كان بصوته نبرة ابتهاج، ولكنها اكتشفت وهي قريبة منه أن رائحة نفسه سيئة، لشخص حزين لم ينم؛ رائحة يغطيها غسول الفم، غير أنه لم يفلح في إزالتها؛ فأجابت: «بالطبع أود هذا.»
ثم قامت بتتبعه خلال المرأب ثم إلى الخارج. كان يوما خفيف الغيوم معتدل الحرارة من شهر فبراير. قال إيوارت: «يبدو أنه سيكون يوما مشمسا.» وثنى لها الأغصان الرطبة لكي تعبر، محذرا إياها من المنطقة المائلة من البقعة حيث كانت المرجة الكبيرة زلقة، كان كالمعتاد مضيفا طيبا ولطيفا. الثروة جعلت منه إنسانا دمث الخلق يسمو فوق كل المتطلبات العادية، كتوما، استرضائيا، غامضا. عندما قابلته جون لأول مرة، في الجامعة - كل منهما ذهب إلى الجامعة المحلية بمنح دراسية - بدا أنه ليس لديه أي أصدقاء، فطاردته جون بنفس الإزعاج المستمر والحماسة المشجعة اللذين أظهرتهما بعد ذلك تجاه الطلاب الأفارقة، ومدمني المخدرات، والسجناء، والأطفال الهنود. اصطحبته معها للحفلات حيث وجد فيها مبكرا وظيفة مقدم المشروبات، ومساعد المضيف والمضيفة، ومهدئ الجار الثائر، وأحيانا ضابط الشرطة، ويمسك رءوس الناس الذين يتقيئون في الحمام نتيجة كثرة الشرب، كما كان صديقا مقربا من الفتيات يبحن له بأسرارهن مع الشبان الذين أساءوا إليهن. قالت جون إنها تريه الحياة؛ إذ كانت تعتبره محروما، معاقا. كان اسمه وماله قد وسماه فقط بالحزن، من وجهة نظرها، كبقعة داكنة بالوجه أو قدم مشوهة. لم يفكر أي أحد أنها كانت تعني بذلك أن تتزوجه، ولا هي نفسها اعتقدت ذلك أيضا، أخذ هذا منها بعض الوقت لكي تزن الاحتمالات كلها. اعتقدت جون أنها قد أعطته بيتا، ولكن هذا كله كان ضمن برنامجها لكي تريه الحياة الحقيقية.
كانت إيلين وجون وأمهما في ذلك الحين لا يزلن يسكن في الطابق العلوي من منزل يقع خلف صالون الحلاقة، في شارع بيكر ستريت. غرف المنزل كانت مظلمة، ولكن بها معوضات عن ذلك، رائحة ذكورية صابونية منعشة، تنبعث من صالون الحلاقة، وفي الليل وميض وردي يدخل الغرفة الأمامية من المقهى في ركن الشارع. كانت أمهما تعاني من إعتام العدسات في كلتا العينين، كانت تستلقي على الأريكة الطويلة - كانت لها هيبة، حتى وهي مستلقية - ثم تصدر الأوامر. كانت تريد كئوسا من الماء، حبوب الأدوية، أكوابا من الشاي، كانت تريد وضع الأغطية عليها، وعندما تستيقظ تريد إزالتها عنها، وتريد أن يمشط شعرها ويضفر، وتريد أيضا ضبط محطات الراديو على الموجة الصحيحة، وتستنكر استخدام اللهجة العامية، المبتذلة، لغة بلا قواعد، كانت تريد إيصال الشكاوى إلى صالون الحلاقة ومتجر البقالة، كانت تريد منا الاتصال بأصدقائها القدامى ومعارفها وتسليمهم تقارير عن صحتها المتدهورة، وتساءلت عن سبب عدم قدومهم لزيارتها. أحضرت جون إيوارت وجعلته يجلس ويستمع. وقد حاولت جون تجنب مشكلة والدتها بالتخصص في علم النفس في الجامعة، وهو عين ما حاولت إيلين فعله بدراسة الأدب الإنجليزي، ولكن كانت جون أكثر توفيقا، حيث قوبلت إيلين بالكثير من الحالات لأمهات مهووسات في كتب الأدب، ولكنها فشلت في الاستفادة من هذا الاكتشاف، أما جون، على الجانب الآخر، فكانت قادرة على تعريف أصدقائها بأمها من دون أي اعتذارات، ولكن بالكثير من التفسيرات المسبقة والمناقشات فيما بعد. كانت تجعل الناس يحسون بالتميز. كان على إيوارت أن يستمع إلى قصة طويلة، كئيبة، مشوهة، وغير صحيحة عن كيف أن عائلتهن تربطها صلة قرابة بآرثر ميجان، رئيس الوزراء السابق في كندا، وقد أخبرته جون أنه بصدد أن يفهم بنفسه الضلالات الراسخة لدى الناس ذوي الطبيعة الخاصة التي نتجت عن موقف اجتماعي اقتصادي لا مخرج له (كانت تقطع قفزات على طريق تعلم اللغة التي يمكن أن تخدم مطامحها جيدا بقية حياتها)، أما إيلين فلم تستطع أن تفعل شيئا سوى التأثر بهذا الحصاد غير المتوقع من المكاسب، هذه الموضوعية المفاجئة.
