Sudan
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Genres
وإن شهادة هذين الشاهدين كافية لدحض التهم التي وجهوها إلى إدارتنا.
وبعد فقد كانت النتيجة لاحتلالنا تلك الأقطار أن مهدنا الطريق وأعددناها - كما قال الدكتور جونكر - لانتشار المدنية في الزمن القادم، كأنما قد ألقيت على عاتقنا مهمة تمهيد طريق المدنية في ربوع أولئك القبائل المتبربرة غلاظ الأكباد وكسر صلابتهم.
فعرضنا أجسامنا لسهامهم المسممة، ووقعنا في مكامنهم المخيفة، واحتملنا وقاسينا الأخطار والآلام التي يلاقيها ممهدو سبل المدنية الأول لأجل أن يأتي غيرنا ويحتل محلنا ظلما وبكيفية غير مشروعة.
وهنا أكرر ما قاله الماجور ستيجاند الذي حكم تلك النواحي في العهد الجديد في مؤلفه «خط الاستواء» ص99 بصدد حكم الزنوج فيما بين الفترة الأولى والثانية، وهاك معربه:
كانت الأهالي في عهد الحكومة المصرية القديمة - كما يستنتج من التدابير الوقتية التي اتخذت في ذلك العهد - أكثر عددا وأحسن نظاما وترتيبا وأشد جنوحا للعداوة عن العهد الحاضر. أما الآن فمسألة الدفاع عن نقطة من النقط ضد السكان المقيمين تحت إدارتنا لا تقتضي تعبا ولا نصبا، حتى إنه يصعب أن يتصور الإنسان حالة كهذه. ا.ه.
فالأمر الوحيد الذي يمتاز علينا به خصمنا الآن ينحصر في قوته وضعفنا، وهذا الموقف يخوله أن يملي علينا إرادته ويعدها بمثابة شريعة يجب العمل بمقتضاها. غير أن هذا لا ينبغي أن يحول دون ثبات المصريين وتمسكهم بحقوقهم، ولا يجعلهم يفرطون في شيء منها حتى ولو اغتصبت منهم اغتصابا؛ لأنه لو سلك أحد منهم مسلكا مناقضا لذلك وفرط في تلك الحقوق يكون قد لوث سمعته وارتكب خيانة وطنه، واستحق السخط واللعنة من الأجيال الآتية.
وليس المطالب بذلك ولاة الأمور ومن بيدهم الحل والعقد فقط؛ بل الأمة جمعاء. نعم إننا لم نجد في الأمة إلى الآن مفرطا في حقوق مصر في السودان. ولكننا وجدنا مع الأسف الشديد أن المفرطين هم أولئك الذين يتولون مناصب الحكم، ويظنون أن بقاءهم بها متوقف على إرضاء الإنكليز، والسكوت عن حقوق مصر، والإغضاء عما يعمل في السودان وغير السودان، فيجرون البلاء على الأمة ويضيعون هذه الحقوق المقدسة العظيمة في مقابل منفعتهم الشخصية وتمتعهم بالحكم أياما معدودة، وهذا خسران ليس بعده خسران، وبيع بالوكس طالما رجعنا منه بصفقة المغبون.
وقد حدث أخيرا أن أقيمت حفلة في السودان بمناسبة انقضاء العام الحادي والعشرين على زيارة صاحبي الجلالة ملك وملكة الإنكليز له، فأرسل الحاكم العام برقية لجلالتيهما رفع بها فروض الإخلاص بالنيابة عن أهالي السودان، فجاء الرد من جلالة الملك جورج على هذه البرقية مبدوءا بهذا النص:
ليس من تحيات أشهى إلي من التحيات التي رفعتموها إلي من شعبي في السودان ... إلخ. إلخ.
وقد نشرت البرقيتين جريدة حضارة السودان بتاريخ 4 فبراير سنة 1933، ومرت بين سمع الحكومة المصرية وبصرها دون أن تحرك ساكنا أو تهتم بالأمر، مع أن هذا التصريح الخطير لم يحدث في سنة من السنين الماضية ولا في مناسبة من المناسبات الأخرى. وهي نغمة جديدة نخشى أن تجر وراءها أخطارا عظيمة.
Unknown page