى هذا العالم السفلي، وهو من كرة الأرض إلى مقعر فلك القمر، كان اعتبارا حقا، وهو موضع البحث، إلا أنه يجب أن يوجد اسما الليل والنهار ههنا دالين على النور والظلمة، كما قال الخليل: إن الليل عند العرب الظلام، والنهار الضوء، حتى لا يكون مدلول اسمي الليل والنهار على ما نفهمه نحن الآن من تعاقب الضياء والظلام عندنا، فإن كان ذلك كذلك كان الليل متقدما على النهار بالطبع والذات، على رأي المشرعين والفلاسفة:
Page 13
13 -
أما الفلاسفة فإنهم متفقون على أن جميع أجرام العالم شفافة منيرة أو قابلة للنور مؤدية له، ما خلا كرة الأرض، فإنها كثيفة بذاتها، مظلمة (1) بطبعها، وإن الظلام الموجود في العالم إنما هو منها، وإن ذلك ذاتي فيها لا عرض لها، بل هو ملازم لها ملازمة الظل للشخص، والنور للشمس، والضياء فيها إنما هو عرض لها طار على الظلام الذاتي الملازم. قال أبو معشر: الأرض لما وجدت كانت مظلمة من جميع جهاتها، فما قابله منها نور الشمس انزاح الظلام عنه إلى الجهة التي لم تقابلها الشمس، فإذا دارت الشمس إلى الجهة الأخرى المظلمة أنارت وانزاح الظلام إلى الجهة التي كانت مضيئة، هكذا على الدوام.
14 -
وأما المتشرعون فإنهم - على اختلاف مللهم - متفقون على تقديم الليل على النهار في الوجود، وفي نص التوراة في مفتتحها (2) : " أول ما خلق الله السموات والأرض كانت تيها وتيها وظلام على وجه الغمر، وأرواح الله مرفرفة على وجه الماء، وقال الله: يكون نور فكان النور، ورأى الله النور حسنا، وفصل الله ببن النور وبين الظلام، فسمى عند ذلك النهار نهارا والظلام ليلا. وكان مساء وما يليه، وصباح وما يتبعه، الجميع يوم واحد ". هذا نص التوراة، وهو تصريح جلي. قوله (تيها وتيها) أي قاع صفصف خالية من العمران، والغمر ههنا الماء.
15 -
قال الشيخ المصنف: ومن كتاب " فردوس البيعة " للقس أبي الفرج الطبيب (3) في العلة التي من أجلها خلق الله الظلمة أولا ومن بعدها النور، قال: لأن الفاعل الحكيم شأنه، أن يدرج مفعولاته من النقصان إلى الكمال، ومثال ذلك تصيبره الجنس الآدمي - الذي هو علة المخلوقات - آخر المخلوقات، فالواجب أن يجعل النور آخرا لأنه أشرف من الظلمة، ولكيما - إذا وجد النور - بان الملائكة الروحانيون به وهو ينظر شريف ما تقدم بخلقه من عظيم أفعاله، وكان هذا علة جاذبة
Page 14
لهم إلى حسن الطاعة، فالمرئيات في النور بينة جدا، ولو خلق الظلمة بعد النور لكان هذا مما يخفي حسن الإنارة، ولكيما لا يصير للذين يعتقدون أن ههنا خالقين متضادين حجة، بأن يكون خالق الظلمة إذا كان يضاد خالق النور لما رآه قد خلق النور ضاده بخلق الظلمة.
فهذه آراء اليهود والنصارى بعد إيراد أقاويل المسلمين والمتفلسفين.
16 -
وأما مذاهب العرب: فإنهم متفقون في كلامهم على تقديم الليل على النهار، وعلى هذا يؤرخون فيقولون: لخمس بقين ولست بقين من الشهر، والعلة الموجبة لذلك عندهم أن الشهر إنما تعلم بدايته بالهلال، فيكون أوله على ذلك الليل. وفي الحديث: " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " (1) وفيه: " من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " (2) فقال ستا ولم يقل " ستة " فدل على أنه صلى الله عليه وسلم جعل بداية الشهر الليل، وإنما أراد بالصيام الأيام، إذ الليل لا يصام. وفى رواية " وأتبعه خمسا من شوال ". ووجه الحديثين أن الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشرة أشهر، والستة التي بعده بستين يوما، فذلك عام كامل. ومن روى خمسا فالشهر بعشرة، والخمسة بعده بخمسين يوما، فتبقى عشرة منها ستة أيام تسقط بنقصان الشهر وأربعة أيام يوم الفطر وثلاثة أيام التشريق.
