Hudde » الذي كان في الوقت ذاته من ألمع الشخصيات ثقافة في أمستردام، وكان عالما رياضيا بارزا، ومع ذلك فإن باحثة في اسپينوزا، هي «مادلين فرانسيس
Madeleine Francès » تشك في هذه الصداقات المزعومة بين اسپينوزا وهؤلاء الحكام، وترى أنه إذا كانت قد جرت اتصالات بينه وبينهم، فلم يكن ذلك راجعا إلى اشتراكه معهم في الآراء، أو إلى كونهم قد أرادوا تطبيق تعاليمه على سياستهم في الحكم، وربما كانت هذه الاتصالات قد جرت في موضوعات متفرقة ولأسباب متباينة لا علاقة لها بالاتفاق التام في الأفكار السياسية والفلسفية.
9
ولكن إذا كانت هذه شواهد مشكوكا فيها، فإن هناك شواهد أخرى مؤكدة على علو مكانة اسپينوزا في الأوساط العلمية لا في بلاده فحسب، بل في أوروبا بأسرها؛ فقد عرض عليه أمير بافاريا أستاذية الفلسفة في جامعة هيدلبرج، وورد هذا العرض في الرسالة رقم 47 التي كتبها «فابريتيوس
Fabritius » مدير هذه الجامعة إلى اسپينوزا، والتي ذكر فيها أن الأمير من أكثر الناس تقديرا للأذهان الرفيعة، وأضاف: «وسيكون لك أكبر قدر من حرية التفلسف وهي الحرية التي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامها في تعكير صفو الدين المعترف به رسميا.» وفي ذلك بطبيعة الحال تلميح إلى معرفة الأمير بما قيل عن مروق اسپينوزا، وابتهال إليه في الوقت ذاته ألا يتحرر أكثر مما ينبغي عندما يشغل هذا المنصب. وقد رفض اسپينوزا هذا العرض رفضا مهذبا، قال فيه: «إنني لم أكن ميالا إلى التعليم العلني العام ... ومن جهة أخرى فلست أدري ما هي الحدود التي ينبغي أن تنحصر فيها حريتي في التفلسف حتى لا يقال عني إنني عكرت صفو الدين السائد؛ فالمنازعات الدينية لا تصدر عن حماسة للدين بقدر ما تصدر عن انفعالات متعددة أو حب للمخالفة يحرف الكلام عن معناه الأصلي ويدينه، حتى لو كان هذا الكلام تعبيرا عن تفكير سليم. وهذا أمر جربته في حياتي المنعزلة الخاصة، فما بالك بي إذا ما سموت إلى هذا المقام الرفيع!»
ويقدم «سيجون
Segond » سببا معقولا لرفض اسپينوزا هذا العرض؛ فقد سبق أن أهدى ديكارت إلى إحدى شقيقات أمير باڨاريا هذا نفسه كتاب مبادئ الفلسفة في عام 1644م؛ وعلى ذلك فمن المحتمل أن تكون «الفلسفة» التي قصد الأمير أن يدرسها اسپينوزا بحرية، ودون إخلال بالدين الشائع، هي الفلسفة الموجودة في كتاب اسپينوزا «مبادئ الفلسفة الديكارتية». ومما لا شك فيه أن الأمير لو كان يقصد كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» لما قال إن اسپينوزا يستطيع أن يقوم بتدريس الفلسفة دون إخلال بالدين الشائع؛ لأن هذا الكتاب الأخير كفيل بإحداث ثورة في الأوساط الدينية مهما كان الوجه الذي ينظر إليه منه؛ وعلى ذلك، فمن المحتمل أن الأمير، تمشيا مع إعجاب أسرته كلها بديكارت، وتقديرا منه لطريقة عرض اسپينوزا لفلسفة ديكارت في كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، قد طلب إلى اسپينوزا أن يكون شارحا لديكارت، وأن يمارس حريته في هذه الحدود، فكان من الطبيعي أن يرفض اسپينوزا هذا العرض.
10
والأمر المؤكد، على أية حال، هو أن هذا الرفض يقدم إلينا مثلا آخر لعزوف اسپينوزا عن فرص قد يتمناها الكثيرون غيره، إذا ما شعر بأن فيها أقل تهديد لحريته في البحث والتفكير.
وقد سعى كثير من علماء العصر إلى الاتصال باسپينوزا وتبادل الأفكار معه، نذكر منهم على سبيل المثال: العالم الطبيعي هيجنز
Unknown page