وإذن، فاسپينوزا، إذا صح تفسيرنا لمنهجه، بريء تماما من تهمة تعمد الخداع، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه هو أنه كان حذرا، ولقد كان له في هذا الحذر كل العذر. ولكنه لم يهادن أحدا على الإطلاق أو يساومه على أفكاره، وظل متمسكا بهذه الأفكار من البداية إلى النهاية، وأرشدنا، فضلا عن ذلك كله، إلى الطريق الصحيح لفهمه. ومع ذلك فما أقل أولئك الذين عرفوا كيف يسلكون هذا الطريق، ويطبقون «معادلاته» الفكرية على نحو شامل متسق! وما أكثر الذين رسبوا في امتحانه النفساني الشاق: امتحان قدرة القارئ على التخلص من ارتباطات غير دقيقة لألفاظ وتعبيرات معينة، وعلى فهمها بالمعاني الصحيحة المتسقة التي طلب إلينا صراحة أن نفهمها بها! (6) تعريفات لبعض مصطلحات اسپينوزا
إذا تأملنا فلسفة اسپينوزا من خلال منهجها الهندسي كما فسرناه في هذا الفصل، لوجدنا أن التعريف الصحيح لمصطلحاتها ينبغي أن يستغرق الجانب الأكبر من أي عرض لهذه الفلسفة، بل إن بعض أوجه هذه الفلسفة لا تعدو أن تكون إيضاحا للمعاني الاسپينوزية الخاصة لمصطلحات مألوفة مثل الجوهر أو الله أو الطبيعة، والحرية والضرورة، والأزلية، والتقوى والخير، والكمال والواقع ... إلخ. فخير عرض وأكمل شرح لهذه الفلسفة هو ذلك الذي يركز اهتمامه في تحديد معاني هذه الألفاظ. وهكذا فإن مشكلة التعريف بالمصطلحات هي، بمعنى معين، مشكلة عرض فلسفة اسپينوزا بأسرها.
ومع ذلك فلا مفر من أن نبدأ بإيضاح موجز لبعض المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا، على أن يعد هذا العرض مجرد نقطة بداية تمكن القارئ من تتبع هذا البحث، الذي لن تكون فصوله التالية إلا إسهابا لهذه التعريفات. فلا بد للقارئ من تعريف مبدئي مؤقت يستعين به على خوض المشاكل المعقدة التي ينطوي عليها تحديد اسپينوزا بدقة.
ولقد ذكرنا في الفصل السابق أن اسپينوزا تعمد استخدام المصطلح الفلسفي التقليدي، كما شاع في العصور الوسطى على الأخص؛ لكي يضفي على فلسفته طابعا متحفظا أو ملائما لمقتضيات العصر، ولكنه في الوقت نفسه وضع لهذه المصطلحات معاني ثورية سابقة لعصره إلى حد بعيد. ومهمتنا في هذا المدخل الذي نقدمه الآن هي أن نعرض بعض هذه المصطلحات التقليدية، ونشير من بعيد إلى المعاني التي وضعها لها اسپينوزا، على أن يذكر القارئ دائما - كما قلنا من قبل - إن بقية هذا البحث لن يكون إلا تعميقا لمعاني هذه المصطلحات. •••
وأول مسألة ينبغي أن نبحثها في هذا الصدد، هي طبيعة التعريف عند اسپينوزا. وسوف نسترشد في بحث هذه المسألة بآراء اسپينوزا ذاته كما عرضها في الرسالة رقم 9 (إلى سيمون دي فريس). ففي هذه الرسالة يفرق اسپينوزا بين نوعين من التعريف: «تعريف ينطبق على موضوع لا نبحث إلا عن ماهيته، التي تكون هي وحدها موضوع التساؤل، وتعريف يقترح للبحث فقط»؛ فالأول هو تعريف الأشياء الحقيقية الموجودة بالفعل، وهي الأشياء التي نريد معرفة ماهيتها، ومثل هذا النوع من التعريف يحتاج دائما إلى برهان. أما النوع الثاني من التعريف فهو فرضي استنباطي يقترحه الباحث ولا يشترط فيه إلا الاتساق، وهو على هذا الأساس لا يحتاج إلى برهان؛ إذ إنه ليس إلا وسيلة لاستنباط حقائق أخرى فيما بعد، ولجعل البحث التالي ممكنا، ويضرب اسپينوزا لذلك مثلا بالفرق بين وصف معبد سليمان، وبين وصف معبد يتصوره الشخص أو يضع تصميمه في ذهنه؛ ففي هذه الحالة الأخيرة لا يمكن الاعتراض على أي تعريف لهذا المعبد بأنه باطل.
ويرى اسپينوزا أن تعريفاته التي أتى بها للجوهر والصفة ... إلخ. هي تعريفات من النوع الثاني؛ ولذا لم يكن ينبغي أن يطلب لها برهان، وإنما يكفي أن تكون متسقة. وهذا أمر يرتبط - كما هو واضح - بطبيعة الموضوعات التي تتناولها هذه التعريفات؛ إذ إن هذه موضوعات ميتافيزيقية وليست «أشياء» واقعية. ومع ذلك فإن الكثيرين غيره قد عالجوا هذه الموضوعات كما لو كانت واقعية، ولهذا الاختلاف بطبيعة الحال تأثيره الكبير في الموقف الفلسفي العام لكل من الطرفين. (1)
الجوهر: «أعني بالجوهر ما يوجد في ذاته، ويتصور بذاته؛ أي ما لا نحتاج في تكوين تصور له إلى تصور أي شيء آخر .»
36
هذا التعريف هو امتداد منطقي للتعريف التقليدي المألوف، ولا سيما لدى ديكارت، ومع ذلك فإن اسپينوزا يستخلص النتيجة المحتومة لهذا التعريف، وهي النتيجة التي لم يستخلصها ديكارت ذاته، فيقول: إن الجوهر بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يكون واحدا، أو على الأصح أنه لا وجود إلا لجوهر واحد لا يخرج عنه شيء. وهذا هو المجال الجديد الذي أدخل فيه اسپينوزا هذه الفكرة التقليدية، وهو كما سنرى فيما بعد مجال له نتائج فلسفية عظيمة الأهمية.
والجوهر بهذا المعنى لا بد أن يكون لا متناهيا. وقد انتقد اسپينوزا بالتفصيل في رسالة رقم 12 إلى «لودڨيك ماير» فكرة الجوهر المتناهي أو المنقسم، مؤكدا أن المعنى الوحيد المتسق مع ذاته لفكرة الجوهر هو ذلك المعنى الذي ترتبط فيه باللانهائية ارتباطا وثيقا. ومن الممكن أن يعد تأكيد فكرة اللانهائية هنا تأكيدا، في الوقت ذاته، لقدم الجوهر، بمعنى أنه غير مخلوق؛ إذ لو كان الجوهر متناهيا أو جزئيا لوجب حتما السؤال عن أساسه أو أصله أو السبب في وجوده، وهو سؤال يستبعده اسپينوزا منذ البداية.»
Unknown page