وأعرف أيضا أستاذا خرج من صفه وما زال عقله مشغولا بحل معضلة، فرأى في طريقه إلى غرفته كاهنا عريض الأكتاف واقفا يصلي أمام تمثال في ساحة المدرسة، فشرع يخربش أرقاما على ظهره ظانا أنه أمام لوح أسود.
قل منا من لم يسمع بإديسون العظيم، فهذا الرجل الذي أدرك كثيرا من أسرار الطبيعة واستخدمها لرفاهية الإنسان لم يعلم أن البريد ينقل بسرعة كل ما يعوزنا من القارات الأخرى، فلما قيل له ظهر في ألمانيا كتاب جليل عن الكهرباء، قال: «ابعثوا رسولا إلى ألمانيا يجيئني به.»
وصاحبنا الجاحظ النابغة العظيم حصر مثل هذه الغفلة في المعلمين، فكتب دفتر المعلمين المشهور فأضحك الناس ولا يزال يضحكهم منهم، وقد نسي مولانا الجاحظ أن العلماء العظام مثله أغفل من المعلمين أحيانا، وإني لأعجب من الجاحظ العظيم الذي لم يترك شاردة ولا واردة عن غفلة المعلمين إلا دونها في ذلك الدفتر، كيف نسي غفلته هو حين حدثنا أنه نسي اسمه ثلاثة أيام!
إن هذه الغفلة قد تنفع في العلم فينصرف صاحبها النابغة بكليته إلى قضية ما فيحلل ما اعتاص منها، ليأتي رجل وسط ويستغل تلك الموهبة الخارقة.
إن علم هؤلاء لا ينفعهم بنافعة في الحياة، ولكن غيرهم يستفيد من ذكائهم ويستغل علمهم ومعرفتهم، فهم أشبه بالأرض التي تطعم ولا تأكل من ثمارها الشهية، كثيرا ما ترى رجلا يندب أمامك حظه ويرى نفسه فوق رؤسائه، بل يرى أنه أهل لأن يدير أمته ويدير شئونها، ولكن الناس حساد يكرهون أن يسودهم عبقري مثله؛ ولذلك ظل هو حيث هو بينما فلان الذي كان رفيقه في المدرسة وكان دونه في الصف يتمتع اليوم بمركز مرموق، فإلى صاحبنا هذا قل: لقد ظلمتك مدرستك التي عظمت ذكاءك لأنها نظرت إليك من جهة واحدة ونمت فيك موهبة لا تطعمك خبزا ولا تسقيك كأس ماء بارد، نظرت إلى نخروب عامر من دماغك وعميت عما في نخاريبه الأخر من خراب، فجاء حكمها العام فاسدا.
إن كتاب الحياة يقرأ بغير الطريقة التي تقرأ بها الكتب العلمية والفلسفية والأدبية، فلا تتعجبوا إذا رأيتم من لا يعرف الخمس من الطمس يتفوق في ميادين شتى على الشباب الجامعيين الذين قتلوا العلوم الحديثة درسا، تعلموا - مثلا - الاقتصاد السياسي ثم ما عرفوا اقتصدوا ولا ساسوا، وحذقوا مواقع النجوم في قبة الفلك بينما لا يدرون موقعهم على الأرض، وتعلموا سرعة النور وانتشار الضوء ولا يزالون أيضا كالسلحفاة قابعين في مدارجهم لا يعرفون أن العمل غير العلم.
إن الرجل العملي المحنك هو الذي خلق لاستغلال العقول الغنية الرفيعة التي لا تعرف أن تفكر إلا بالقضايا التي تستبد بذكائها، فكم حال انصباب بتهوفن على رائعاته الموسيقية دون تفكيره بخبزه اليومي، فلم يكن لديه أحيانا غير قطعة بسكوت وكأس ماء لغدائه!
حقا إن العبقرية نعمة وكارثة في وقت معا، وما أجمل وأصدق قول أم الإسكندر لابنها: «إني أتمنى لك أصحاب عقول تخدمك، ولا أتمنى لك عقلا تخدم به غيرك.»
أكلة لحوم البشر
فكرت أياما في موضوع أكتبه فما اهتديت إلى واحد يعجبني، ولكن المصادفة كما يقولون خير من الميعاد، فجاءني الموضوع إلى البيت، ففي ليلة جيبها مزرور ونجمها مغموم، وقد أعددت لها كافات الحريري السبعة إلا واحدا، دخل علي رجل ليسهر عندي، فتعجبت كيف قطع مسافة ميلين وأكثر في هاتيك الليلة السوداء، ولكني عظمت أجره وشكرت سعيه. هذا الرجل يطلقون عليه في جوارنا لقب منشار الصقالة، له لسان كمدقة الطبل يضرب به دائما على قفا كل غائب من جيرانه وإخوانه، وبينما كنت أتأهل كل به قلت في نفسي: هذا هو موضوعي.
Unknown page