Studies in the Origins of the Arabic Languages
دراسات في أصول اللغات العربية
Publisher
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Edition Number
السنة السادسة-العدد الثالث-رجب ١٣٩٤هـ
Publication Year
فبراير ١٩٧٤م
Genres
مدخل
...
دِرَاسات في أُصوُل اللُّغة العَرَبيَّة
بقلم: الأستاذ عبد العزيز القارئ المدرس بمعهد الجامعة الإسلامية الثانوي
في عدد سابق من مجلة الجامعة الإسلامية١ أتحفنا فضيلة شيخنا الجليل الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ببحث قيم عن ما وقع في القرآن بغير لغة العربية، وكانت آراؤه التي أودعها بحثه وتعليقاته على كلام من سبقه من علماء الإسلام مهمة، ولقد استفدت منها كثيرًا، وكنت أتتبع هذا الموضوع منذ زمن في غمرة تتبعي ودراستي لحديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف "..
ومما أعطى البحث المذكور أهمية خاصة إلمام فضيلة كاتبه بعدد من اللغات منها (العبرانية) وهذا مما يسهل مهمة المقارنة بين اللغات المعنية في هذا البحث.
فأحببت أن أسهم فيه بحلقة أخرى تضم إلى حلقاته يتأمل فيها شيخنا الدكتور ويزودنا بمزيد من آرائه، ويستفيد منها القارئ، وخاصة من أشكل عليه هذا الأمر ولم يفهم سره٢.
_________
١العدد الثالث من السنة الثالثة المؤرخ بمحرم ١٣٩١هـ.
٢ أعني به بحثًا نشر حول نفس الموضوع في العدد الأول من السنة السادسة المؤرخ برجب ١٣٩٣هـ فقد أثار كاتبه (ص٨٠) الإشكال حول المعرَّب في القرآن بطريقة تدل على أنه لم يطلع على البحث المشار إليه وتدل على عدم اطلاع كاف في الموضوع.
1 / 115
ولقد رأيت من الضروري لاستكمال الصورة الواضحة أن تشمل دراستي موضوعين حيث ينبني أحدهما على الآخر:
١- أصل العرب ومنشؤهم.
٢- اللغة العربية: نشأتها، والمراحل التي مرت بها.
ولا أدعي أنني آت فيهما بآراء حاسمة ونتائج نهائية، أو أنني مستوفٍ للبحث ومعطٍ له حقه، إنما هي محاولة للدخول في دراسة واسعة متكاملة دقيقة تحتاج إلى جهد عظيم، وعناء شديد ووقت طويل..
١- العرب: من المجمع عليه أن القرآن أنزل بلغة العرب، وأن الله ﷿ اختار هذه اللغة العظيمة لتكون الوعاء الذي يحمل كلامه المنزل على رسوله، كما اختار أمة العرب ليكونوا الرسل الذين يبلغون دعوته للأمم و﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾: فاختياره ﷿ لهذه اللغة يدل بلا ريب على أنها أفضل اللغات وأفصحها، كما أن اختياره لأمة العرب ليكونوا حملة الرسالة ويكون الرسول منهم يدل بلا ريب على أنهم كانوا أفضل الأمم، وأقربها للحق، وأكثرها صلاحية وتهيؤًا لحمل رسالة الإسلام إلى العالم.. فمن هؤلاء العرب؟ أما تعريف العرب، وتحديد أصل بدايتهم، ونشأتهم ومساكنهم وديارهم التي يتضمنها اسمهم، فهذا مما كثر فيه الاختلاف، وندر فيه القطع واليقين وكل ما قيل فيه يحتمل مزيدًا من النقد والتمحيص، ويحتاج إلى دراسة علمية دقيقة تستخدم فيها الوسائل المعاصرة التي هي أكثر فعالية في تحديد مثل هذه القضايا التاريخية.. ومن هذه الوسائل: إجراء مسح دقيق شامل لديارهم واستخراج بعض الآثار ودراستها، مع أن ما أخرجته الحفريات من آثار قديمة هي في حد ذاتها
١- العرب: من المجمع عليه أن القرآن أنزل بلغة العرب، وأن الله ﷿ اختار هذه اللغة العظيمة لتكون الوعاء الذي يحمل كلامه المنزل على رسوله، كما اختار أمة العرب ليكونوا الرسل الذين يبلغون دعوته للأمم و﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾: فاختياره ﷿ لهذه اللغة يدل بلا ريب على أنها أفضل اللغات وأفصحها، كما أن اختياره لأمة العرب ليكونوا حملة الرسالة ويكون الرسول منهم يدل بلا ريب على أنهم كانوا أفضل الأمم، وأقربها للحق، وأكثرها صلاحية وتهيؤًا لحمل رسالة الإسلام إلى العالم.. فمن هؤلاء العرب؟ أما تعريف العرب، وتحديد أصل بدايتهم، ونشأتهم ومساكنهم وديارهم التي يتضمنها اسمهم، فهذا مما كثر فيه الاختلاف، وندر فيه القطع واليقين وكل ما قيل فيه يحتمل مزيدًا من النقد والتمحيص، ويحتاج إلى دراسة علمية دقيقة تستخدم فيها الوسائل المعاصرة التي هي أكثر فعالية في تحديد مثل هذه القضايا التاريخية.. ومن هذه الوسائل: إجراء مسح دقيق شامل لديارهم واستخراج بعض الآثار ودراستها، مع أن ما أخرجته الحفريات من آثار قديمة هي في حد ذاتها
1 / 116
أيضًا لا تعطينا معلومات قطعية في غالب الأحوال، ولذلك فإن الدارسين في هذا المجال والمهتمين بهذه الحفائر سرعان ما تتغير آراؤهم كلما أنتجت الحفائر شيئًا جديدًا، وقد بذل الغربيون جهدًا كبيرًا في هذا الشأن وحاولوا الاستفادة منه.
