والرواية الحاضرة تمثل لك شهامة الحب في أجلى مظاهرها، وويلات العشاق وإلى أين تصل بهم، ودرجة اليأس وما تجر إليه، وعذاب الضمير وما يتبعه من نغص العيش وبغض الحياة، وفضيحة الأسرار وما يتوعدها من العقاب، وهي بين هذا وذاك تدلك على قدرة المرأة إذا أرادت، وتفانيها إذا أحبت، ويتخلل حوادثها بيان أخلاق وعادات ووقائع تاريخية جديرة بالتفات الأنظار، وفيها عظة واعتبار، فأتمنى أن تحل لديك - أيها القارئ العزيز - محل القبول، فتنال بذلك خير مأمول، والسلام.
المعرب
صالح جودت
الفصل الأول
الكنوت (وقد أصاب من دعاه القنوط) آلة من آلات التعذيب لدى الروسيين، وهو سوط تجمع فيه عدة سيور غليظة من جلد البقر، تجدل عند أصلها وتترك أطرافها منفصلة عن بعضها، وتجعل في كل طرف أسلاك مفتولة من الحديد، فحيثما وقعت على جسم المجرم سال الدم، فلا تتكرر عليه الضربات حتى يصير جسمه كأنه جرح واحد تنبثق منه الدماء، فتلبسه ثوبا أرجوانيا.
فلا بدع أن رأيت الناس في روسيا وقد اجتمعوا زرافات؛ ليشاهدوا توقيع العقاب بالكنوت على بعض المجرمين، فإنه من المشاهد الأهلية عندهم.
وفي عصاري يوم من أواسط أيام السنة الأولى من القرن التاسع عشر المنصرم، أي في أواخر حكم القيصر بول الأول إمبراطور الروسيا، ما كادت تقرع أجراس الكنائس ببطرسبرج مؤذنة بالساعة الرابعة من المساء حتى اجتمع لفيف من القوم على اختلاف طبقاتهم أمام قصر الجنرال الكونت شرميلوف حكمدار بعض مدن روسيا سابقا، وقد استوقفهم ما رأوه من المعدات لجلد بعض المغضوب عليهم من حاشية الجنرال بالكنوت، ولم يطل انتظار المتفرجين حتى خرج إلى صحن القصر شاب طويل القامة يبلغ الخامسة والعشرين من العمر، مرتد بكسوة ياور، وصدره مزين بالوسامات، فوقف على سلم في صدر المكان يوصل إلى مساكن الجنرال، ثم رفع عينيه إلى نافذة في القصر يرجو أن يرى من خلالها خيال من ينتظر رؤياه، فوجد أستارها مسبلة وأقفالها محكمة، فلما يئس من النظر التفت إلى رجل ذي لحية كثة سوداء واقف على مقربة منه بجوار المكان المعد لسكنى خدمة القصر، وأشار إليه بيده ففتح بابا قريبا منه، وللحال خرج المجرم المعد للعقاب يتبعه جلاده ويحيط بهما عبيد القصر، ويضطرون العبيد عادة لحضور الجلد إرهابا لهم واعتبارا، أما المجرم فكان حلاق الجنرال والجلاد سائق عربته المدعو إيفان (وهو خير من يقوم بمثل هذه المأمورية)، ولم تكن تلك المهنة التي اختص بها إيفان في القصر لتبغض إخوانه فيه؛ فإنهم كانوا يثقون بطيب قلبه وصفاء نيته، وأنه وإن كان مضطرا لاستعمال ذراعيه لإيذائهم بأمر مولاه، إلا أن قلبه يتألم مما تأتيه يداه، ولكن ماذا يسعه عمله؟ لا سيما أنه وباقي الخدم عبيد رق للجنرال يتصرف فيهم كما تشاء إرادته، وكان رأي الخدم العام مجمعا على أن يد إيفان أحن على أجسامهم في كل حال من كل يد سواها؛ لأنه كان يغالط أحيانا عدد الجلدات المحكوم عليهم بها، وإن رأى من المولى على مباشرة الضرب التفاتا وحرصا اجتهد في أن تصل أطراف الكنوت على اللوح الممدد عليه المجرم لأعلى جسمه فيخف بذلك ألم الضرب نوعا. ولقد نفعت إيفان رأفته برفاقه؛ فلما كان ينقلب به الحظ ويمدد يوما على لوح العذاب كان يجد من القائم مكانه بالضرب مراعاة ورأفة، فكانت هذه المعاملة سياجا للمحبة بين خدمة الجنرال وسائق عربته، ولا تتوطد دعائم هذه المحبة ويتم توثيق عراها بكل أنواع المجاملات إلا في الأوقات التي يكلف فيها إيفان بمباشرة مهنته وتنفيذ مهمته. ولكن لما كانت الجلدات الأولى - على كل حال - أشد الضرب إيلاما يغيب معها الرشد ويضل الفكر، كان المضروب لا يتحاشى نوعا من السباب يهديه إلى جلاده حتى إذا تم التعذيب وانصرف كل إلى شئونه، ثم أقبل الليل ومعه الراحة من الأعمال؛ يتبادل الضارب والمضروب كأسا من الخمر يصرفان في صرفها ضغينة النهار ويتناسيان بها سيئات الأقدار.
وكان المغضوب عليه هذه المرة حلاق الجنرال، وهو رجل من عبيده يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، ذو قامة تميل إلى الطول، ولحية شقراء تدل سحنته على أنه رومي الأصل، وتقرأ في عينيه صفات المكر والخديعة، ولو غشتهما مؤقتا علامة الخوف والاضطراب، فأتي به إلى مكان العذاب. فلما اقترب منه رفع عينيه إلى النافذة التي وجه إليها الضابط نظره أول مرة فوجدها مقفلة، ثم التفت إلى جمهور المتفرجين المزدحمين لدى باب القصر، ثم ارتد بصره خاسئا إلى لوح العذاب الممدد أمامه وتولته قشعريرة لما أصعد عليه، فلم يخف ما به على إيفان، حيث اقترب منه، وقال له بصوت ضعيف وهو ينزع عنه قميصه: تشجع يا جريجوار وكن رجلا.
فقال له الحلاق بصوت يذوب رجاء والتماسا: لا تنس ما وعدتني به أيها الصديق الحميم.
فأجابه: ليس في الضربات الأولى يا صاح، فإن ياور الجنرال لنا بالمرصاد، ولكن في الضربات الأخيرة سأبذل الجهد في مغالطة العدد فلا تخف ولا تحزن.
Unknown page