152

وقد تألمت خديجة لقولها، ولكنها كانت قد اعتادت أن تتحلى بالحلم المثالي حيال عائشة. وقد جهز الدور الثاني بالسكرية للمرة الثانية بأثاث العرس. وجهز ياسين ابنته كما ينبغي، وباع في سبيل ذلك آخر أملاكه فلم يعد يبقى له إلا بيت قصر الشوق. وبدت كريمة آية في الجمال، وقد شابهت أمها في عهدها الزاهر خاصة في عينيها الدافئتين، ولم تكن بلغت سن الزواج إلا في الأسبوع الماضي من أكتوبر. ولاحت خديجة سعيدة كما ينبغي لأم العريس، وقد انتهزت فرصة انفرادها بكمال مرة فمالت على أذنه قائلة: على أي حال فهي ابنة ياسين، ومهما يكن من أمر فهي خير ألف مرة من عروس العنابر!

وقد مد بوفيه صغير في حجرة السفرة للأسرة، ومد آخر في الفناء لمدعوي عبد المنعم من ذوي اللحى، ولم يكن يتميز عنهم؛ إذ أرسل بدوره لحيته حتى قالت له خديجة يومذاك: الدين جميل ولكن ما ضرورة هذه اللحية التي تبدو فيها مثل محمد العجمي بياع الكسكسي؟!

وجلس أفراد الأسرة في حجرة الاستقبال ما عدا عبد المنعم الذي جالس أصحابه، وأحمد الذي شاركه الترحيب بهم بعض الوقت، ثم انتقل إلى حجرة الاستقبال حيث انضم إلى أهله وهو يقول باسما: تراجعت المنظرة في الزمان ألف عام!

فسأله كمال: فيم يتحادثون؟ - عن معركة العلمين، وقد ارتجت جدران المنظرة بأصواتهم. - وكيف شعورهم حيال انتصار الإنجليز؟ - الغضب طبعا، إنهم أعداء الإنجليز والألمان والروس جميعا، وهكذا لم يرحموا العريس حتى في ليلة زفافه ..

وكان ياسين جالسا إلى جانب زنوبة، يبدو في زينته كأنما يصغرها بعشرة أعوام، فقال: فليأكلوا بعضهم البعض بعيدا عنا، ومن رحمة ربنا أنه لم يجعل من مصر ميدان حرب ..

فقالت خديجة باسمة: لعلك تريد السلام حتى تفرغ لمزاجك!

ورمقت زنوبة بنظرة ماكرة حتى ضحك الجميع، وكان قد ذاع في الأيام القريبة الماضية أن ياسين غازل ساكنة جديدة في بيته، وأن زنوبة ضبطته متلبسا أو كالمتلبس فما زالت بالساكنة حتى اضطرتها إلى إخلاء الشقة. فقال ياسين يداري ارتباكه: كيف أفرغ لمزاجي وبيتي محكوم بالأحكام العرفية!

فقالت زنوبة في امتعاض: هلا استحييت أمام ابنتك؟

فقال ياسين في توسل: إني بريء والجارة المسكينة مظلومة! - أنا الظالمة! أنا التي ضبطت وأنا أطرق شقتها بليل ثم اعتذرت بأنني ضللت سبيلي في الظلام! هه؟ أربعون عاما في البيت ثم لا تعرف أين تقع شقتك؟!

فتعالى الضحك حتى قالت خديجة في تهكم: إنه كثير الخطأ في الظلام! - وفي النور على السواء ..

Unknown page