أما أخي فترك ما في يديه وأسرع إليه: «ماذا؟ ما هذا يا جدي؟ أفي هذه الليلة تبكي؟ ولكن ماذا حدث؟ ماذا حدث يا أم ستيتة؟ ألا تعرفين؟ ولكن ما الذي يبكيه؟» وجرى «نيني» ذو العينين الواسعتين إليه وارتمى على صدره وهو يعانقه: «لماذا تبكي يا جدي؟»
أما جدي فقد أشار علينا بأن نبعده عن ذلك المكان. كل ما استطعت أن أتبينه من كلامه المتقطع، المختنق بالدمع: «أبعدوني. أبعدوني.» ثم وهو يمر بيديه الراعشتين على رأس «نيني»: «لا تحزن يا نيني. معلهش، يا نيني.»
وتحامل جدي علينا، وأسند ذراعيه المنهوكتين على أكتافنا، ونحن نسير به إلى فراشه كان أخي لا يفتأ يردد: أهذا ممكن؟ أهذا ممكن؟ وكان «نيني» مشغولا بدموع الشيخ العجوز الذي يضمه إلى صدره ويردد في صوته المتقطع: «أبعدوني. أبعدوني.» وأسرع أخي إلى «نيني» فانتشله من بين ذراعيه، وأشار إلى أم ستيتة التي وقفت مذهولة تفتح عينيها الرامدتين في صعوبة، بأن تحمله بعيدا. ما كان لهذا الصغير أن يرى الجد وهو يتحطم، ما كان له أن يفتح عينيه الزرقاوين على شيخ فيه بقية حياة تذوي وتنطفئ. والتففنا، أنا وأخي، حول جدي العجوز، نكفكف من دموعه، ونهدئ من ثورته التي انفجرت على غير انتظار.
لم نكن ندري ماذا نفعل؛ فقد كنا نراه يبكي أمام أعيننا، بلا سبب. وارتميت على الحصيرة البالية أمام قدميه، وشردت عيناي في السقف، ورحت أعد قطرات المطر؛ واحد، اثنان، ثلاثة. أما أخي فقد تمدد إلى جانبه، يربت على كتفيه ويهدهد من حزنه، ويميل على أذنيه بكلام كثير.
وكان الصمت يلفنا حين رأينا نيني يندفع إلى الحجرة وهو يرى، كأنه يخاف أن يرده عنا أحد. وأم ستيتة العجوز تجري وراءه محاولة أن تمسك به. «جدي، جدي.» كانت صيحاته تخرج مع أنفاسه المبهورة، متقطعة مكتومة كالأنين. وكان يمد يديه نحونا، ويجري حتى لينكفئ على وجهه. «خذ يا جدي. الشجرة أهيه. هي لك. الشجرة لك. ده عيد ميلادك، عيدك أنت. لا تحزن يا جدي. الليلة ليلة ميلادك. أنت، يا جدي، خذها معك؛ لأن الدنيا تمطر.»
ولم ندر ماذا نصنع. أسرع إليه أبوه يحمله بين ذراعيه، وخرج به من الحجرة وهو يقبله ويكاد ينشج بالبكاء. وأما جدي العجوز فقد لمعت عيناه الضيقتان التماعا غريبا، ومد يده المرتعشة فقبض على الشجرة، وضمها إلى صدره وأخذ يقبلها.
وفي الصباح، كان جدي ما يزال راقدا على فراشه، ولكنني حين اقتربت منه، ووضعت يدي على صدره، لم أجد فيه نفسا يتحرك.
ومررت بيدي الخائفتين على أطرافه المثلوجة ببرودة الموت. كانت شجرة عيد الميلاد ما تزال في يديه.
وكان يضمها إلى صدره ضما شديدا.
1954م
Unknown page