Sudan Misri
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
Genres
أما ستانلي الذي أكسب الإنكليز منابع النيل في خط الاستواء فإنه رفع إلى مقام الأشراف، ورسم الخطة التي ينفذها الإنكليز اليوم فقال:
الآن وقد وضعت الشركة الأفريقية يدها على خط الاستواء، وصارت منابع النيل في قبضتنا بعدما أكرهنا المصريين على إخلاء السودان، وبات باستطاعتنا أن نفتح السودان بمد خط حديدي بين البحر الأحمر والنيل لا يكون طوله أكثر من 300 كيلو متر، ثم نسير من بربر إلى الدرجة الخمسين طولا فنأخذ الأبيض وسنار، ثم نصعد في النيل الذي يكون قد صار ملكنا إلى غاندوكرو، وبذلك يكون النهر لنا على مسافة 1500 ميل، ونصل إلى البحيرات التي هي ملكنا، والتي منها ينبع النيل؛ فيصير بذلك السودان ثم مصر مستعمرات إنكليزية.
ولا شك بأن الألمان كانوا يزاحمون الإنكليز بالمناكب في تلك الجهات، ولكن انكسارهم بالحرب أوقع مستعمرتهم في قبضة الإنكليز فلم يبق لهم مزاحم هناك ولا عقبة في طريق سكة حديد الكاپ. على أن ذلك كله تم لهم على حساب مصر وبأموال مصر وعلى أيدي المصريين الذين يخادعونهم عن أنفسهم حتى الساعة بكلمة: «ضمانة مياه النيل» وهي ضمانة لا قيمة لها كما مر بالقارئ.
الخاتمة
سياسة إنكلترا وسياسة مصر
لقد بسطنا شيئا من سياسة الإنكليز في السودان وفي تحكمهم بالري أو بالأحرى بالنيل الذي قال فيه هيرودت: «إن الله خلق العالم كله وأما النيل فإنه خلق مصر» فما هي سياستنا التي نقابل بها سياستهم، بل كيف يجب أن تكون سياستنا التي تنجح مقاصدنا وتجعلنا وتجعل أولادنا وأولاد إخواننا السودانيين أحرارا لا يخشون ضرا ولا يخافون مستقبلا مكفهرا؟!
إنا إذا ما تساءلنا هذا السؤال خلص إلينا الجواب عليه مما يطوف بأنفسنا من الميول دون أن نعللها، ودون أن نرجع الأسباب إلى مراجعها وأصولها؛ لأن النفس هي التي تملي وما تمليه النفس لا يخطئ ولا يزل.
ففي سنة 1881 فتح البرلمان المصري وعلى كرسيه 20 نائبا عن بلاد السودان، فعلى تلك الكراسي والمقاعد امتزجت مصر بالسودان امتزاجا كليا تاما، ولم يكن في قاعة المجلس نائب سوداني وآخر مصري؛ بل كان الجميع واحدا، وكان النائب المصري نائبا عن السودان ومصر وكان النائب السوداني نائبا عن مصر والسودان، فكان البلدان واحدا، وإذا لم يكن البلدان واحدا ومنافعهما مشتركة متلاحمة مترابطة كأنها منفعة واحدة نجم عن ذلك حتما تضارب المنافع، ومتى تضاربت المنافع واختلفت وقع الشقاق، ومتى وقع الشقاق تلاه الخصام، وهذا ما يرمي إليه الإنكليز بفصل السودان عن مصر حتى يظلوا الحكم بينهما وأصحاب السلطة على القطرين معا، وهذا ما يجب أن نتفادى عنه كل التفادي حتى نمنع النفور بين الأخوين بتفريق منافعهما، وحتى نمنع تسلط الأجنبي عليهما معا بحجة الدفاع عن مصلحة هذا آنا ومصلحة ذاك أونة أخرى.
ومن العيب في السياسة وسياسة بعد النظر والنظر إلى الغد. ما يقولونه ويرددونه عن «ضمانة ماء النيل لمصر» فمن هو الضامن ذلك؟ وما قيمة هذه الضمانة؟ وإلى كم تدوم؟ ألا يعد وجودها ذاته سببا للخلاف والخصام، وإذا هي نفذت في عشرة أعوام أو عشرين أو أربعين أو خمسين أو في ما هو فوق ذلك فهل تنفذ إلى الأبد، ونحن الآن نحو 14 مليونا وبعد ربع قرن - وربع قرن بل قرن كامل في حياة الأمم لا يستحق أن يذكر - يربو عدد المصريين على 20 مليونا ويربو عدد السودانيين على 12 مليونا، فأين يجد المصريون مرتزقا وهم الآن يزدحمون في أرضهم ازدحاما شديدا حتى إن الكيلو متر المربع في المنوفية يسكنه 365 شخصا، وهؤلاء السكان المزدحمون في وادي النيل ازدحاما شديدا جدا كانوا يكتفون بالأمس القريب بالضروريات القليلة الزهيدة، وهم لا تكفيهم الآن الكماليات، وغدا يزدادون مدنية وحضارة وعلما، وقد نص دستورهم على التعليم الإجباري فتزداد حاجتهم وتقل ثروتهم وتضيق أرضهم فإلى أين يكون المصير أإلى الصحراء غربا أم شرقا أم إلى الصناعات ومصر لا يحتمل أن تكون لها صناعة كبيرة إذا هي جدت في هذا السبيل؛ بل إن كل ما يمكن أن يتوافر لها الصناعات الصغيرة. فمجرى النيل هو هو طريق الرزق بقوة التقاذف الذي لا تشعر به الأمم كأن ينتقل ابن أسوان إلى دنقلة وهكذا صعودا، وابن قنا إلى أسوان، ويلحق به في قنا ابن جرجا ... وهكذا من مصب النيل إلى منبعه.
فمن جعل حلفا حدا فاصلا بين مصر والسودان فقد جعل مصر والمصريين مسجونين في واد ضيق، وجعلهم عبيدا خاضعين لمن بيده منبع النيل.
Unknown page