ومما ساعد على تشعب الخلاف حول مسألة - أصل العرب - أن تاريخهم قبل الإسلام يلفه غموض شديد حيث لم يدون ولم ينقل إلينا بالقدر الكافي لإيضاح معالمه، لأن العرب في الغالب كانوا أمة أمية لا تدون ولا تقرأ، وقلما تؤرخ، فإن أرخت فبالحوادث المشهورة كقولهم: عام الفيل، وعام الغدر، وعام الماء، وزمن القتاد١.
إلا أن هناك نواحي في هذا التاريخ يكاد ينعقد عليها إجماع علماء الأنساب والتاريخ، وأشارت نصوص القرآن والسنة إلى بعضها، فنحن نلم من هذين المصدرين بما يكفي لإعطاء صورة واضحة، وإلقاء ضوء ساطع على موضوعنا، ولعل استنتاجاتنا إذ حصرناها في ذلك تكون أقرب إلى القطع واليقين منها إلى الحدس والتخمين..
أصل العرب: اتفق علماء الأجناس وعلماء الأنساب على أنهم من - الفصيلة السامية - وكذلك المؤرخون المسلمون أرجعوا أصلهم إلى - سام بن نوح ﵇ وهو أحد الأصول الثلاثة التي تتفرع منها الأمم وهي (سام، وحام، ويافث)، روى ابن عبد البر في كتابه عن أنساب العرب والعجم حديثًا عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ أنه قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" ورواه أيضًا الترمذي وأحمد والحاكم عن سمرة، وذكره الحافظ العراقي في كتابه - القرب في محبة العرب - ٢ وحسنه.. ومن المعلوم أن تمايز الأجناس والأمم إنما حدث بالتدريج ابتداءً بهؤلاء الأصول الذين يمثلون ذرية نوح الباقين في الأرض٣. ولكننا لا نستطيع _________ ١ المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب الهاشمي ص٥ (ط المكتب التجاري بيروت) . ٢ توجد منه نسخة مخطوطة بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة. ٣ راجع تفسير الآية رقم ٧٧ من سورة الصافات.
أصل العرب: اتفق علماء الأجناس وعلماء الأنساب على أنهم من - الفصيلة السامية - وكذلك المؤرخون المسلمون أرجعوا أصلهم إلى - سام بن نوح ﵇ وهو أحد الأصول الثلاثة التي تتفرع منها الأمم وهي (سام، وحام، ويافث)، روى ابن عبد البر في كتابه عن أنساب العرب والعجم حديثًا عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ أنه قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" ورواه أيضًا الترمذي وأحمد والحاكم عن سمرة، وذكره الحافظ العراقي في كتابه - القرب في محبة العرب - ٢ وحسنه.. ومن المعلوم أن تمايز الأجناس والأمم إنما حدث بالتدريج ابتداءً بهؤلاء الأصول الذين يمثلون ذرية نوح الباقين في الأرض٣. ولكننا لا نستطيع _________ ١ المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب الهاشمي ص٥ (ط المكتب التجاري بيروت) . ٢ توجد منه نسخة مخطوطة بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة. ٣ راجع تفسير الآية رقم ٧٧ من سورة الصافات.
1 / 117
أن نجزم ببداية تميز العرب كأمة مستقلة في أي تاريخ كان فضلًا عن أن نحدد لهم أبًا بعد - سام - تناسلوا منه: سواء كان هذا الأب هو يعرب، أو قحطان، أو عابر بن شالخ بن أرفخشذ، أو نابت بن إسماعيل، أو حتى إسماعيل ﵇ نفسه..
فالخلاف محتدم في أي من هؤلاء هو الأب الأول الذي يرجع إليه العرب كما سيأتي بيانه عند الكلام على قحطان وعدنان..
لكن يبدو أن المنطقة التي عرفت لدى علماء التاريخ اليوم (بالمثلث) هي منشأ الحضارات ومنطلق الأجناس، وهي موطن الحضارة الأولى، وتمتد من أراضي الرافدين بالعراق في أحد ساقي المثلث وواد النيل في الساق الأخرى وبينهما بلاد الشام في قاعدة المثلث وعلى رأسه اليمن وحضرموت (انظر الشكل رقم - ١-) .
1 / 118
فمن هذه المنطقة نزحت البشرية إلى سائر أرجاء المعمورة وانتشرت الحضارة وفيها أنزلت الرسالات التي ذكرها القرآن، ولكن في أي جزء من المثلث كان المنطلق في جنوبه - أي اليمن - أم في شماله أي (العراق) أو (سيناء) . . .
مما يؤيد عندي الرأي القائل بأن (العراق) كان هو المنطلق أن أحدًا من المفسرين لم يذكر أن الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح هو في اليمن أو جنوب الجزيرة أو أي مكان آخر، وهذا ابن جرير وهو يستقصي أقوال السلف في تفسيره ينقل بأسانيده عن مجاهد، وسفيان، وقتادة، والضحاك وهم رواد التفسير أنه جبل بالعراق - بل بناحية الموصل منه - ويسند إلى ابن عباس أنه جبل دون تحديد موقعه، وإلى التابعي الجليل زر بن حبيش أنه ناحية بالعراق١ ولكن ابن كثير يذكر في تفسيره أن بعضهم يرى أنه الطور دون أن يسمي القائل البشر - سواء كان من العراق بالتحديد أو من الطور أو مما بينهما - فإننا نستطيع أن نقول: إنه حدثت عمليات نزوح كبيرة، وحركات هجرة واسعة لأبناء نوح ومنهم - الساميون - إلى سائر الأرجاء شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا ومن هذه - الهجرات - التحرك صوب الجنوب حيث أرض صحراوية تحيط بها البحار من الجهات الثلاث، وكانت هذه الهجرات بسبب الحروب والغارات أو بحثًا عن الكلأ والماء والأراضي الخصبة..
