ولكنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه التحليلات والاستنتاجات لكي ندرك الغرض الحقيقي لاسپينوزا؛ إذ إن كتاباته ذاتها تحفل بالنصوص التي يستحيل أن يخطئ المرء فهم مرماها؛ إذ إنها كلها تمجيد صريح للعقل وإعلاء له على كل شيء.
فهو يرفض بشدة كل محاولة لإعطاء العقل مكانة ثانوية بالنسبة إلى الوحي، ويقول: «إني لأدهش ممن يرغب في إخضاع العقل؛ تلك الموهبة الرفيعة والنور العلوي، للحرف الجامد الذي ربما كان الخبث البشري قد أفسده؛ وأدهش لأن الناس لا يرون أي جرم في التحقير من شأن العقل الذي هو التعبير الحق عن كلمة الله؛ فيسمونه فاسدا وأعمى ومضللا، على حين أنهم يرون من أشنع الجرائم التي تنسب مثل هذه الصفات إلى الحرف، الذي لا يعدو أن يكون انعكاسا وخيالا لكلمة الله. إن الناس ليظنون أن التقوى هي ألا يثق المرء بعقله وبحكمه على الإطلاق. أما الشك في إيمان من نقلوا إلينا الكتب المقدسة فهو الفجور في نظرهم، ولكن مثل هذا السلوك ليس من التقوى في شيء، وإنما هو جنون محض.»
25
وفي مجموعة الرسائل التي تبادلها اسپينوزا مع «بلينبرج»، ذكر هذا الأخير (في الرسالة رقم 20) أن الوحي عنده يعلو على العقل، وقال: «إذا ما اتضح لي، بعد دراسة فاحصة، أن المعرفة الطبيعية تتعارض مع كلام الله أو لا تتفق معه، فإن لكلام الله في عقلي سلطة تجعلني أشك في المفهومات الواضحة المزعومة ...» وكان هذا القول سببا في هجوم اسپينوزا عليه بعنف في الرسالة رقم 21 إذ قال: «إنني لأدرك الآن أن أي برهان، مهما كانت متانة الأسس التي يرتكز عليها، لا قيمة له في نظرك إذا لم يتفق مع التعاليم التي تنسبها أنت أو من تعرفهم من رجال اللاهوت إلى الكتاب المقدس. فإذا كنت تعتقد أن الله يعبر عن نفسه في الكتاب المقدس بطريقة أوضح وأدق من تلك التي يعبر بها عن نفسه في النور الطبيعي للذهن - الذي هو بدوره من صنعه والذي يحفظه بحكمته الإلهية - فإن لك كل الحق في إخضاع ذهنك لمعتقدات الكتاب المقدس. ولو كنت موضعك لما فعلت غير ذلك. أما أنا فأعترف دون مواربة بأنني لا أفهم الكتاب المقدس، وإن كنت قد كرست لدراسته عددا من السنين ... ولقد أصبحت، بفضل ممارسة قدرتي الطبيعية على الفهم، وهي القدرة التي لم تخذلني قط، رجلا سعيدا. وأنا بالفعل استمتع بها، وأقضي حياتي بعيدا عن الحزن والهم، هادئا مرحا مسرورا.» وعندما أصر «بلينبرج» في الرسالة التالية، على موقفه الذي يخضع فيه العقل للوحي، رد عليه اسپينوزا في الرسالة رقم 23 قائلا إنه لا جدوى من استمرارهما في التراسل، طالما أنهما مختلفان على هذه المبادئ الأساسية، وكان من بين ما جاء في رده: «لقد كتبت في رسالتك الثانية أيضا تقول إن أمنيتك ورغبتك الوحيدة هي المحافظة على الإيمان والأمل، بينما أنت لا تكترث بمختلف الآراء التي تناقشنا حولها في صدد الذهن الطبيعي. وهكذا رأيت، وما زلت أرى، أن رسائلي لا قيمة لها بالنسبة إليك ... والواقع أنني عندما كتبت إليك (رسالتي الأولى) كنت أظنك فيلسوفا خالصا، لا تقبل (شأن عدد كبير من أتباع العقيدة المسيحية) معيارا للحقيقة سوى الذهن الطبيعي، لا اللاهوت.»
