السكرية
السكرية
السكرية
السكرية
تأليف
نجيب محفوظ
السكرية
1
تقاربت الرءوس حول المجمرة، وانبسطت فوق وهجها الأيدي. يدا أمينة النحيلتان المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفي اللتان بدتا كغطاء السلحفاة، وأما هاتان اليدان الناصعتا البياض الجميلتان فكانتا يدي نعيمة. وكان برد يناير يكاد يتجمد ثلجا في أركان الصالة، تلك الصالة التي بقيت على حالها القديم بحصرها الملونة وكنباتها الموزعة على الأركان، إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازي قد اختفى وتدلى مكانه من السقف مصباح كهربائي، كذلك تغير المكان؛ فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور الأول. بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور تيسيرا للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء السلم العالي. ثمة تغير أدرك أهل البيت أنفسهم؛ فقد جف عود أمينة واشتعل رأسها شيبا، ومع أنها لم تكد تبلغ الستين إلا أنها بدت أكبر من ذلك بعشر، ولكن تغير أمينة كان لا شيء بالقياس إلى ما جرى لعائشة من تدهور وانحلال، كان مما يدعو إلى السخرية أو الرثاء أن شعرها لم يزل مذهبا وعينيها زرقاوان. ولكن هذه النظرة الخامدة لا توحي بحياة، وهذه البشرة الشاحبة بأي مرض تنضح؟ وهذا الوجه الذي نتأت عظامه، وغارت فيه العينان والوجنتان أهو وجه امرأة في الرابعة والثلاثين؟ وأما أم حنفي فبدا أن الأعوام تتراكم عليها، ولا تنال من جوهرها. لم تكد تمس لحمها وشحمها فتكاثفت كالغبار، أو كالقشور فوق جلدها وحول رقبتها وثغرها، غير أن عينيها الساهمتين لاحتا مشاركتين لأهل البيت في حزنهم الصامت. نعيمة وحدها بدت في هذه المجموعة كالوردة المغروسة في حوش مقبرة، استوت شابة جميلة في السادسة عشرة من عمرها، مجللة الرأس بهالة ذهبية، مزينة الوجه بعينين زرقاوين، كعائشة في شبابها أو أفتن ملاحة، ولكنها كانت نحيفة رقيقة كالخيال، تعكس عيناها نظرة وديعة حالمة تقطر طهارة وسذاجة وغرابة عن هذا العالم، وكانت ملتصقة بمنكب أمها كأنها لا تود أن تفارقها لحظة. وقالت أم حنفي، وهي تفرك يديها فوق المجمرة: سينزل البناءون عن العمارة في هذا الأسبوع بعد عام ونصف من العمل ..
فقالت نعيمة في نغمة ساخرة: عمارة عم بيومي الشرباتلي ..
Unknown page