قالت جون مسمعة إيلين وأي شخص آخر يتسمع الكلام: «هذا أسهل بالنسبة لي بكل تأكيد؛ لأنني الطفلة الثانية؛ فقد تحررت من الشعور بالذنب، الذي تراكم كله لدى إيلين.» بالفحص الهادئ ولكن الدقيق من جانب أولئك المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع، كانت إيلين - المكتئبة في ذلك الوقت على أي حال كطالبة دراسات عليا - ترى نفسها تتحرك والشعور بالذنب يثقل كاهلها، من دون وعي منها، تتعثر في مقررات دراسية خاطئة، غير مناسبة في الأدب، وفي علاقتها بحبيبها المزعج (هاوي، كان هذا اسمه، الرجل الذي تزوجته بعد ذلك ثم حصلت على الطلاق منه)، متخبطة كخفاش في ضوء النهار. كانت مندهشة كيف أن جون في سنة واحدة استطاعت أن تتخلص من سمنة المراهقة، وتلعثمها في الكلمات، وبراءتها، واعتمادها على الغير، وارتباكها، وشعورها بالامتنان لمن حولها. من الذي كان يمكن أن يعتقد أنها تملك هذا الصوت العالي الواضح والوجه النضر وذلك الجسم الرشيق، كل هذا إضافة إلى الثقة؟ قبل مضي سنتين فقط، كانت تنظم الشعر، وتقرأ نفس الكتب التي كانت إيلين تقرؤها، كانت تبدو أنها تسير على خطى أختها الكبرى وتصنع من نفسها نسخة منها. ولكن هيهات!
تزوجت إيلين من هاوي، الصحفي غريب الأطوار الذي تركها وطفلة صغيرة تعولها، أما جون فتزوجت من إيوارت وبدآ تأسيس حياتهما. وبينما لم تأخذ حياة إيلين أي شكل على الإطلاق وانهارت بفعل الأزمات وخلت من المسرات، كانت حياة جون مبنية على أسس متينة مخطط لها، تسير بسلاسة. كانت تعوز أسرتهما الأحزان والكآبة، ومهمة المناسبات الحزينة أن تعوض ذلك النقص.
فهل كانت تلك مناسبة أخرى للتعويض؟
قال لها إيوارت: «هذه الشجرة ساعدني دوجلاس في زراعتها الأسبوع الماضي.» ثم عرض عليها شجيرة هلباء قصيرة. كان يستخدم اسم ابنه تماما كما تفعل جون، عرضيا ولكن بحزم. رقته وتردده الطبيعيان وغير الملحوظين جعلا حزمه أقل إزعاجا من حزمها. وواصل حديثه عن الحدائق اليابانية، وقال لها، في وقت من الأوقات في اليابان كانت هناك قوانين دقيقة موضوعة فيما يتعلق بأقصى ارتفاع لأحجار الممشى في الحديقة، بالنسبة للإمبراطور كان ارتفاعها ست بوصات، نزولا حتى العامة والنساء الذين كانوا يمشون على حجارة ارتفاعها بوصة ونصف. ثم أشار إلى الماء، قائلا: «صوت الماء في الحديقة اليابانية لا يقل أهمية عن مظهرها. سوف يسقط الماء في ذلك المكان، هل ترين! سوف يكون هذا أشبه بشلال ماء صغير، سوف يتشعب لمجريين عند هذه الصخرة، كل شيء مصمم بدقة، بهذه الطريقة تحصلين على التأثير الاستثنائي؛ إذا نظرت إليه وحده دون أي شيء آخر، فبعد قليل سوف يبدأ في الظهور كشلال ماء حقيقي، منظر طبيعي حقيقي.»
وتكلم عن الترتيبات التي اتخذها لجلب هذا الماء، نظام أنابيب المياه تحت الأرض. كان دائما ما يهتم بالتفاصيل، والمعلومات الدقيقة عن مشاريعه الحالية، وكان حماسه لا يخبو. كان دائما ما يبدو عليه أنه يعرف أكثر حتى من شخص يحترف هذا الشيء ويتخذ منه عملا يكسب منه قوت يومه. ربما بسبب أنه هو نفسه لم يكن لديه عمل ليتكسب منه قوت يومه؛ إذ لم يكن مضطرا لذلك.
مناسبة، ولم لا؟ مناسبة لاستعراض تلك القيم التي نحيا بها، لعرضها على الملأ، لوضعها على المحك. إيوارت وجون عاشا حياتهما على القيم والمثل، كان هذا ما يقولانه. ولم لا؟ كانت إيلين تفكر بهذا، مستمعة إلى حديثه بشأن الأنابيب، وتحول الحديث إلى الشجيرات. كانت تفضل أن ترى الموت حقيقة ماثلة ولا مفر منها، أمام عيون كل الناس، أكانت تفضل ذلك حقا؟ من دون عقيدة دينية قوية لا يمكن أن يحدث هذا، لا يمكن أن يحدث بحال من الأحوال. وبفرض أن ابنتها هي من تعرضت للحادث، ماذا لو أنها مارجوت؟ كانت قد فكرت في هذا ذات مرة، بمجرد سماعها للخبر، وانتابها شعور غريب بالراحة يعقبه الذعر. بدا الأمر كما لو أن دوجلاس، بجذبه للأضواء، قد أعطى أبناء كل الناس قبلة الأمان، وفي نفس الوقت مذكرا أن الضوء لا يزال هنا ويمكن أن يبلغه أي منهم. مارجوت، التي من الممكن أن تركب في أي لحظة قاربا مثقوبا أو ربما طائرة مخطوفة، أو حافلة بفرامل معطوبة، أو قد تدخل مبنى فخخه الإرهابيون بالقنابل، كانت مارجوت تخاطر أكثر من دوجلاس الذي كان يعيش بالمنزل.
ومع ذلك، لقي دوجلاس حتفه في حادث سيارة، فيما لم يصب الفتيان الثلاثة الآخرون الذين كانوا معه بأذى شديد.
Unknown page