﴿قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء تذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شَيْء قدير تولج اللَّيْل فِي النَّهَار وتولج النَّهَار فِي اللَّيْل وَتخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من تشَاء بِغَيْر حِسَاب﴾ . فسبحان الله من إِلَه حَكِيم قَادر، ومليك مقتدر قاهر، يُعْطي الْعَاجِز الحقير، ويمتع البطل الأيد الْكَبِير، وَيرْفَع الخامل الذَّلِيل، وَيَضَع ذَا الْعِزّ المنيع وَالْمجد الأثيل، ويعز المحتقر الطريد المجفو الشريد، ويذل أولى الْحَد الْحَدِيد، وَالْعد العديد، وأرباب الألوية والبنود، ومالكي أزمة العساكر والجنود، ويؤتي ملكه من لم يكن شَيْئا مَذْكُورا، وَلَا عرف لَهُ أيا نبيها وجدا مَشْهُورا، بل نَشأ كلا على مَوْلَاهُ وخادما لسواه، تجبهه وتشنؤه النَّاس، وَلَا يرعاه سَائِر الْأَجْنَاس، لَا يقدر على نفع نَفسه فضلا عَن الْغَيْر، وَلَا يَسْتَطِيع دفع مَا ينزل بِهِ من مساءة وضير، عَجزا وشقاء وخمولا واختفاء، وَينْزع نعت الْملك مِمَّن نِهَايَة أَسد الشري فِي غيلها، وتخضع لجلالته عتاة الْأَبْطَال يقظها وقيظيظها، وتختع لخنزوانة سُلْطَانه حماة الكماة بجمعها وجميعها، وتذل لسطونه مُلُوك الْجَبَابِرَة وأقبالها، ويأتمر بأوامره العساكر الْكَثِيرَة الْعدَد، ويقتدى بعوائده الْخَلَائق مدى الْأَبَد. وَالْحَمْد الله على حالتي مَنعه وعطائه، وابتلائه وبلائه، وسراته وضرائه، ونعمه وبأسائه، أهل الثَّنَاء وَالْمجد، ومستحق الشُّكْر وَالْحَمْد ﴿لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون﴾ ﴿بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ وَلَا إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِد الْأَحَد، الْفَرد الصَّمد، الَّذِي ﴿لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد﴾ وَالله أكبر
1 / 102
﴿لَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ وَلَا تدْرك من عَظمته الْعُقُول إِلَّا مَا أخبر بِهِ عَنهُ الرُّسُل والأنبياء. وَصلى الله على نَبينَا مُحَمَّد الَّذِي أذهب الشّرك من الأكاسرة، ومحا بشر يعته عُظَمَاء الرّوم القياصرة، وأزال بملته الْأَصْنَام والأوثان، وَأحمد بظهوره بيُوت النيرَان، وَجمع لَهُ أسود الْعَرَب وَقد كَانَت فِي جزيرتها مُتَفَرِّقَة، وَلم ببركته شعثها بَعْدَمَا غبرت زَمَانا وَهِي متمزقة، وَألف قلوبها على موالاته وطاعته، وحبب إِلَيْهَا الْمُبَادرَة إِلَى مبايعته على الْمَوْت ومتابعته، فتواصلوا بعد القطيعة والتدابر، وتحابوا فِي الله كَأَن لم ينشئوا على الْبغضَاء والتنافر، حَتَّى صَارُوا بِاتِّبَاع مِلَّته، والاقتداء بِشَرِيعَتِهِ، من رِعَايَة الشَّاء الْبَعِير، إِلَى سياسة الجم الغقير، وَبعد اقتعاد سَنَام النَّاقة والعقود، وملازمة بَيت الشّعْر والعمود، وَأكل القيصوم وَالشَّيْخ، ونزول القفر الفسيح، إِلَى ارتقاء المنابر والسرير، وتوسد الأرائك على الْحَرِير، وارتباط المسومة الْجِيَاد، واقتناء مَا لَا يُحْصى من الخدع والعتاد، بِمَا فتح الله عَلَيْهِم من غَنَائِم مُلُوك الأَرْض، الَّذين أخذوهم بِالْقُوَّةِ والقهر، وحووا ممالكهم بتأييد الله لَهُم وَالنضْر، وأورثوها أَبنَاء أبنائهم، وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، فَلَمَّا خالفوا مَا جَاءَهُم بِهِ رسولهم من الْهدى، أحلّهُم الرزايا المجيحة والردى، وسلط عَلَيْهِم من رعاع الغوغاء وآحاد الدهماء من ألحقهم يعد الْملك باهلك، وحطهم بعد الرّفْعَة، وأذلهم بعد المنعة، وصيرهم من رتب الْمُلُوك إِلَى حَالَة العَبْد الْمَمْلُوك، جَزَاء بِمَا اجترحوا من السَّيِّئَات، واقترفوا