ويقول بعض الباحثين إن الإشارة إلى - بدو الآراميين - في التوراة يعني قسمًا من الآراميين الذين كانوا يسكنون الشام تحركوا صوب الصحراء الجنوبية حيث عرفوا فيما بعد بالعرب، ويرى أن كلمة (عرب) ترجع إلى أصل - آرام - ٢.
_________
١ تفسير ابن كثير (ط الحلبي بمصر) ٢ - ٤٤٧.
٢ عباس محمود العقاد في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء) .
1 / 119
القبائل العربية الحديثة
...
القبائل العربية القديمة:
وفي زمن متقدم جدًا عرفت بعض القبائل من هؤلاء التي استوطنت أنحاء من - الجزيرة العربية - كان معظمها في ثلاث مناطق منها حسبما علمنا.. (اليمامة) و(الشِحْر) من أرض اليمن و(الحِجْر) من أرض الحجاز.. ويسمي المؤرخون والنسابة المسلمون هذه القبائل بـ: طُسَم، وجَدِيس والعمالقة، وعاد، وثمود..
ويزيد ابن جرير الطبري وابن إسحاق: أمَيْم، وعبِيْل، وعبد ضَخْم، وجُرْهُم الأولى، أما طسم وجديس فسكنوا اليمامة في شرق الجزيرة العربية، وأما عاد فذكر القرآن مساكنهم وأنها (الأحقاف) وهي في جنوب الجزيرة العربية والأحقاف جمع حِقْف - بكسر الحاد - وهو الكثيب العظيم المستدير من الرمل، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ﴾ ١.
وأما ثمود فذكر القرآن منازلهم وأنها الحِجْر وهي في الشمال الغربي من الجزيرة العربية قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ﴾ ٢.
أما العمالقة فنزل بعضهم بمكة وبعضهم بيثرب من أرض الحجاز وقد وجدت بعض آثارهم في المنطقة..
ويذهب بعض علماء الأنساب أن ثمود كانت تسكن اليمن ثم انتقلت منها إلى الحجر٣.
ويمكن القول أن جميع هذه القبائل ينحدرون من أولئك الذين تسميهم - التوراة - بدو الآراميين الذين نزحوا من الشام والعراق صوب الجزيرة العربية.. وهذا يفسر التشابه الواضح في اللغات ومفرداتها بين الكتابات التي
_________
١ الأحقاف - ٢١.
٢ الحجر - ٨٠.
٣ عقود الجمان للقلقشندي ص١٩ (ط بتحقيق إبراهيم الأبياري ١٣٨٣هـ بمصر) .
1 / 120
وجدت في العراق وسوريا والتي تعود إلى العصور البابلية والآشورية والآرامية والكنعانية وبين الكتابات التي عثر عليها في منطقة اليمن أو حضر موت والتي تعود إلى العهود الحميرية والسبئية، حيث يدل ذلك على أن هناك أصلًا واحدًا مشتركًا..
هذا هو ما أمكن أن أجزم به من تاريخ العرب القديم مما يمكن أن يكون ذا علاقة بموضوعنا..
القبائل القحطانية: وهذه فترة أخرى من تاريخ نشأة أمة العرب تلي تلك الفترة الموغلة في القدم وهي الفترة التي وجد فيها ما نسميه - بالعرب العاربة - وفيها ظهرت قبائل عربية أخرى ودول وحضارات وبدأت فيها ما يُسمى - بالقبائل القحطانية -. ويتركز الضوء في هذه الفترة على الجزء الجنوبي للجزيرة العربية حيث اليمن وحضرموت وحيث استوطنت تلك القبائل.. وكان لهم تاريخ وملك وحضارة ذكر القرآن شيئًا منها، وكان من أشهر ممالكهم وحضاراتهم: مملكة سبأ، وربما كانت هي أشهرها وأهمها حيث كانت هي المفترق بين مرحلتين والفاصل بين عهدين كما سيتبين.. قال تعالى في وصف حضارة سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا
القبائل القحطانية: وهذه فترة أخرى من تاريخ نشأة أمة العرب تلي تلك الفترة الموغلة في القدم وهي الفترة التي وجد فيها ما نسميه - بالعرب العاربة - وفيها ظهرت قبائل عربية أخرى ودول وحضارات وبدأت فيها ما يُسمى - بالقبائل القحطانية -. ويتركز الضوء في هذه الفترة على الجزء الجنوبي للجزيرة العربية حيث اليمن وحضرموت وحيث استوطنت تلك القبائل.. وكان لهم تاريخ وملك وحضارة ذكر القرآن شيئًا منها، وكان من أشهر ممالكهم وحضاراتهم: مملكة سبأ، وربما كانت هي أشهرها وأهمها حيث كانت هي المفترق بين مرحلتين والفاصل بين عهدين كما سيتبين.. قال تعالى في وصف حضارة سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا
1 / 121
رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ ١.
وفي هذه الآيات ما يدل بوضوح على أن مناطق كثيرة من جزيرة العرب كانت عامرة خصبة وهي التي تمتد من اليمن حيث مسكن سبأ إلى الشام التي بها القرى المباركة وذلك في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين﴾ ٢.
