هذا، وقد يكون الفنان المسلم كلفا بمخالفة الطبيعة، ولكنه كلف سليم، لا يشوبه اليأس ولا تعيبه الفظاظة والاستخفاف، كما هي الحال عند بعض المصورين المعاصرين في الغرب، وذلك أن الاستهانة بعظمة الإنسان المطلق تحض مرقم الفنان المسلم على أن يحرف قيم الخلجات، حتى إنه يصلبها فيردها أقرب ما تكون إلى سكنات الآلة، تلك السكنات الجامدة على ألواح أولئك المصورين، ولكنما يلطف هذه الشدة أن الاستهانة لا تتمادى حتى تجعل تخاطيط الوهم المسرف تمحو بسمة الحياة، فبسمة الحياة عنوان «زينتها»، ودليل ما فيها من «متاع الغرور» (اللوح 8أ، 8ب).
أنت إذن ترى الفنان المسلم يفر من وجه الطبيعة، كذلك تراه يواجهها فلا يعن له هنا أن يحتذي ويحاكي إلا إذا عكف على تزويق المؤلفات العلمية، وفي كلا الفرار والمواجهة يلقط الفنان الشيء الذي فيه روح، وهو يفكك مركباته أو يبسط صيغه، وهذا ما أسميه «الاصطراف». على أن الفنان المسلم يغلب عليه الفرح بالاصطراف بدل أن تأخذه كبرياء الخلق. لذلك هو لا يعنى بالترجمة عن شغل يشغل ذهنه، بل همه الإعراب عما يجول في مزاجه الحساس، فإذا صنع منظرا هادئا سكب في ثنايا الشيء طراءة طريفة، تجري به إلى خمائل الشعر والسحر (اللوح 9أ، اللوح 6، اللوح 5ب، اللوح 3أ). وإذا صاغ مشهدا فائرا أيقظ المادة من سباتها، وجر الصورة إلى مثل حلقة رقص تعقدها جماعة من الصوفية، هو يجرها بفضل حس موسيقي هائج على تناسب، كثيرا ما يغذوه روض من ألوان تصدح بابتهاج الضمير (اللوح 9ب، اللوح 4أ، 4ب، اللوح 3ب)، ولا يزال «بيكاسو» الإسباني ينشر هذه الألوان تحت أعيننا، وقد مال الآن إلى صناعة الخزف. تلك الحلقة وإن لم تفتها رقابة الفنان لتبدو غاية في الالتطام؛ لأن هذا الضرب من التشكيل منحرف عن مراسم الواقع، من حيث إنه ينبو، على علم وفي غير ندم، عن الاستعلاء الذي يتطلبه وجوب المستوى والحجم.
5
ربما لاحت الأشكال من حيث تركيبها الممكن، لا من حيث مظهرها الحاصل، مهما تجرد المظهر من الصفات المحسوسة. وحينئذ تدخل الأشكال في عالم موهوم، ولكنه غير ممتنع في أعين المسلم. أما ورد في القرآن:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (النحل: 8)، وبفضل قوله:
ويخلق ما لا تعلمون - استنادا إلى التفسير اللطيف الذي ذكره الجاحظ (الذيل2) - تنشق للفنان نافذة تطل على فسحة المتخيل، فإما اجتلاب لصيغ آسيوية متقادمة، وإما اختراع لمطالب في استظراف أو في سذاجة (اللوح 10، اللوح 11أ، 11ب). وهذا وذاك تصيبه عند «بيكاسو» الذي أصبح يميل إلى تصوير الحيوان في هيئات شاذة.
فمتى صاغ الفنان المسلم ما ليس بخاطر في بال أو ما ليس حاصلا في الوجود المعهود، طوح من طريق أحاجيه الفتانة، بحدود النطاق البشري، هذا وقلبه المحدث سرا يريد أن يعظم اقتدار سيده الأعلى:
يخلق ما يشاء (المائدة: 17)؛
يزيد في الخلق ما يشاء (فاطر: 1).
ولقد أخطأ من ظن من النقاد أن الفنان يقصد بتصوير المحال إلى تنكير الطبيعة، وتمويه المخلوقات إرادة أن «يخادع ربه»، الذي ينزل به العقاب إذا رآه جرأ على المضاهاة بصنعه؛ فمثل هذا الظن يدل على الجهل بقدرة الله:
Unknown page