أنا ما زلت أرى كل شيء أمامي. في ليلة الأربعاء كنا جلوسا في غرفة الفرن. كانت أمامنا مدفأة صدئة، يلتهب فيها الرماد؛ فقد كان حطبنا قليلا. أيدينا ممدودة فوق النار كأنها تريد أن تحمي بها دماءنا؛ دماءنا التي تسري في عروقنا مثلوجة باردة. كان جدي العجوز جالسا على مقعده الذي لا يريم عنه، وكانت عيناه الضيقتان تدوران في المكان كأنهما تحسداننا على مقدرتنا على الحركة؛ فقد كان جدي مقعدا، وربما لا يزيد على قصتي شيء إذا قلت إنه كان مشلولا. جاءه الشلل ذات صباح وهو يشرب القهوة، فأفلت الفنجان من بين يديه وانكسر، وشل نصفه الأسفل. لا أريد أن أعيد قصة شلله، فما ذكرتها إلا عراني حزن أليم.
وكانت أم ستيتة، مربيتي العجوز، جالسة أمامي تعالج عينيها الرامدتين، بعد أن وضعت فيهما قطرات من السائل الأحمر. كان كل شيء هادئا في بيتنا هدأة الانتظار، حتى قطرات المطر التي تتساقط فوق السطح كانت كأنها دقات طبول عميقة، جوفاء، والسحب السوداء التي كانت تغطي وجه السماء، أحسسنا كأنها جاثمة بثقلها فوق رءوسنا. كانت ليلة شتاء لا تلمع فيها نجمة حتى تنطفئ.
كانت آذاننا مرهفة لسماع صوت القطار؛ القطار الذي يزور قريتنا في آخر الليل فيهتز بيتنا من أركانه. لم تكن بي حاجة إلى الكلام؛ فقد غامت عيناي في أفق بعيد، ممتد بغير حدود، ولم أطلب من «أمي» ستيتة أن تحكي لي أسطورة من أساطير الزمان، كما كانت تفعل كل ليلة. وما كان يمكن للسندباد البحري ولا الشاطر حسن ولا الأميرة شهر زاد أن تشغلني عن خواطري، وما كان يمكن لأم ستيتة أن تغمض عيني لأنام على حلم جميل؛ فأنا أنتظر مقدم أخي الكبير لأرى فيه وجه أبي.
سيعود أخي الليلة من بلد اسمها مصر. قالت لي أم ستيتة إنها بلد العجائب؛ قبابها عالية، ومآذن جوامعها مضيئة في الليل كشجرة تتدلى منها النجوم، وأبنيتها عالية تصطدم رءوسها بالسحاب. وقال لي جدي إن الناس يسيرون على أرض لامعة - فلا تغرز القدم في الوحل - وإن شوارعها كالمرايا ، يمكن للناس أن يروا فيها وجوههم، وإن الأولياء الصالحين يحمونها من غلوات أعدائها، ويقفون أمام سورها العظيم وهم يسبحون بحمد الله.
لم أكد أمد يدي ضارعا وأنا أصيح: «يا سيدة زينب، يا سيدنا الحسين، أرجعا إلينا أخي سالما.» حتى سمعنا طرقا على الباب. وقفزت أجري على السلم، وأسرعت أم ستيتة الطيبة القلب تتحسس الطريق. وحين ضمني أخي إلى صدره استطعت أن ألمس بيدي بذلته الناعمة، وأن أشم العطر الذي يفوح منه. قال لي وهو يضحك: هذا هو نيني، ابن أخيك، أليس جميلا؟ سلم عليه يا نيني. نعم، هكذا لقد صرت رجلا. لم لا تضحك؟ أنت متعب من السفر؟ تريد أن تنام؟ لا، لا. قبل أن ترى جدك؟ من؟ جدك العجوز؟ أتخاف منه؟ إنه يحبك. هيا، هيا. أعطني يدك، هكذا. وصعد أخي الكبير على السلم، والضحكات العالية تهتز معه. كان يحمل في يده حقيقة كبيرة، فقلت لنفسي لا بد أنها مملوءة بالحلوى، لن أنام في هذه الليلة! ومد جدي ذراعيه ليحتضن أخي ويقول له، والصوت تخنقه الدموع: «بالسلامة يا ابني، بالسلامة عدت، ما لنا وما لمصر، ابق معنا. هذا هو ابنك؟ قربه مني، ما أجمله! أتخاف مني؟ آخ! لا تشد ذقني أيها العفريت!»