فإن معنى وجود قرى ظاهرة آمنة بين اليمن والشام امتداد منطقة خصبة كثرة الزروع والثمار جيدة المناخ كثيرة العمران طيلة المسافة بينهما.. إذ أن خصوبة الأرض دائمًا تابعة لجودة الهواء والمناخ وتوفر الأمطار وينتج منهما انتشار العمران..
ثم أخبرت الآية عن حدوث التحول في هذه الحضارة، بعد انهيار سد مأرب وقضاء السيل على مظاهر حضارتهم، فتبدل حال الأرض من خصوبة إلى جدب تصوره الأنواع المذكورة في الآية: ﴿ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ فهذه أنواع من النباتات التي لا فائدة منها وتوجد غالبًا في الأراضي القاحلة، ومعنى هذا أن المناخ تبدل أيضًا وشح المطر، وينتج من هذين العاملين تضاؤل مظاهر العمران ووعورة المنطقة التي تعبر عنها الآية ببعد المسافة: ﴿بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ وكان هذا بداية تفرق هذه القبائل القحطانية ونزوحها من اليمن إلى سائر أنحاء الجزيرة، ولكن ما هذه القبائل؟
أصول القبائل القحطانية: روى بعدة طرق عن ابن عباس ﵄ أن رجلًا سأل النبي ﷺ عن سبأ ما هو؟ فقال ﷺ: "رجل ولد عشر قبائل، _________ ١ سبأ - ١٥ -١٩. ٢ راجع تفسير ابن كثير لهذه الآية..
أصول القبائل القحطانية: روى بعدة طرق عن ابن عباس ﵄ أن رجلًا سأل النبي ﷺ عن سبأ ما هو؟ فقال ﷺ: "رجل ولد عشر قبائل، _________ ١ سبأ - ١٥ -١٩. ٢ راجع تفسير ابن كثير لهذه الآية..
1 / 122
فسكن اليمن منها ستة والشام أربعة". رواه الترمذي وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم ورواه ابن عبد البر في كتابه - القصد والأمَم - من عدة طرق، واستقصى الحافظ ابن كثير طرق هذا الحديث في تفسيره لسورة سبأ وبيّن أنه حديث حسن وفي بعض ألفاظه سمّى بعض هذه القبائل فقال ﷺ: " تيامن الأزد والأشعريون وحمير ومَذْحج وأنمار الذين يُقال لهم بَجِيلَة وخَثْعَم وتشاءم لَخْم وجُذاَم وعامُلَة وغَسّان".
ويفصّل علماء الأنساب ذلك فيقولون إن سبأ وَلدَ القبائل القحطانية الكبرى وهي: حِمْير، وكَهْلان، وعمرو، وأشْعَر، وعامُلَة.
ومن هذه القبائل تفرعت العمائر والبطون: فمن (حمير) قضاعة ومن قضاعة جُهينة وبَلِي وكَلْب وبَهْراء وتنوخ ونَهْد ومَهْره وجَرْم، ومن (كهلان) جُذام ولَخْم وكِنْده وطيّء ومَذْحَج والأزْد وهَمْدان وبنو صُداء وخَوْلان وأنمار أما الأشعريون وعمرو وعامله فلم تتفرع إلى كثير من الفروع والمشهور لدى علماء التاريخ والأنساب أن الأشعريين بقوا في اليمن..١.
أما بقية القبائل فنزحت منها إلى الجزء الشرقي والشمالي من الجزيرة، فالأزد هاجر قسم منهم إلى عُمان وقسم إلى الحجاز، وطيّء نزلت عند جبلي أجأ وسلمى، وجهينة سكنت منطقة تمتد من ينبع إلى عقبة أيلة٢، ومن الأزد قسم نزل بيثرب وهم الأوس والخزرج ومنهم قسم نزح إلى الشام وهم غسان، ونزحت إلى الشام أيضًا عاملة، أما لخم فسكنت العراق، وأما جذام فتفرقوا في الديار وكان قسم كبير منهم بالشام.
القبائل العدنانية: في الوقت الذي كانت تتحرك فيه القبائل القحطانية في هجرتها الكبرى _________ ١ عقود الجمان للقلقشاندي. ٢ صفة جزيرة العرب للهمداني.
القبائل العدنانية: في الوقت الذي كانت تتحرك فيه القبائل القحطانية في هجرتها الكبرى _________ ١ عقود الجمان للقلقشاندي. ٢ صفة جزيرة العرب للهمداني.
1 / 123
كان منتشرًا في القسم الشمالي من الجزيرة العربية ما يُسمى - بالقبائل العدنانية - وهي التي تنحدر من عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل ﵉ فأبو العدنانيين بالإجماع هو إسماعيل ﵇ الذي نشأ في كنف جرهم إحدى القبائل العاربة القديمة، وصاهرهم، وإبراهيم ﷺ من البابليين، من العراق، وأم إسماعيل (هاجر) من مصر، فكأنما أراد الله ﷿ لحكمة عظيمة أن يغذي أصول العدنانيين بكل ذلك، ثم يشاء أن يكمل صهرهم وتهذيبهم باختلاطهم بالقحطانيين بعد الهجرة الكبرى..