17 -
ولأبي منصور صدر معنى مستطرف في تقديم الليل على النهار، يصف سوداء:
علقئها (3) سوداء مصقولة ... سواد عيني صفة فيها
ما انكسف البدر على تمه ... ونوره إلا ليحكيها
لأجلها الأزمان أوقاتها ... مؤرخات بلياليها 18 - وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال (4) : " لا تسبوا الليل والنهار ولا الشمس ولا القمر ولا الريح فإنها ترسل رحمة لقوم. وعذابا لآخرين. وقال
Page 15
صلى الله عليه وسلم: " الليل والنهار مطيتان يقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود ". هذا كلام النبوة المشرق بنور المعرفة.
19 -
وقال بعض الحكماء: الليل والنهار فرسان يركضان بالبشر إلى إنقضاء الأعمار وقال آخر: الليل والنهار رحيان (1) لطحن الأعمار.
20 -
وللشيخ المصنف في ذلك:
يا سائلي في شيب رأسي شيبه ... اسمع جوابي فيه غير معرض
طحنت رحى الملوين عمري فانثنى ... في مفرقي أثر الغبار الأبيض 21 - وللشريف ابن دفتر خوان (2) :
جيشان مختلفان جيش دجنة ... يتغالبان معا وجيش نهار
والليل يكسو الجو مسحا أسودا ... متحرقا عند الشروق بنار
والصبح مد على النجوم ملاءة ... بيضاء يمنعها عن الإبصار 22 - وفي كتاب كليلة ودمنة (3) تمثل أيام العمر بغصنين نابتين على فم بئر، وإنسان قائم عليها، والليل والنهار كجرذين أبيض وأسود مجدين في قطع الغصنين، وهو لاه عنهما.
23 -
شاعر في الأيام (4) :
ما سبعة كلهم إخوان ... ليس يموتون وهم شبان لم يرهم في موضع إنسان ...
Page 16
24 -
وذكر أنه وجد قبل الإسلام بألف عام على حجر مكتوبا في بعض غيران نجد (1) :
خدنان (2) لم يريا معا في منزل ... وكلاهما يجري به المقدار
لونان (3) شتى يكسوان خلوقة ... ما عاورته الشمس والأمطار 25 - شاعر:
فما مقبلات مدبرات تواترت ... مخالفة الاسماء واللون واحد
تصرف في أبنائهن مرارة ... ومنهن حلوات وسخن وبارد 26 - ابن الشبل البغدادي (4) :
ما أسود في حضنه أبيض ... وأبيض في حضنه أسود
ما افترقا قط ولا استجمعا ... كلاهما من ضده يولد 27 - أعرابي في الليل والنهار (5) :
والليل يطرده النهار ولن ترى ... كالليل يطرده النهار طريدا
فتراه مثل البيت زال بناؤه ... هتك المقوض ستره الممدودا 28 - والمولدون يشبهون الليل والنهار بالزنجي والرومي والحبشي والتركي، فمن ذلك قول أبي العلاء المعري (6) :
ودانت لك الأيام بالرغم وانضوت ... إليك الليالي فارم من شئت تقصد
بسبع إماء من زغاوة زوجت ... من الروم في نعماك سبعة أعبد
Page 17
29 -
أبو بكر بن اللبانة (1) :
يجري النهار إلى رضاك وليله ... وكلاهما متعاقب لا يسأم
فكأنما الإصباح تحتك أشقر ... وكأنما الإظلام تحتك دهم 30 - أسعد بن إبراهيم المغربي (2) :
وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدى الصبح كاللمة الشمطا
كأن الدجى جيش من الزنج نافر ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا 31 - أحمد بن دراج القسطلي (3) :
وليل كريعان الشباب قطعته ... بجهد السرى حتى استثيبت (4) ذوائبه
وصلت به يوما أغر صحبته ... غلاما إلى أن طر بالليل شاربه
Page 18
الباب الثاني
فى أوصاف الليل وطوله وقصره واستطابته والاغتباق ومدحه وذم الاصطباح
32 -
في التنزيل العزيز (ومن شر غاسق إذا وقب) غسقا الليل شدة ظلمته. ووقب أي دخل.
