343

Al-Sūdān min al-tārīkh al-qadīm ilā riḥlat al-baʿtha al-miṣriyya (al-juzʾ al-thānī)

السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)

Genres

وفي سنة 274 ميلادية تولى الإمبراطور دقلديانوس فسادت السكينة في مصر وغيرها من أملاك الدولة الرومانية، غير أنها لم تستمر طويلا، بل انقلبت إلى اضطرابات شديدة بسبب اضطهاده للمسيحيين؛ فقد كان وثنيا كارها للمسيحية، ورغب أن تضعه الرعية موضع الألوهية؛ ليضمن بذلك حياته وملكه فلم يخضع لإرادته المسيحيون خصوصا في مصر.

وحدث أن والي دقلديانوس في مصر خرج عن طاعته، فسار إليه دقلديانوس وحاصر الإسكندرية ثمانية أشهر ثم فتحها عنوة، وأطلق الجنود فيها يقتلون وينهبون، وأحرقوا منها قسما كبيرا. وحدث أيضا أن قصر دقلديانوس بمدينة نيقوميديا اشتعلت فيه النار سنة 1303، فاتهمت الحكومة المسيحيين بحرقه، فثار دقلديانوس وأخذ يتوعد المسيحيين وينذرهم بالويلات التي سيلحقها بهم، خصوصا لما رأى المستعمرات الرومانية تسعى لتنال استقلالها، ولا سيما بعد تدينها بالدين المسيحي، وأفهمه رجاله أن السبب في هذه الاضطرابات في أملاك الإمبراطورية وعدم خضوع الشعوب له إنما منشؤه الديانة المسيحية التي تدين لإله قدير وتطيعه وتقول إنه أعلى من الإمبراطور الروماني وأرفع، وتنكر أن هذا الإمبراطور نائبه.

ومما جعله يزداد حقدا على المسيحية والمسيحيين أن المنجمين والعرافين الذين دعاهم مرارا لينبئوه بما يكون في مستقبله قالوا إنه يعسر عليهم إغراء الأرواح على مجاوبتهم وإظهار ما يخبئه القدر ما دام قصر الإمبراطور مفعما بجماعة المسيحيين الكفرة الذين يمنع وجودهم في القصر تجلي الأرواح وظهورها.

فعزم حينئذ دقلديانوس على محاربة المسيحية في جميع أنحاء مملكته وعلى محوها من وجه البسيطة والقضاء عليها قضاء مبرما لا تقوم لها قائمة بعده. ولكنه بدأ بمقاومتها أولا في مصر؛ لأنه لقي من المصريين مقاومة شديدة فقد أبوا أن يخضعوا للظلم والاستبداد، فكثرت الفتن الداخلية والثورات على الرومان، فكانت مصر مصدر مشكلات جمة للدولة الرومانية.

وبدأ الاضطهاد في فبراير سنة 303 فسار الوالي بموكب حافل إلى كنيسة نيقوميديا الكبرى يصحبه جم غفير من الموظفين وحاملي الفؤوس، فكسروا الأبواب، وأحرقوا جميع كتب الكنيسة، ثم أخذ العمال في هدم الكنيسة حتى دكوا معالمها. وفي غد ذلك اليوم صدر منشور إمبراطوري بمحو الدين المسيحي، وهذا نصه: (1)

يجب هدم جميع الكنائس وإزالتها من الوجود. (2)

يجب إحراق كل الكتب المقدسة. (3)

جميع المسيحيين الموظفين في خدمة الحكومة لا يكتفى بفصلهم، بل يحرمون من حقوقهم الوطنية أيضا لكي يتسنى لأعدائهم أن يذيقوهم أنواع العذابات وأشكال القسوة. (4)

كل المسيحيين غير الموظفين يصيرون عبيدا أرقاء.

وحينما علق المنشور في الأسواق والأماكن العمومية وازدحم الناس لقراءته، اقتحم شاب مسيحي جريء القلب شديد المنكب، الجمهور المزدحم، وتقدم ليقرأ المنشور، فلما علم بما فيه غضب من تدخل الرومان في أمور الديانة، ومد يده بسرعة عظيمة وتناول منشور العاهل الروماني ومزقه تمزيقا ونثره في الهواء، وفعل ذلك بغاية الشجاعة والحزم؛ فألقوا القبض عليه وأذاقوه من العذاب ألوانا شتى، ثم جردوه من ثيابه ووضعوه في نار خفيفة ليطول عذابه إلى أن توفي. فكان أول من وقف في وجه دقلديانوس واستشهد وضحى بنفسه في مصر في عهده. وعرف ذلك الشاب فيما بعد باسم الشهيد ماري جرجس.

Unknown page