19
ونستطيع أن نقول إن هذا الاعتراف المباشر بالعالم الخارجي هو الذي يميزه أيضا عن ديكارت؛ فقد كانت نقطة بداية ديكارت هي يقينية الفكر ووجود الأنا المفكر. أما نقطة بداية اسپينوزا فهي وجود الطبيعة في مجموعها. وعلى حين خلقت هذه البداية لديكارت صعوبات لا حد لها فيما يتعلق بإثبات وجود العالم الخارجي ثم إيضاح العلاقة بين الفكر، وهو نقطة البداية المؤكدة، وبين الامتداد، فإن اسپينوزا قد تخلص من كل هذه الإشكالات، ولم يساوره أي شك - منهجي أو غير منهجي - في وجود العالم، بل بدأ بذلك الوجود كاملا بكل أوجهه، ولم تكن العلاقة بين الفكر والامتداد في رأيه إلا علاقة بين طريقتين في النظر إلى موضوع واحد.
ومن المؤكد أن اسپينوزا كان يعد التفكير في مشكلة وجود العالم أو عدم وجود تفكيرا عقيما لا جدوى منه. وهذا هو المغزى الوحيد لقضيته القائلة إن «الوجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر»
20
ثم وصفه هذه القضية فيما بعد بأنها حقيقة عامة من نافلة القول
truism .
21
ومثل هذا الإلحاح والإصرار على أن وجود الجوهر أمر بديهي، وعلى أنه فكرة سابقة لكل مناقشة وجدل، بل ولكل شك، يعني، إذا ما فسرنا الجوهر على أنه مجموع الوجود، أنه لم يكن يؤمن بمشكلات المعرفة المتعلقة بوجود العالم، أو بأنه، على حد تعبير «چويكم»: «لا يفرق بين ما هو موجود وما هو معروف.»
22
مثل هذا الاعتراف بوجود العالم، أو على الأصح رفض إمكانية الشك فيه أو إنكاره منذ البداية، قد يبدو في نظر أصحاب النزعات المثالية دليلا على «توكيدية» اسپينوزا، أو افتقارا منه إلى الروح النقدية، بينما هو في نظر خصومهم أقوى دليل على سلامة التفكير الفلسفي عنده، ولكن مهما كان حكم المرء عليه في هذا الصدد، فلا شك في رأينا في أن «النزعة الصوفية» ليست ضمن التفسيرات الممكنة لموقفه هذا، وإنما يتعارض هذا الموقف تماما مع التشكيك الصوفي في وجود العالم، ومع كل النزعات الذاتية والمثالية التي تمهد الطريق للتصوف. ويثبت تحليل موقف اسپينوزا في هذه الحالة أيضا استحالة القول بوجود مثل هذه النزعات اللاعقلية لديه. (2) الواحدية العلمية
Unknown page