ولما كان أي شخص يؤمن بالوحي لا يستطيع أن ينكر أن التفكير العقلي يرجع إلى الله ويستمد منه، فإن اسپينوزا يستغل هذه الفكرة ليقول: إن العقل البشري ينبغي، على هذا الأساس، أن يكون هو الأصل الأول لكل وحي إلهي، فيقول في الفصل الأول من «البحث اللاهوتي»: «ولما كنا نرى أن ذهننا ينطوي في ذاته على الطبيعة الإلهية ويشارك فيها، ويستطيع لهذا السبب وحده، أن يكون أفكارا تفسر الظواهر الطبيعية وتحض على الأخلاق الحميدة، فإن ذلك يستتبع القول بأن لنا الحق في أن ننظر إلى طبيعة الذهن البشري (منظورا إليه على هذا النحو) على أنه هو العلة الأولى للوحي الإلهي.» وهكذا يستخلص اسپينوزا من نفس منطق التدين، باستدلال دقيق، نتيجة خطيرة تجعل من العقل أساسا للوحي ذاته.
وهكذا يكون من الخطأ، في هذا السياق أيضا، أن نقرب بين اسپينوزا وبين فلاسفة العصور الوسطى الذين كانت مهمتهم هي التوفيق بين الفلسفة والدين، والذين ركزوا جهودهم في العثور على صورة أرسطو في النصوص الدينية؛ ففي الوقت الذي يبدو فيه لأول وهلة أن اسپينوزا يرمي إلى تحقيق نفس الهدف، مع استبدال ديكارت بأرسطو، يتضح من البحث الدقيق لآرائه أنه يجعل للعقل، في واقع الأمر، مكانة تعلو على كل شيء، وأنه لو خير بين العقل والوحي لما تردد في اختيار الأول، وأنه لم يجعل للوحي مجالا إلا حيثما يعجز الناس عن ممارسة عقولهم، وسوف تظهر هذه الحقيقة بمزيد من الوضوح عندما نتحدث عن وظيفة العقيدة الدينية كما تصورها اسپينوزا. (3-1) وظيفة العقيدة الدينية
ليست للعقيدة الدينية، في رأي اسپينوزا، أية وظيفة نظرية تتعلق بالمعرفة؛ ففي كل الميادين المعرفية يسيطر العقل بلا منافس. بل إن للعقائد وظيفة عملية فحسب، ولا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد طالما أنها تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود، «فالإيمان يسمح بأكبر قدر من التحرر في النظر الفلسفي، ويبيح لنا، دون لوم، أن نتصور أي شيء كما نشاء، ولا يرمي بالهرطقة والزندقة إلا من ينشرون آراء تحض على المكابرة والكراهية والتشاحن والبغضاء، بينما لا يكون المؤمنون في نظره إلا من يحضوننا، بقدر ما يسمح عقلهم وملكاتهم، على العدل والإحسان.»
26
وهو يتحدث في موضع آخر حديثا أصرح من ذلك، فيعلق على عدم أهمية المذاهب الدينية النظرية قائلا: «ليس لأحد أن ينكر أن الإيمان بهذه المذاهب ضروري لكي يستطيع كل شخص بلا استثناء، أن يطيع الله وفقا لما يقضي به الشرع ... أما ما يكونه الله ، أو المثل الأعلى للحياة الحقة، في ذاته، من حيث هو نار أو روح أو نور أو فكر أو أي شيء غير هذا، فهذا في رأيي أمر لا شأن له بالإيمان، فلكل أن يفكر في هذه الأمور كما يشاء.»
27
Unknown page