من الْكَبَائِر الموبقات، وَاسْتَحَلُّوا من الحرمات، واستهواهم بِهِ الشَّيْطَان من اتِّبَاع الشَّهَوَات، ولعتبر أولو البصائر والأفهام، ويخشى أهل النَّهْي مواقع نقم الله الْعَزِيز ذِي الانتقام، لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ. أما بعد، فَإِنَّهُ لما يسر الله وَله الْحَمد، بإكمال كتاب «عقد جَوَاهِر الأسفاط من أَخْبَار مَدِينَة الفساط»، وَكتاب «اتعاظ الحنفاء بأخبار الْخُلَفَاء»، وهما يستملان على ذكر من ملك مصر من الْأُمَرَاء وَالْخُلَفَاء، وَمَا كَانَ فِي أيامهم من الْحَوَادِث والأنباء، مُنْذُ فتحت إِلَى أَن زَالَت الدولة الفاطمية وانقرضت، أَحْبَبْت أَن أصل ذَلِك بِذكر من ملك مصر بعدهمْ من الْمُلُوك الأكراد الأيوبية، والسلاطين المماليك التركية
1 / 103
والجركسية، فِي كتاب يحصر أخبارهم الشائعة، ويستقصى أعلامهم الذائعة، ويحوى أَكثر مَا فِي أيامهم من الْحَوَادِث والماجريات، غير معتن فِيهِ بالتراجم والوفيات، لِأَنِّي أفردت لَهَا تأليفا بديع الْمِثَال بعيد المنال، فألفت هَذَا الدِّيوَان، وسلكت فِيهِ التَّوَسُّط بَين الْإِكْثَار الممل والاختصار المخل، وسميته كتاب «السلوك لمعْرِفَة دوَل الْمُلُوك» . وَيَا لله أستعين فَهُوَ الْمعِين، وَبِه أعتضد فِيمَا أُرِيد وأعتمد، فَإِنَّهُ حسبى وَنعم الْوَكِيل.
فصل
ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الكافة قبل قيام مِلَّة الْإِسْلَام اعْلَم أَن النَّاس كَانُوا بأجمعهم، قبل مبعث نَبينَا مُحَمَّد ﷺ، مَا بَين عَرَبِيّ وعجمي، سبع أُمَم كبار هم: الصين وهم فِي جنوب مشرق الأَرْض، والهند وهم فِي وسط جنوب الأَرْض، والسودان وَلَهُم جنوب مغرب الأَرْض، والبربر وَلَهُم شمال مغرب الأَرْض، وَالروم وهم فِي وسط شمال الأَرْض، وَالتّرْك وهم فِي شمال مشرق الأَرْض، وَالْفرس وهم فِي وسط هَذِه الممالك، قد أحاطت بهم هَذِه الْأُمَم السِّت. وَكَانَت الْأُمَم كلهَا فِي قديم الدَّهْر، قبل ظُهُور الشَّرَائِع الدِّينِيَّة، صفا وَاحِد مسمين باسمين: سمنيين وكلدانيين، ثمَّ صَارُوا على خَمْسَة أَدْيَان، وَهِي الصابئة، وَالْمَجُوس، وَالَّذين أشركوا، وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى. فَأَما الصابئة: فَإِنَّهَا الَّتِي تعبد الْكَوَاكِب، وَترى أَن سَائِر مَا فِي الْعَالم السُّفْلى الْمعبر عَنهُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ناشيء وصادر عَن الْكَوَاكِب، وَأَن الشَّمْس هِيَ المفيضة على الْكل. وَهَذَا الدّين أقدم هَذِه الْأَدْيَان، وَبِه كَانَ يدين أهل بابل من الكلدانيين، وإليهم بعث الله نوحًا وَإِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِمَا. وَكَانَت الصابئة تتَّخذ التماثيل من الجواهبر والمعادن على أَسمَاء الْكَوَاكِب وتعبدها، فتصلى إِلَيْهَا وتقرب لَهَا القرابين، وتعتقد أَنَّهَا تجلب النَّفْع وتدفع السوء. وَبقيت مِنْهُم بقايا بأر ض السوَاد من الْعرَاق وبحران
1 / 104
والرها أدركوا الْإِسْلَام وَعرفُوا بالنبط وبالحرنانيين وَلم يبْق لَهُم إِذْ ذَاك ملك مُنْذُ غلبهم فَارس، فَلَمَّا كَانَت أَيَّام الْمَأْمُون أسقطوا عَن أنفسهم اسْم الكلدانيين، وتسموا بالصابئين. وَأما الْمَجُوس: فَإِنَّهُم الَّذين يَقُولُونَ بإلهين اثْنَيْنِ، أَحدهمَا فَاعل الْخَيْر وَهُوَ النُّور، وَالْآخر فَاعل الشَّرّ وَهُوَ الظلام، وَيُقَال لَهُم الثنوية أَيْضا، وَاتَّخذُوا لَهُم بيُوت نيران لَا تزَال تقد أبدا، وَكَانَت إِلَى هَذِه النيرَان صلواتهم وقرابينهم، ويعتقدون فِيهَا النَّفْع والضر، وعَلى هَذَا الِاعْتِقَاد كَانَت الأكاسرة مُلُوك فَارس بالعراق.
