لقد أصبح التعليم اليوم عمليا، فلماذا لا تكون قراءتنا مثله عملية؟ فلنقرأ في أوقات فراغنا سير رجال نهضوا بأوطانهم من الحضيض إلى الذرى فصاروا هم قمما إنسانية خالدة، إن قراءة قصة هؤلاء تدفعنا إلى المحاولة، فنصيب ولو بعض الشيء مما أصابوا.
فإذا قرأنا تاريخ رجال البر والإحسان وماشيناهم في طريق حياتهم، فلا شك في أن تلك المرافقة تحرك فينا عاطفة الإحساس إلى البؤساء والمساكين. وإذا تصفحنا سيرة مثالي رفيع الأخلاق، حاولنا أن نقتبس من فضائله شيئا تزدان به شخصيتنا.
لهذه الغاية النبيلة كتبوا السيرة النبوية وكتاب الاقتداء بالمسيح، فعلينا نحن في هذا العصر أن نكثر من قراءة سير الأبطال، ففي السياسة أبطال نبلاء حرروا الأمم والشعوب، وفي الأدب فلاسفة وكتاب وشعراء مروا عجالى في مجاهل التاريخ ولكن خطواتهم الرصينة عبدت الطريق للذرية. فإذا قرأت - مثلا - سيرة فتى نجم من كوخ متداع ثم صار زعيما مطاعا وقائدا أكبر لأمته، أفلا يحرك ذلك همتك مهما كانت ساكنة؟ ألا تتمنى في قعر نفسك لو تستطيع أن تعمل ولو بعض الشيء؟ فاقرأ كثيرا من أخبار هؤلاء فلعلك واجد عند بعضهم ما يلائم ميولك وأهواءك.
لا تحتقر نفسك ولا تقل من أنا، فأعاظم الرجال ليسوا خيرا منك إلا بجدهم وثباتهم وسعيهم الحثيث نحو الغاية.
اسمح لي أن أصارحك القول: إن أجل ما أقرأ فائدة هو ما تنبئني به الكتب عن هؤلاء العباقرة، وخصوصا من كانوا يسقطون في معترك الحياة ثم ينهضون ليدخلوا في معترك جديد.
قد يستولي علي الكسل صباحا، فأتذكر مثلا أن أحد هؤلاء الرجال كان ينهض في الساعة الفلانية ويعمل ساعات، فأنهض حالا إلى عملي متشبها به وإن لم أدرك ما أدرك. إن تاريخ الرجال العظام هو خير مدرسة للناس، فعلى السياسي أن يقرأ سير السياسيين، وعلى التاجر أن يقرأ سير أكابر رجال الأعمال، وعلى الأديب أن يقرأ سير الأدباء، ففي هذه السير دروس عظيمة الفائدة وهي ما تدفعنا دائما إلى الأمام.
إذا كنا نحب كثيرا بطل قصة خيالي ونتشبه به، فكيف بنا إذا قرأنا سيرة رجل عرفنا أنه عاش كما نعيش نحن وعمل ما نعمل؟ فلو لم يتشبه نابليون بمن تقدموه من أبطال لما كان ذاك القزم من عمالقة التاريخ، وكذلك قل في جميع الرجال على اختلاف أشكالهم ومشاربهم وميولهم.
ليس تاريخ الأمة إلا تاريخ بضعة من رجالها، فهؤلاء الرجال العظام هم الذين يوجدون أمة لم تكن، أو يبعثون أمة شاخت وهرمت حتى دفنت حية في ظلمة تاريخها ...
من يستطيع أن يتخيل النهضة العربية دون أن تمر أمامه صورة أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية وهارون والمأمون وعبد الرحمن وغيرهم؟ ومن يتمثل أثينا بدون ديمستين وسقراط وأفلاطون وأرسطو؟ وهل تاريخ رومية غير قيصر وشيشرون وأوريليوس ويوستانيوس؟ وهل كانت قرطاجنة لولا هانيبال؟
لا تعجب إن رأيتني أخلط لك رجال السيف برجال القلم، إنني أنحو بذلك نحو فولتير، كتب فولتير إلى أحدهم عندما كان يعد كتابه «تاريخ لويس الرابع عشر»:
Unknown page