فاختلجت عيناها الكليلتان في اهتمام وقالت بارتياح صاف لأول مرة: نعم. تعجبني، آن لك أن تتزوج، فتاتك في الانتظار، وأبوها العظيم لم يضن بموافقته.
فضحك متسائلا: ألم يكن الأجمل أن أتزوج وأنا متمتع بالجاه والسلطان؟!
فابتسمت عن طاقم لاح بريقه كياسمينة منسية في حديقة اقتلعت أشجارها وقالت: مركزك كبير، وهم يعلمون أنك مرشح لأعلى المناصب، وعلي بك سليمان يفهم الأمور جيدا، ثم إنه قريبك. وكان يحب المرحوم والدك أكثر من أي شيء في العالم.
هذا كله حق، علي بك سليمان ابن خال والده. وأسرته تمثل الغصن المورق في شجرة أسرته الجرداء، غني من سلالة غنية، ومستشار خطير، فضلا عن أنه من رجال السراي. وعندما يدعم نفسه بمصاهرته سيجد في مرفئه استقرارا إذا عبثت عواصف السياسة بقاربه. الخسائر التي تجيئه من الحزب أطول عمرا من مكاسبه. وسلوى فتاة ممتازة حقا، لا وجه للمقارنة بينها وبين ابنة عمه التي سعت أسرتها طويلا لتزويجها منه، وأم سلوى امرأة ممتازة أيضا، وهي ميالة للمحافظة على ندرة ذلك في طبقتها. ومن حسن حظه أنها حسنة الظن جدا بمستقبله، حتى تخيلته وزيرا أقرب مما يتصور. وعندما فاتحها في مطلب زواجه من كريمتها صارحته قائلة إنها لا يهمها المال ولكن يهمها المركز، أوليست الدرجة الثانية امتيازا حقيقيا لشاب في الثلاثين من عمره؟ وهي لها تقدير خاص للشبان المتعلمين في الخارج، وهو وإن لم يتعلم في الخارج إلا أنه خدم عاما في سفارة لندن، وسافر ملحقا بسكرتارية وفد المفاوضات. وطاب له أن يستحضر صورة سلوى بجمالها البلقاني المغري كالكريم شانتيي، واعتدها منة من الله أنها ليست من فتيات النوادي ولا من معتنقات فلسفة العصر. وقال لوالدته: تصوري أنني لم أكن رأيتها منذ الصغر! - هذا تقصير منك. انهماكك في العمل ليس بالعذر الكافي؛ فمن كان له قريب كعلي بك سليمان وجب عليه أن يوثق علاقته به. - كنت ألقاه في الخارج. لم أكن أفكر في الزواج.
وهو قد طلب يدها من والدها وليس له عن صورتها إلا فكرة غامضة غاية الغموض، ولكنه وجدها آية، وسرعان ما أحبها من كل قلبه، وتهيأ لاختيار الألفاظ المناسبة للإفصاح عن عواطفه الجديدة أمام أمه. ولكن دخلت أم شلبي لتعلن عن حضور حسين ابن عمه لزيارته. وتجاذبت قلبه عواطف متناقضة، ولكن غلب عليه النفور الخليق بمن يكابد حسرات الهزيمة.
وقدم حسن علي الدباغ منطلق الأسارير، ربعة متين البنيان، مربع الرأس، عميق الملامح، عريض الذقن، ويمتاز بعينين صافيتين ذكيتين، وأنف حاد مدبب، قبل يد امرأة عمه، وصافح عيسى بحرارة لم تخفف من نفوره، ثم جلس إلى جانبه وهو يطلب الشاي. هو على وجه التقريب يماثل عيسى عمرا، غير أنه في الدرجة الخامسة، على حين دفعت السياسة عيسى إلى الدرجة الثانية، ومع أنه من حملة بكالوريوس التجارة إلا أنه لم يجد عملا إلا في القرعة العسكرية، وسألته أم عيسى: كيف حالكم؟ - بخير، أمي بخير وأختي بخير.
ازداد عيسى نفورا عند ذكر الأخت، لا لشيء كريه فيها، ولكن لكونها أخت هذا الغريم والمنافس القديم. كانا متنافسين ومتلازمين وتبادلا عواطف حادة مؤلمة. السياسة وحدها التي حسمت ما بينهما من أسباب التنازع، فرفعت عيسى إلى مركزه المرموق، على حين تدرج حسن ببطء في طريقه الوعر، وفترت العلاقات بعض الشيء، ورسبت العواطف في الأعماق، ولكن حسن لم ينقطع عن ابن عمه أبدا بل تمنى لو يزوجه من أخته. ومن عجب أن حسن فكر جادا في الذهاب إلى قريبه علي بك سليمان ليطلب منه يد ابنته عقب عيسى بأيام، وضحك عيسى ازدراء عندما نمى إليه الخبر، وقال لنفسه: «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.» ولكنه كان يضمر له إعجابا رغم نفوره منه لقوة شخصيته ووفرة ذكائه، وقال حسن بأريحية: سمعت عن نقلك إلى المحفوظات، لا تحزن، أنت رجل مخلوق للشدائد.
فدخلت الأم في الحديث قائلة بحماس: لا داعي للحزن، هذا ما أقوله دائما، وهؤلاء الناس لماذا يتركون الكبار وينتقمون من الأبناء!
وتعقد عيسى بمواساة حسن فقال باعتزاز: نحن قوم اعتدنا السجن والضرب، فما أهون عقاب اليوم!
ومضى حسن يرشف الشاي في سعادة وهو يبتسم ويقول بلهجة تنذر بالهجوم: أنتم تسجنون وتضربون حقا ولكن الآخرين يتاجرون.
Unknown page