فالجواب أنّ من شهد لم يكن له من الأمر شيء، وإنّما الأمرُ أمرُ الحكَمين، وأي قرار عنهما يتحمّلان تبعته وحدهما، وقرار خلع عليّ وإثبات معاوية يستحيل أن يصدر عنهما، وهما أتقى لله من أن يفعلا ذلك؛ لما في ذلك من مخالفة للكتاب والسُّنَّة، ولما ينشأ عن هذا القرار من فساد وفرقة، وهذا خلاف الّذي اجتمعا لأجله، ثمّ إنّ سعد بن أبي وقّاص هناك خلاف على حضوره.
وتأجيل الحكومة من قبل الحكمين لم يخرج عمّا جاء في كتاب الصُّلح، فلهما أنْ يؤجّلا الأمر إذا اقتضت المصلحة ذلك كما يفهم من كتاب الصُّلح. وأيًّا كان الأمر فلا بدَّ أنّ للصحابة ﵃ فيما شَجَرَ بينهم أعذارًا تخفى علينا.
وهذا التّحكيم كان من نتائجه ظهور المحقّ من المبطل، فقد ظهر أنّ عليًّا ومعاوية كانا مُحِقَّين في غايتهما لكنّ عليًّا كان الأدنى إلى الحقّ، وظهر أنّ المبطل هم الخوارج الّذين خرجوا على عليّ ﵁ يوم علموا أنّ الحرب الّتي أشعلوها قد وضعت أوزارها، فلم يَرْضَ هؤلاء بالاحتكام إلى كتاب الله لحقن دماء المسلمين، ولا رضوا بقرار التّحكيم، فقاتلهم عليّ بعد ذلك لما ظهر منهم، وكان له أجرٌ على قتاله لهم، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: " تكون في أمّتي فرقتان، فتخرجُ من بينهما مارقة يلي قَتْلهم أولاهُم بالحقّ " (^١).
ذِكْرُنا لما شَجَر بين الصّحابة لا ينافي أمر النَّبيِّ ﷺ بالإمساك عن ذكرهم
هذا مجمل تلك الأحداث ولها بسط في كتب التّاريخ لا يسرُّ النّاظرين، على أن الإيجاز في هذا المقام هو الأولى واللائق، والاقتصار على الصّحيح هو الحقّ والواجب، فقد قال ﷺ: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " (^٢) فكثرة المقالة في هذا الموضوع قد تكون عثرة غير مُقالة، كما
(^١) مسلم " صحيح مسلم بشرح النّووي " (م ٤/ج ٧/ص ١٦٨) كتاب الزّكاة.
(^٢) رواه الطّبراني في " المعجم الكبير " (ج ٢/ ص ٩٣/رقم ١٤٢٧) وقال الهيثميّ: رجال سنده رجال الصّحيح إلاّ واحدًا اختلف فيه، وقد وثّقه ابن حبّان وغيره "تطهير الجنان واللسان " (ص ٥٠) والألباني "سلسلة الأحاديث الصّحيحة " (م ١/ص ٤٢/رقم ٣٤).