ولكن من هو أبو القحطانيين؟ هل هو إسماعيل نفسه؟
هذا هو رأي بعض علماء الأنساب والمحدثين: أن عدنان وقحطان كلاهما من ولد إسماعيل، ومن هؤلاء الزبير بن بكار، وابن إسحاق، وابن حجر العسقلاني١، وعلى هذا القول يتخرج قول النبي ﷺ لناس من أسلم: "ارموا بني إسماعيل" ٢ والمعروف أن أسلم من قبائل الأنصار، والأنصار قحطانيون، وكذلك قول أبي هريرة للأنصار بعد أن روى قصة إبراهيم ﵊ وزوجه سارة: "فتلكم أمكم يا بني ماء السماء"٣.
لكني لا أرى في قوله ﷺ المذكور ولا في قول أبي هريرة ما يدل على أن القبائل القحطانية من نسل إسماعيل لاحتمال أن يكون داخل قبيلة أسلم المخاطبين في الحديث من الخلاف في أصلهم مثل ما داخل غيرها من القبائل التي اختلف في نسبتها إلى القحطانيين أو العدنانيين، هذا مع أنه روى ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبي ﷺ مر بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل" فيكون في الخطاب تغليب لخزاعة وفيها خلاف هل هي عدنانية أم قحطانية، وروى أحمد والبزار والطبراني عن عائشة أنه كان عليها رقبة من ولد إسماعيل فجاء سبي من خولان فأرادت أن تعتق منهم فنهانا النبي ﷺ ثم جاء
_________
١ فتح الباري ٦ -٥٣٧ (ط السلفية بمصر) .
٢ صحيح البخاري - كتاب الجهاد.
٣ صحيح البخاري - مناقب الأنبياء.
1 / 124
سبي من مضر من بني العنبر فأمرها أن تعتق منهم، وفي لفظ أنه ﷺ قال: "من كان عليه محرر من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير أحدًا". وفي هذا دلالة واضحة أن القحطانيين لا ينحدرون من إسماعيل ﵇.
أصول القبائل العدنانية: تنحدر القبائل العدنانية من نزار بن معد بن عدنان ولذلك يقال: كل عدناني فهو نزاري ومن نزار تفرعت القبائل العدنانية وهي: (مضر) ومنها قيس عيلان التي تتفرع إلى بطون هي: بنو غطفان،
أصول القبائل العدنانية: تنحدر القبائل العدنانية من نزار بن معد بن عدنان ولذلك يقال: كل عدناني فهو نزاري ومن نزار تفرعت القبائل العدنانية وهي: (مضر) ومنها قيس عيلان التي تتفرع إلى بطون هي: بنو غطفان،
1 / 125
وهوازن، وسَليم، وعُدْوان، (ربيعة) ومنها أسد ووائل، ومن أسد: عنَزَه، وجَدِيْلَة، وعُمَيْره، ومن وائل: بكر وائل، وتغلب، (خِنْدَف): ومن أشهر عمائرها هُذَيْل (كنانة): ومن عمائرها بنو مُدْلِج، وقريش، (قريش) وهي أشهر القبائل العدنانية وترجع كما ذكرت إلى كنانة:
روى مسلم في صحيحه والترمذي وأحمد من حديث واثلة بن الأسقع أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".
قال ابن عبد البر: فقريش عمارة رسول الله ﷺ، وكنانة قبيلته وعبد مناف بطنه.
٢- لغة العرب: اللغة هي القدرة على تسمية الأشياء، وقد أخبر ﷿ أنها مما فضل به آدم ﵇ فقال ﷿: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ١ فهذه الآيات تشير إلى أن اللغة تعلمها آدم من ربه ﷿ فيحتمل أن يكون ذلك تم بطريق الوحي فتكون اللغة حينئذ توفيقية ولكنني لا أرى في الآية ما يدل بوضوح على ذلك، إذ أن لفظة (علّم) ليست صريحة في الوحي ويمكن أن يكون ذلك قد تم بطريق آخر، وهو أنه ﷿ خلق في آدم القدرة على تسمية الأشياء ومعرفتها والإشارة إلى أشخاصها بأسمائها _________ ١ البقرة ٣١-٣٣.
٢- لغة العرب: اللغة هي القدرة على تسمية الأشياء، وقد أخبر ﷿ أنها مما فضل به آدم ﵇ فقال ﷿: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ١ فهذه الآيات تشير إلى أن اللغة تعلمها آدم من ربه ﷿ فيحتمل أن يكون ذلك تم بطريق الوحي فتكون اللغة حينئذ توفيقية ولكنني لا أرى في الآية ما يدل بوضوح على ذلك، إذ أن لفظة (علّم) ليست صريحة في الوحي ويمكن أن يكون ذلك قد تم بطريق آخر، وهو أنه ﷿ خلق في آدم القدرة على تسمية الأشياء ومعرفتها والإشارة إلى أشخاصها بأسمائها _________ ١ البقرة ٣١-٣٣.
1 / 126
وألهمه ذلك إلهامًا لا عن طريق الوحي المباشر، ولا شك أن ﴿الأَسْمَاء﴾ في الآية يُراد بها أسماء الأشياء حيث أردفها بقوله: ﴿كُلَّهَا﴾ فلا معنى لحصرها في أشياء مخصوصة، إذ لا مزية حينئذ لآدم يستحق بها التفضيل على الملائكة أن يعلمه الله أسماء عدد مخصوص من الأشياء فالملائكة كذلك جبلهم الله على تسبحه وذكره ففعلوا، لكن المزية التي تستحق هذا الذكر والثناء هي تلك القدرة على تسمية الأشياء والتعرف عليها بتلك الأسماء فلما طلب من الملائكة أن تسمى لكل ما تراه من الموجودات اسمًا لم تكن قادرة على ذلك فعلمت أن الله اختص هذا المخلوق الجديد الكريم دونها بما جعله أهلًا للخلافة في الأرض، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس ﵄ قال: "علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة"١.
