Siyar Malahim Shacbiyya Wa Carabiyya
السير والملاحم الشعبية العربية
Genres
ففي فضائل ذلك الفارس المكي العربي المحرر، تتبدى أسمى القيم العربية، المتجاوزة لواقعها الرعوي الصحراوي، متناطحة مع أعتى إمبراطوريات العالم القديم، وهي الإمبراطورية الفارسية وعبر أزهى عصور تراثها المتأجج المعجز لعصر كسرى وكرسيه الذي تصفه السيرة بأنه «يجمع تسعمائة ألف نفس من العجم، ما عدا الغرباء وقيل إنه كان للملك الأكبر ألف من الحجاب يقفون بين يديه مشمرين السيوف، من حين وجوده في ديوانه لحين خروجه، فيسير بين يديه غيرهم، وعند وجوده بقصر منامته يحرس بابه ألف أيضا، وكان السرير الذي يجلس عليه من الذهب الإبريز الخالص، يبلغ ثقله عشرين قنطارا وجمع ما حواليه من الكراسي المعدة لرجال دولته ووزرائه هو من الذهب أيضا، فكان كسرى أنوشروان أغنى ملوك العالم.»
إلى أن تبدأ السيرة - على عادة ما هو متبع في شهنامات الفرس المجوس - بالحلم، حين لازم كسرى في منامه حلم واحد متكرر الإيقاع والوحدات، وموجزه «أن كسرى شعر بالجوع عظيم فقدم إليه منضدة من الذهب عليها صحن من العاج منقوش بالنقوش الفارسية به وزة كبيرة مقلية شهية ما أن قاربها حتى هجم عليه كلب هائل المنظر، كشر عن أنيابه، واختطفها وإذ بأسد يدخل عليه من الباب، يلقى الكلب ميتا ويخطف الأوزة، فيعيدها إليه دون كره ... فاستيقظت.»
وهكذا تعاقب الوزيران، بختك الذي لم يعر الأمر اهتماما يذكر، سوى أن مثل هذه الأحلام تحدث من قبيل الطعام، وبزر جمهر الذي أعطى الحلم دلالات، ذات صبغة سياسية جوهرية، ذلك أن الأوزة الشهية والمائدة الذهبية، ما هي سوى الإمبراطورية الفارسية التي سيختطفها حين يظهر فارس يهودي خيبري
23
من حصن خيبر ببرية الحجاز، يملك الكرسي ويحاصر عاصمة الملك ويطرد كسرى، إلى أن يأتي الأسد أو الفارس من برية الحجاز، والذي ليس سوى الأمير حمزة، فيستخلف الملك ويقتل العدو الخيبري.
ونظرا لحرص ذلك الوزير الخير برز جمهر على مصلحة العرب، فقد أخفى عن كسرى المغزى الحقيقي لحلمه ذاك، فالفارس الذي يظهر من الحجاز، يجيء ليرفع نير الفرس المذل وحكمهم الظالم للعرب، فيهدم معابد النيران المجوسية ويقع بينه وبين الدولة الكسروية حروب طويلة.
وعندما آنس كسرى إلى وزيرة ذاك وسأله عن مكة أجابه الوزير حليف العرب، هي البلد التي تأتي إليه العرب في كل عام، قياما بواجبات الزيارة.
وفي الحال حمل كسرى وزيره بالهدايا والجواهر؛ بحثا عن الغلام المنتظر «حمزة» وأن يعتني بتربيته، وهكذا وصل الوزير إلى مدينة تلقبها السيرة ب «الحمزة»، فخرج لملاقاته الملك النعمان مرحبا، ثم واصل سيره بحثا إلى أن وصل مكة، وكان حاكمها يسمى إبراهيم يخاف الله وعرف منه أن امرأته حامل في الشهور الأخيرة، إلى أن جاء المبشرون يبشرون الأمير بولادة زوجته، طفلا جميلا كبير الجسم، أسماه الوزير الحكيم من فوره بحمزة أو حمزة العرب.
وهكذا جاء إلى الوجود حمزة - بطل سيرتنا هذه - كطفل موعود تسبق الأحداث الجلل والنبؤات مولده، ونموه المدهش وانتصاراته المظفرة على عادة ما هو متبع مصاحب لولادة جميع الأبطال الملحميين والأسطوريين والخرافيين والمقدسين، بلا استثناء وعبر سلسلة من الرحلات والتحولات يمر البطل بمرحلة اتفق عليها الأثنوجرافيون بمرحلة قتل الأم، أو التخلي عنها في اتجاه المزيد من الذكورية التي لا بد وأن تصل به في النهاية إلى ما يعرف بالبطرقية، أو شيوخ القبائل ليصبح بدوره أمة وقبيلة، ورأس سيرة كسيرتنا الماثلة، تمتد حروبه القارية على طول غرب آسيا، ومصر والشمال الأفريقي بعامة حتى مداخل أوروبا الجنوبية.
فقد صاحب مولد حمزة، ولادة ثمانمائة غلام، أهمهم هنا هو مولد صديقه وأخيه - في الرضاعة - ومخلصه، عمر العيار، العصا التي سيتوكأ عليها الأمير حمزة عبر حروبه وفتوحاته، وكما تصفه السيرة كان وجهه صغيرا مستديرا وعيناه صغيرتان مستديرتان كأنهما الثقوب ويداه ورجلاه صغيرة دقيقة أشبه بالخيطان، وهو الذي لعب أهم الأدوار وأخطرها في رعاية حمزة ذاته وتخليصه من الأسر مرات والحفاظ على انتصاراته عبر آسيا الصغرى أو المغرب العربي، إلى أن أصبح حمزة الكسري العربي، أو حمزة ملك العرب والعجم - كما تلقبه نصوص السيرة.
Unknown page