33 -
وقال العسكري (1) : من أتم أوصاف الظلمة الذي في كلام البشر مثله قوله عز وجل: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها) .
34 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " جنبوا صبيانكم فحمة العشاء ". وفحمة الليل اشتداد ظلمته.
35 -
ومن أسماء الليل: الدجن والدجى والدجنة والكافر، سمي كافرا لأنه يستر الأشخاص، والكفر - بفتح الكاف - الستر، ومنه اشتق اسم الكافر لأنه يجحد نعمة الله عز وجل ويسترها، والكفور: القرى النائية عن حواضر المدن لأن ساكنها يغيب عن جمهور الناس ويستتر عنهم، وفي الحديث: " لا تسكنوا الكفور (2) ، فإن ساكني الكفور كساكني القبور ".
36 -
وقال الأصمعي: كل ظلماء من الليل حندس، والليلة الليلاء: الشديدة الظلمة، وكذلك الليل الأليل؛ وعسعس الليل: اشتدت ظلمته، وكذلك اكفهر وادلهم، وليل مكفهر ومدلهم وغيهب وغهيب، كل ذلك شديد السواد.
Page 19
37 -
سأل هشام (1) بن عبد الملك خالد بن صفوان: كيف كان سيرك؟ فقال: قتل أرضا عالمها، وقتلت أرض جاهلها (2) ، بينا أنا أسير ذات ليلة إذ عصفت ريح شديد ظلماؤها. أطبق سماؤها، وطبق سحابها، وتعلق ربابها، فبقيت محرنجما كالأشقر إن تقدم نحر، وإن تأخر عقر (3) ، لا أسمع لواطئ همسا، ولا لنابح جرسا؛ تدلت علي غيومها، وتوارت عنى نجومها، فلا أهتدي بنجم طالع، ولا بعلم لامع، أقطع محجة، وأهبط لجة، في ديمومة قفر، بعيدة القعر، فالريح تخطفني، والشوك يخبطني، في ريح عاصف، وبرق خاطف، قد أوحشني إكامها، وقطعني سلامها؛ فبينا أنا كذلك قد ضاقت علي معارجي، وسدت مخارجي، إذ بدا نجم لائح، وبياض واضح. وعرجت إلى آكام محزئلة فإذا أنا بمصانعكم هذه، فقرت العين، وانكشف الرين.
فقال هشام: لله درك، ما أحسن وصفك.
38 -
ومن أحسن ما جاء في الليل قول ذي الرمة (4) :
وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد أخذه ابن المعتز فقال:
وليل كجلباب الشباب. (5) ... قال العسكري (6) : جلباب العروس أطرب من جلباب الشباب.
9 -
وقال العلوي (7) :
ورب ليل باتت عساكره ... تحمل في الجو سود رايات
لامعة فوقها أسنتها ... مثل الأزاهير وسط روضات
Page 20
40 -
ومن أحسن الاستعارات في الليل قول عبد الصمد بن المعذل (1) :
أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يد
ونحن ضجيعان في مجسد ... فلله ما ضمن المجسد
أيا ليلة الوصل لا تنفدي ... كما ليلة الهجر لا تنفد
ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غد 41 - قال العسكري (2) : وأجود ما قيل في طول الليل من الشعر القديم، قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل قال العسكري: هذا من فصيح الكلام وأبدعه (3) . شبه الليل بالبحر، وترادف ظلماته بالموج، واستعار له سدولا وهي الستور، واحدها سدل، لما يحول منه بين البصر وبين إدراك المبصرات؛ وقوله: " وما الإصباح منك بأمثل " معناه أن صبحك إذا كان فيك فليس فيك راحة، كأنه يريد به طلوع الفجر المتقدم بين يدي ضوء النهار، وقيل معناه: إن ليله كنهاره في البث، وانه لا يجد في النهار راحة كما لا يجدها في الليل، فجعل الليل والنهار سواء فيما يكابده من الوجد والحب.
42 -
قال الشيخ المصنف: كنت وقفت لشاعر بعد امرىء القيس على هذا المعنى وفيه زيادة مطبوعة وذهبت عني فنظمت في معناه:
لا أظلم الليل الطويل وأشتكي ... منه وما لي في الصباح رجاء
Page 21