هذه اللغة التي تعلمها آدم ونطق بها هي اللغة (الأم)، ولا جدوى من أن نقول إنها كانت العربية أو العبرانية أو السوريانية لأن هذه اللغات وغيرها عبارة عن فروع امتدت وتكونت على مرّ العصور وتعاقب الأجيال من ذرية آدم، فكلها تعود إلى تلك اللغة الأم ولا تعود هي إلى واحدة منها ولذلك فإن الجهد الذي صرفه بعض العلماء لإثبات أن أول من تكلم بالعربية آدم، أو نوح، أو سام، أو جبريل كما يُروى عن كعب الأحبار، هو جهد عقيم مبني على التخمين، أو على أخبار الإسرائيلية التي لم تثبت، فلا يثبت بها حكم ولا خبر..
وقد سبق أن بينا في أول البحث أن الناس تناسلوا من أولاد نوح الثلاثة، الذين ترجع إليهم أصول الأمم بنص الحديث عن رسول الله ﷺ وأحدهم (سام ونوح)، إليه تنسب (اللغة السامية) التي نطق بها ثم انتقلت إلى نسله من بعده..
ومع تكاثر (السامين) وتفرقهم في أنحاء مختلفة متباعدة من الأرض بدأت هذه اللغة تختلف لهجاتها وتتحول إلى عدد من اللغات، وهكذا كانت نشأة اللغات السامية.. وغيرها:
_________
١ تفسير ابن جرير (ط دار المعارف بمصر) ١- ٤٨٢.
1 / 127
وعلماء اللغات يقسمون اللغات ثلاث فصائل١:
١- الفصيلة الحامية السامية.
٢- الفصيلة الهندية الأوربية.
٣- الفصيلة الطورانية.
أما (الحامية السامية) - وهي الفصيلة التي تعنينا في هذا البحث - فتحتوي على مجموعتين من اللغات:
أ- اللغات السامية: وهي الآشورية، والبابلية، والآرامية، والكنعانية - ويراد بها العبرية - والفنيقية - ثم العربية، والحبشية.
ب - اللغات الحامية: وهي المصرية، والبربرية، واللغات الكوشيتية. والذي يظهر - والله أعلم بالحقيقة - أن اللغات السامية في بداية نشأتها كانت متقاربة جدًا كما أسلفنا، حتى إنه ليمكن القول إنها كانت عبارة عن لهجات للغة واحدة. والدارس لهذه اللغات يستطيع أن يلحظ التشابه الشديد بينها، إذ أن أصحاب تلك اللغات كانوا عبارة عن أبناء أمة واحدة تفرقوا في منطقة المثلث (العراق، والشام، ووادي النيل، واليمن وحضرموت) واستوطنوا أنحاء بين هذه المنطقة على مدى حقب التاريخ وأنشأوا ممالك وحضارات واختلط كل قسم منهم بمن جاوره فتأثر به واستفاد منه، وهذا من أهم العوامل لاختلاف اللهجات واللغات وأحيانًا لتلاشيها وضعفها، ولذلك فإن كثيرًا من الباحثين يعتبر (العربية، والسوريانية، والآشورية، والآرامية، والكنعانية) لهجات للغة واحدة، ثم تمايزت بشكل كبير جعلها تتحول على مدى الأزمنة إلى لغات، والذي حمل هؤلاء على هذا الرأي وجود مفردات متشابهة بمقدار كبير في هذه اللغات (انظر الجدول الملحق بآخر البحث) . بل إن بعض الدارسين يقول: إن السوريانية: أو الآسورية أو الآشورية المراد منها اللغة العربية التي كان ينطق بها أهل سورية وأن (آسورية) لهجة محرفة من (سورية) ٢.
_________
١ علم اللغة للدكتور عبد الواحد وافي (ط السلفية بمصر) ص١٢٨ - ١٦٨.
٢ عباس محمود العقاد في كتابه - إبراهيم -
1 / 128
ووجدوا أن وجود التشابه بين (الحميرية) واللغة السوريانية أكثر من وجوه التشابه بينها وبين لغة قريش..
أما اللغة الآرامية: فقد سبقت الإشارة في أول البحث أن بعضهم يرى أن كلمة - آرام - تعني - عرب - وأن العين والباء قلبتا همزة وميمًا، وأنهم ينقسمون إلى حضر وهم سكان (الهلال الخصيب) وبدو وهم سكان الأطراف الجنوبية الصحراوية من منطقة الهلال الخصيب ويسمون بدو الآراميين..
وأيًا ما كان الأمر فإن الذي لا شك فيه أن كل هؤلاء أمة واحدة تسمى - السامية - أما أيهما يرجع إلى الآخر - الآراميين - أو العرب فمسألة ترجع إلى ما سبق أن أشرت إليه - من تحديث أصل بداية العرب كأمة مستقلة معروفة بهذا الاسم -
ولكنني أستطيع أن أجزم بأن أحد تلك الفروع من - السامية الأم - استطاع على مدى التاريخ أن يحافظ على أهم خصائص اللغة السامية على حين فقدت الفروع الأخرى كثيرًا استطاع ذلك الفرع أن يطور لغته السامية بشكل ضمن لها النماء والتحسن مع الإبقاء على معظم الخصائص دون أن يفسدها التطوير..