1 / 105
وَولد رَسُول الله ﷺ فِي أَيَّام كسْرَى أنوشروان وأزال الْعَرَب ملكهم فِي خِلَافه أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب ﵁، وملكوا مِنْهُم الْمَدَائِن وجلولاء وَغَيرهَا، وَقتل يزدجرد آخر مُلُوكهمْ فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان ﵁، وَلم يقم بعده قَائِم من الأكاسرة، وتمزق الْفرس وَذهب ملكهم إِلَى الْيَوْم. وَقد تقدم فِي كتاب عقد جَوَاهِر الأسفاط ذكر مُلُوك الْفرس فَرَاجعه. وَأما الَّذين أشركوا فَإِنَّهُم وَإِن وافقهم الصائبة وَالْمَجُوس فِي عبَادَة التماثيل وَالنَّار من دون الله، فَإِن الْعَرَب الَّذين بعث الله فيهم نَبينَا مُحَمَّد ﷺ يُقَال لَهُم الْمُشْركُونَ سمة لَهُم، واسما لَزِمَهُم، وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام والأوثان والطواغيت من دون الله، فيسجدون وَيصلونَ ويذبحون الذَّبَائِح لتماثيل عِنْدهم، قد اتَّخَذُوهَا من الْحجر والخشب وَغَيره ى، ويزعمون أَنَّهَا تجلب لَهُم النَّفْع، وتدفع عَنْهُم الضّر ويعتقد الْمُشْركُونَ مَعَ ذَلِك أَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خلقهمْ، وَهُوَ الَّذِي أوجدهم ثمَّ يميتهم، وَهُوَ الَّذِي يرزقهم، وَأَن عِبَادَتهم للأصنام وَسِيلَة تقربهم إِلَى الله سُبْحَانَهُ. وَكَانُوا إِذا مسهم الضّر فِي الْبَحْر من شدَّة هبوب رياحه وَعظم أمواجه، وأشرفوا على الْهَلَاك، نسوا عِنْد ذَلِك الْأَصْنَام الَّتِي كَانُوا يعبدونها، ودعوا الله يسألونه النجَاة وَقد محا الله - وَله الْحَمد بنبينا مُحَمَّد ﷺ الشّرك من الْعَرَب حَتَّى دخلُوا فِي دين الله افواجا، وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده، إِلَى أَن ظهر دين الْإِسْلَام بهم على سَائِر الْأَدْيَان، وملكوا مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا مِمَّا تطؤه الدَّوَابّ، وتمر فِيهِ السفن. وَقد ذكرنَا أَيْضا فِي كتاب عقد جَوَاهِر الأسفاط قبائل الْعَرَب وبطونها ذكر شافيا فَتَأَمّله. وَأما الْيَهُود: فَإِنَّهُم أَتبَاع نَبِي الله مُوسَى بن عمرَان، صلوَات الله عَلَيْهِ، وكتابهم التوارة. ولكهم أَبنَاء إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، ويعرفون أَيْضا ببني إِسْرَائِيل، وَهُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِم، وَكَانُوا اثنى عشر سبطا، وملكوا الشَّام بأسره
1 / 106