خلع الجاكتة ومد ساقيه في ارتياح، ثم جلس يراقبها وهي تخلع حذاءها وفستانها، ثم وهي تسوي قميصها أمام المرآة وتسرح شعرها. الجسم الذي يحبه، الأبيض اللدن الممتلئ، ترى كيف كان جسم عايدة؟ كثيرا ما تبدو لذاكرته وكأنما لم يكن لها جسم، وحتى ما يذكره من نحافتها وسمرتها ورشاقتها فإنما تستقر في روحه كالمعاني المجردة، أما ما يلتصق عادة بالذاكرة من محاسن الأجساد كالصدور والسيقان والأرداف فلا يذكر البتة أن حواسه اتجهت إلى شيء منها، واليوم لو عرضت له حسناء كل ميزاتها الرشاقة والسمرة والنحافة ما ارتضى أن يبتاعها بريال، فكيف كان هذا الحب؟ وكيف ظلت ذكراه مصونة بالإجلال والتقديس رغم ازدرائه لكل شيء؟! - الدنيا حر، أف .. - إذا لطستنا الخمر استوى لدينا الحر والبرد! - لا تأكلني بعينيك، وارفع نظارتك!
مطلقة ذات بنين، تغطي كآبتها المعتمة بالعربدة، وتمتص الليالي النهمة أنوثتها وإنسانيتها دون مبالاة، يختلط في أنفاسها الوجد الكاذب بالمقت، وهي للاستعباد شر صورة؛ لذلك كانت الخمر نجاة من العذاب كما هي نجاة من الفكر!
وارتمت إلى جانبه ومدت يدها البضة إلى الزجاجة وأخذت تملأ الكأسين. هذه الزجاجة تباع في هذا البيت بضعف ثمنها، كل شيء هنا غال إلا المرأة، إلا الإنسان، ولولا الخمر ما أمكن ذلك المجلس؛ كي يغيب عن عين البشرية المحملقة في اشمئزاز، غير أن حياتنا لا تخلو من مومسات من نوع آخر، منهم وزراء وكتاب!
وبحلول الكأس الثانية في جوفه لاحت بشائر النسيان والمسرة. «هذه المرأة أشتهيها منذ زمن وحتى متى لا أدري، الشهوة سلطان مستبد أما الحب فشيء آخر، وكم يبدو في لباس عجيب إذا برئ من الشهوة، وإذا أتيح لي يوما أن أجدهما في كائن بشري عرفت الاستقرار المنشود؛ ولذلك فلن تزال الحياة تبدو لي عناصر يعوزها الانسجام، فأنا أنشد «الزواج» في الحياتين العامة والخاصة، لا أدري أيهما أصل الأخرى، ولكني متأكد أني تعس رغم سلوكي في الحياة الذي ضمن لي حظي من مسرات الفكر ولذات الجسد؛ كالقطار الذي ينطلق في قوة ولكنه لا يدري من أين ولا إلى أين. والشهوة حسناء طاغية سرعان ما يصرعها القرف، ويهتف القلب ناشدا في يأس أليم السعادة السرمدية، عبثا؛ لذلك فالشكوى لا تنقطع، والحياة خدعة كبرى، وينبغي أن نتجاوب مع حكمتها الخفية كي نتقبل هذه الخدع راضين، فنكون كالممثل الذي يعيي دوره الكاذب على المسرح، ولكنه رغم ذلك يعبد فنه.»
وتجرع كأسه الثالثة دفعة واحدة حتى أغرقت عطية في الضحك. وهي تحب السكر من صميم قلبها ولكنه يفعل بها الأفاعيل، فإذا لم يوقفها عند حدها علا صوتها فتشنجت ثم بكت وتقايأت. ولعبت الخمر برأسه فاهتز طربا، ومد إليها بصره فانبسطت أساريره. هي الآن امرأة فحسب، لا مشكلة، وكأنه لم تعد ثمة مشكلة في الوجود، الوجود نفسه - أثقل مشكلة في الحياة - لم يعد مشكلة، ولكن اشرب واغرق في القبل .. - ما ألطفك إذا ضحكت بلا سبب! - إذا ضحكت بلا سبب فاعلمي أن الأسباب أجل من أن تذكر ..
17
عاد عبد المنعم إلى السكرية ملتفا في معطفه، يحبك من آن لآخر طاقته ليتقي برد الشتاء القارص، وكان الظلام شاملا رغم أن الساعة لم تجاوز السادسة مساء. وما كاد يبلغ مدخل السلم حتى فتح باب الدور الأول وتسلل الشبح اللطيف الذي كان ينتظر، وخفق قلبه وجعل يحملق في الظلام بعينين متقدتين. وتابع شبحها وهو يرقى في السلم في خفة وحذر أن يحدث صوتا، فوجد نفسه موزعا بين رغبة تغريه بالاستسلام وإرادة تحثه على السيطرة على أعصابه التي تلوح بالخيانة والانهيار. وذكر - الآن فقط! - إنها واعدته الليلة من قبل، وقد كان بوسعه أن يقدم موعد عودته أو يؤخره فيتجنب هذا اللقاء، ولكنه نسي ذلك كله، لشد ما ينسى! ولم يكن ثمة وقت للتدبر والتذكر، فليترك هذا إلى حينه، عندما يخلو إلى نفسه في حجرته، إلى تلك اللحظة التي ستشهده. منتصرا ظافرا أو منهزما مغلوبا على أمره. وارتقى السلم في أعقابها دون أن يعزم على أمر، ملقيا بنفسه في خضم الامتحان، ولم يكن شيء لينسيه آلام صراعه الأبدي. وفوق البسطة خيل إليه أن شبحها يضخم حتى ملأ عليه المكان والزمان. وقال وهو يخفي قلقه، ويضمر الصمود مهما كلفه الأمر: مساء الخير ..
فجاء الصوت الرقيق يقول: مساء الخير، أشكرك لأنك سمعت نصيحتي ولبست معطفك ..
فغلبه التأثر لرقتها، وذابت في حلقه كلمة أوشك أن يجبهها بها، ثم قال مداريا ارتباكه: خشيت أن تمطر السماء ..
فرفعت رأسها إلى أعلى كأنما تنظر إلى السماء، وقالت: ستمطر عاجلا أو آجلا، ليس في السماء نجم، وقد ميزتك بصعوبة عندما دخلت الحارة.
Unknown page