ذلك الفرع هو القسم من الساميين الذي اتجه إلى الجزيرة العربية وعرف فيما بعد باسم العرب، أما لماذا كان ذلك؟
فإن السبب الرئيسي يرجع إلى طبيعة المنطقة التي استوطنها وهي منطقة صحراوية وعرة بعيدة عن المناطق العامرة بالأمم الأخرى فأعطى ذلك العرب فرصة الابتعاد عن المؤثرات المباشرة على لغتهم وفرصة أخرى لصقل ما يصلهم من الأمم الأخرى من مفردات أو لهجات حتى إنه لا يصل إليهم إلا وقد عبر مناطق صحراوية تحتم عليه التغير بشكل يلائم تلك البيئة، ويناسب أذواق تلك الأمة الفطرية البعيدة عن تعقيدات المدنيات الفاسدة المختلفة..
1 / 129
المراحل التي مرّت بها اللغة العربية:
مرت اللغة العربية بأدوار ومراحل، وارتقت في مختلف الفترات درجات التصاعد والتطور، حتى وصلت إلى درجة ومرحلة نهائية وضعتها في القمة بحيث أصبحت أهلًا لأن ينزل بها آخر كتب الله المنزلة، ولأن تكون وعاءً لكلام الله ﷿..
١- مرحلة النشأة: حيث اللغة الأم (السامية) وحيث كانت العربية في مرحلة مخاض كما سبق تفصيله..
٢- لغة العرب البائدة: وقد سبق في أول البحث أنهم: عاد، وثمود، وطُسَم، وجَدِيْس، وأمَيْم، وعَبِيْل، والعمالقة، وجُرْهُم.. وذكرنا أن مساكن عاد كانت بجنوب الجزيرة في طرف من صحراء الربع الخالي وثمود بمالها الغربي، وطسم وجديس بشرقها، والعمالقة وجرهم بالحجاز، وبمكة ويثرب..
هؤلاء هم الذين كانوا يتكلمون العربية التي استقلت عن السامية الأم وتطورت إلى أن اتخذت لنفسها شكلًا مستقلًا ونستطيع أن تعتبر عربيتهم فترة متطورة من العربية الأولى التي وجدت في فترة النشأة..
٣- لغة القبائل القحطانية: ويسميها الباحثون (الحميرية) وهذه القبائل كانت تسكن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية - حضرموت واليمن - حيث جاوروا أقرب الأمم إليهم وهم (الأحباش) وكثر اختلاطهم بهم فتأثرت لغتهم باللغة (الحبشية) مما جعل بعض المستشرقين يعتبر (الحميرية) و(الحبشية) لغتين شقيقتين لما وجد من كثرة التشابه بينهما في المفردات والخصائص، ولا ننسى أنه لم يكن هناك مفرًا أمام (الحميرية) من التأثر بشكل واسع بالحبشية بسبب هجرات اليمنيين والغزوات المتبادلة، وقد أقام (الأحباش) زمنًا طويلًا باليمن وحكموها فاللغة الحميرية إذن أضافت إلى ما ورثته من لغة العرب البائدة خصائص ومفردات جديدة تأثرت كثيرًا بعوامل خارجية..فبذلك هي تمثل
1 / 130
فترة مهمة من فترات تطور العربية.. ولم تكن صالحة وحدها وهي في هذه المرحلة لأن ترشح لتلك المهمة العظيمة التي تجعلها - اللغة العربية المتكاملة الواحدة -، ألا وهي مهمة نزول القرآن بها، بل كل ما يمكن أن نقوله أنها كانت مرحلة تهيئ للمرحلة الأخيرة، وإرهاصًا من إرهاصات اللغة المختارة الكريمة المبينة التي كانت - العدنانية -
يقول المستشرق - رينان -: إن الحميرية والحبشية لم يكن لهما مكان رئيسي سوى أنهما كانتا أداتين هيئتا لظهور العربية الحجازية١.
٤- لغة القبائل العدنانية: وهي لغة القبائل التي تنتسب إلى عدنان بن إسماعيل ﵇، وكانت تسكن القسم الشمالي من الجزيرة العربية الذي يشمل: هجر، ونجد، والحجاز..
وقد سبقت الإشارة إلى أن إسماعيل ﵇ نشأ في كَنَف إحدى القبائل البائدة - جرهم - أو هي فرع من فروعها، ويشير الحديث الصحيح٢ إلى أنه ﵇ أعجبهم وأنفسهم - أي أنه كما يبدو فاقهم فصاحة في لغته، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: "أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل " رواه الحاكم في مستدركه والزبير بن بكار في كتاب النسب وقال الحافظ ابن حجر في حديث الزبير: إنه حسن٣.
وتأمل قوله (العربية المبينة) تتوصل إلى كل ما نريد قوله عن اللغة العدنانية وأنها تمثل المرحلة النهائية في مراحل تطور العربية المرحلة التي بلغت فيها قمة الفصاحة - والفصاحة هي الإبانة - بعد أن كانت أقل إبانة وفصاحة، مرحلة تفتقت فيها اللغة العربية كأنها هي زهرة كانت منكمشة في كمها ثم انفتحت..
_________
١ مولد اللغة للشيخ أحمد رضا العامل (من منشورات مكتبة الحياة بيروت) ص٥٢.
٢ صحيح البخاري - كتاب الأنبياء.
٣ فتح الباري (ط السلفية بمصر) الجزء ٦- ص٤٠٣.
1 / 131
حُكي عن الشرقي بن قطامي أنه قال١: "إن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا جرهم وحمير".
وانظر إلى آثار حكمة الله ﷿ العظيمة لما اصطفى لغة هذه الأمة لتكون وعاءً (لكلامه المقدس) سخر لها من عوامل النماء والنقاء ما لم يتوفر لأي لغة أخرى:
أولًا: بيئة جغرافية نقية - صحراوية - بعيدة لوعورتها عن مختلف البيئات الأخرى وهذه البيئة هي أواسط جزيرة العرب التي اختارها الله مركزًا للّغة المصطفاة المتكاملة في خصائصها وثروتها اللغوية.. والتي تشمل نجدًا والحجاز.