وصاح أخي وهو يرحب بخادمتنا العجوز: لن تنامي الليلة يا أم ستيتة؟ افتحي هذه الحقيبة، ماذا؟ أتعشى؟ لا. أستريح، ولكنني غير متعب. هيا نعد كل شيء معا. ألا تعرفين؟ ولكنه عيد ميلاد نيني؛ نيني العزيز.
كان أخي في هذه الليلة جم النشاط. لم يكد يجلس ليستريح، أو ليحكي لنا شيئا عن البلد الكبير الذي عاد منه. استحال إلى طاقة حية، مندفعة، مشبوبة. إنه يجري، ويضحك، ويهز رأسه، ويثرثر بكلام كثير مثل قطرات المطر التي تتساقط في الخارج سريعة متلاحقة: «ضع هذه الحلوى على المائدة. لا تأكل منها شيئا. وأنت يا نيني، أتريد أن تنام؟ أيها الشيطان الصغير. وهل تنام في عيد الميلاد؟ خذي هذا التفاح يا أم ستيتة. نعم، ضعيه إلى جانب الحلوى. ماذا؟ ولكنك ستأكلين منه الآن ، وهذه الشجرة أيضا؟ نزرعها؟ يا لك من ساذجة! ولكنها لا تزرع . اسمها شجرة عيد الميلاد، ألا تعرفين؟ حسنا، ضعيها هناك. لا تقطعي منها ورقة واحدة. أسرعي أيتها العجوز. وأنت، لم لا تتحرك؟ هل تقف هكذا ساكنا؟ أتعجبك الشموع؟ تريد أن تشعلها؟ ولكن انتظر! سنرى كل شيء، الآن، حالا، حالا، كل عام وأنتم بخير.»
ما أغرب أخي! في مثل هذه الليلة الباردة من ليالي الشتاء؟ ماذا يقول جيراننا؟ ولكنهم نائمون. حسنا فعلوا، وإلا لضحكوا علينا. آه لو رأونا ونحن جلوس أمام المائدة لكنا أصبحنا سخرية البلد يوما بأكمله؛ إذ كيف توقد الشموع ولم يولد في بيتنا طفل، ولم يتم زواج؟
أنا عهدي بالموالد أن يشترك فيها أهل بلدتي جميعا؛ ففي مولد سيدنا الشيخ «دسوقي» يحق لنا أن نسهر الليل بأكمله، ونأكل الحلوى، ونشتري عرائس المولد الحمراء. لنا نحن أطفال القرية في هذا المولد أن نتبرك بسيدنا الشيخ، ونزور ضريحه، ونلمس السور الحديدي بأيدينا، وقد يتمرغ بعضنا على السجاد العجمي الثمين في نشوة صوفية محببة. ولنا أن نسهر حتى الصباح، ندور في المرجيحة، وننتقل بين الموائد الزاخرة باللحم الشهي، ونرقص في صفوف الدراويش حتى الصباح، ولكن هذا الحفل الذي نقيمه في بيتنا في هذه الليلة شيء عجيب. أيكون نيني شيخا صالحا من الأولياء؟ ولكن هذا شيء محال؛ إذ كيف يصدقه عقلي؟
ولم يسترح أخي الكبير حتى جلسنا إلى المائدة. إنني لم أزل أذكرها تماما؛ فقد فرحت في تلك الليلة كما لم أفرح قط. أضأت الشموع بيدي، ووضعت الشجرة الجميلة في وسط المائدة، وناولت مربيتي العجوز أكثر من قطعة من الحلوى، ودعوت جدي إلى الطعام أكثر من مرة.
Unknown page