ثانيًا: أوحى ﷿ إلى نبيه - إبراهيم الخليل - وهو بابلي من العراق أن يرحل بزوجه - هاجر - وهي مصرية ليتركها مع وليدها - إسماعيل - في هذه الأرض القاحلة الصحراوية من أرض الحجاز، ثم يتم اتصال - هاجر - بقبيلة جرهم فكأنما صبت الأصول: البابلية، المصرية، العربية البائدة في بوتقة واحدة لتفتق عربية إسماعيل..
ثالثًا: ثم يسخر الله ﷿ لذرية إسماعيل - العدنانيين - عاملًا آخر مهمًا من العوامل التي ساعدت على نماء لغتهم وهي هجرة - القحطانيين - بعد انهيار سد مأرب واختلاطهم بهم..
فبقيت هذه اللغة - العدنانية - تأخذ طريقها إلى النمو والتصاعد لتشكل في نهاية الأمر اللغة العربية الرئيسية المتكاملة التي بقيت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بينما أخذت اللغات الأخرى ومنها (الحميرية) طريقها إلى الانقراض.. حتى لم يبق اليوم إلا بقايا أثرية في الأطلال والنقوش وكتب اللغة..
_________
١ رواه ابن هشام وذكره ابن حجر في فتح الباري ٦-٤٠٣.
1 / 132
نتائج البحث:
١- اللغة العربية: أفصح اللغات البشرية، وأوسعها، وأغزرها مادة وأقواها تكوينًا، والدليل على ذلك: اختيارها لتكون وعاء لكتاب إلهي عظيم بعد بين الكتب الإلهية المنزلة: المنهاج الإلهي الشامل الكامل العالمي الذي وسع جميع البشر وسائر الأزمنة المتعاقبة، فلغة اتسعت لتعبير عن هذا المنهاج العظيم - القرآن- تعد بحق أعظم لغات الأرض ولولا أنها تملك من خصائص البيان ما لا تملكه اللغات الأخرى لما أمكنها ذلك:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ١.
وقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ ٢.
ومثل هذه النصوص تدل على أن غير العربية من اللغات - الأعجمية - لا تملك من خصائص الإبانة والاستقامة ما تملكه اللغة العربية..
ولعلي أستطيع في وقت قريب - إذا شاء الله - أن أقدم نموذجًا من خصائص هذه اللغة التي تنفرد بها..
٢- معروف لدى جميع الباحثين من علماء اللغات أن اللغة متطورة متغيرة لأنه يستحيل أن تسلم لغة ما من عوامل التطوير والتغيير، واللغات الحية يستفيد بعضها من بعض، ولا يمكن للغة تنكمش على نفسها وتنقطع صلاتها الأخرى، والمدنيات الأخرى، أن تدوم على قيد الحياة طويلًا فلكي تستمر اللغة في الوجود يجب أن تتقبل التطوير، ولكي تزداد نموًا وازدهارًا يجب أن تتصل بلغات الأمم الأخرى وتستفيد منها..
_________
١ الزمر - الآية ٢٨.
٢ النحل - الآية ١٠٣.
1 / 133
لكن هذا الأمر دقيق عجيب، فإن بعض اللغات يقضي عليها التطوير وتتلاشى عند الاتصال بالأمم الأخرى، فهناك إذًا عوامل أخرى تصحب هذا العامل المهم ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
أولًا: استعداد اللغة في أصل تركيبها وتكوينها وخصائصها الذاتية للتطور والنمو، والقدرة على احتواء التغيرات الحضارية البشرية مهما اتسعت والقدرة على الصمود أمام مختلف العوامل المؤثرة..
ثانيًا: قوة الأمة التي تتكلم بها: حضاريًا، وفكريًا، وسياسيًا، فإن الأمم الضعيفة التي لا تمتلك من الخصائص الحضارية والفكرية ولا يكون لها كيان سياسي قوي لا تستطيع أن تحافظ على لغتها فضلًا عن أن تنشرها وتفرضها على الناس.
ثالثًا: انتشار هذه الأمة التي تتكلم بتلك اللغة: واتصالها بالأمم الأخرى بشتى وسائل الاتصال: إما بالغزو والفتوحات، أو بالمبادلات والعلاقات التجارية والثقافية، أو بحركات الهجرة والنزوح..
وإذا طبقنا هذه العوامل الثلاث على اللغة العربية وأمة العرب نجدها متوفرة جميعها، فقوة تكوينها الذاتي يمكن أن تستنتجه مما سبق بيانه والحديث عنه عند الكلام عن نشأتها والمراحل التي مرت بها، ويكفي دليلًا عليه صمودها طوال هذه القرون والحقب، على الرغم من تعرضها لشتى العوامل الرهيبة التي تفكي للقضاء على أي لغة أخرى كاللغة - العبرية - مثلًا..
فاللغة - العبرية - كانت لغة محلية، ولم تكن تملك من الخصائص ما يؤهلها للانتشار، ولا من المميزات الذاتية ما يسمح بالاستمرار، ثم تعرضت لهزات عنيفة نتيجة تشرد أهلها وتفرقهم بددًا في أرجاء العالم فانقرضت وهي منقرضة وإن استمات اليهود اليوم (عليهم لعائن الله) في محاولتهم لإحيائها..
أما اللغة العربية فنتيجة لقوة تكوينها الذاتي وامتلاكها لخصائص النمو
1 / 134