خطبة الكتاب وبيان الخفاجي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أثق
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
لقد جاءت رسل ربنا بالحق الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
لقد جاءت رسل ربنا بالحق صلوات الله عليهم وعلى سيدهم محمد والأبرار من عترته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
أما بعد: فإني لما رأيت الناس مختلفين في مائية١الفصاحة وحقيقتها أودعت كتابي هذا طرفًا من شأنها وجملة من بيانها وقربت ذلك على الناظر وأوضحته للمتأمل.
ولم أمل بالاختصار إلى الإخلال ولا مع الإسهاب إلى الإملال ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق.
اعلم أن الغرض بهذا الكتاب معرفة حقيقة الفصاحة والعلم بسرها فمن الواجب أن نبين ثمرة ذلك وفائدته لتقع ونقده فيه فنقول:
أما العلوم الأدبية فالأمر في تأثير هذا العلم فيها واضح لأن الزبدة منها والنكتة نظم الكلام على اختلاف تأليفه ونقده ومعرفة ما يختار منه مما يكره. وكلا الأمرين٢متعلق بالفصاحة بل هو مقصور على المعرفة
_________
١ نسبة إلى - ما- الاستفهامية وقد يقال ماهية بقلب الهمزة هاء.
٢ الأول نظم الكلام ونقده والثاني هو الذي عرف فيما بعد باسم علم البلاغة.
1 / 13
بها. فلا غنى للمنتحل الأدب عما نوضحه ونشرحه في هذا الباب.
وأما العلوم الشرعية فالمعجز الدال على نبوة محمد نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو القرآن والخلاف الظاهر فيما به كان معجزا على قولين:
أحدهما أنه خرق العادة بفصاحة١وجرى ذلك مجرى قلب العصا حية٢وليس للذاهب إلى هذا المذهب مندوحة عن بيان ما الفصاحة التي وقع التزايد فيها موقعا خرج عن مقدور البشر، والقول الثاني: أن وجه الإعجاز في القرآن صرف العرب عن المعارضة٣ مع أن فصاحة القرآن كانت في مقدورهم لولا الصرف وأمر القائل بهذا يجري مجرى الأول في الحاجة إلى تحقق الفصاحة ما هي؟ ليقطع على أنها كانت في مقدورهم ومن جنس فصاحتهم ونعلم أن مسيلمة وغيره لم يأت بمعارضة على الحقيقة لأن الكلام الذي أو رده خال من الفصاحة التي وقع التحدي بها في الأسلوب المخصوص وإذا ثبت بما ذكرناه الغرض بهذا الكتاب وفائدته فالدواعي إلى معرفة ذلك قوية والحاجة ماسة شديدة.
ونحن نذكر قبل الكلام في معنى الفصاحة نبدأ من أحكام الأصوات والتنبيه على حقيقتها ثم نذكر تقطعها على وجه يكون حروفا متميزة ونشير إلى طرف من أحوال الحروف في مخارجها ثم ندل على أن الكلام ما انتظم منها ثم نتبع ذلك بحال اللغة العربية وما فيها من الحروف وكيف يقع المهمل فيها والمستعمل وهل اللغة في الأصل مواضعة أو توقيف ثم نبين هذا كله وأشباهه مائية الفصاحة.
ولا نخلى ذلك الفصل من شعر فصيح وكلام غريب بليغ يتدرب بتأمله على فهم مرادنا فإن الأمثلة توضح وتكشف وتخرج من اللبس إلى البيان ومن جانب
_________
١ هذا هو قول جمهور العلماء.
٢ معجزة نبي الله موسى ﵇.
٣ هذا هو قول إبراهيم بن يسار المعروف بالنظام المتوفى سنة ٢٢١هـ.
1 / 14
الإبهام إلى الإفصاح فإذا أعان الله تعالى ويسر تمام كتابنا هذا كان مفردًا بغير نظير من الكتب في معناه.
وذلك أن المتكلمين وأن صنفوا في الأصوات وأحكامها وحقيقة الكلام ما هو فلم يبينوا مخارج الحروف وانقسام أصنافها وأحكام مجهورها ومهموسها وشديدها ورخوها. وأصحاب النحو وأن أحكموا بيان ذلك فلم يذكروا ما أوضحه المتكلمون الذي هو الأصل والأس. وأهل نقد الكلام١فلم يتعرضوا لشيء من جميع ذلك وإن كان كلامهم كالفرع عليه.
فإذا جمع كتابنا هذا كله وأخذ بحظ مقنع من كل ما يحتاج الناظر في هذا العلم إليه فهو مفرد في بابه غريب في غرضه. وفق الله تعالى ذلك ويسره بلطفه ومنه.
_________
١ هم علماء البلاغة.
فصل في الأصوات الصوت مصدر صات الشيء يصوت صوتًا فهو صائت وصوت تصويتا فهو مصوت. وهو عام ولا يختص. يقال: صوت الإنسان. وصوت الحمار. وفي الكتاب الكريم: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ ١ وقال الراجز: كأنما أصواتها في الوادي ... أصوات حج من عمان غاد٢ وقال جرير بن عطية: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس _________ ١ سورة لقمان الآية ١٩. ٢ حج جمع حاج.
فصل في الأصوات الصوت مصدر صات الشيء يصوت صوتًا فهو صائت وصوت تصويتا فهو مصوت. وهو عام ولا يختص. يقال: صوت الإنسان. وصوت الحمار. وفي الكتاب الكريم: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ ١ وقال الراجز: كأنما أصواتها في الوادي ... أصوات حج من عمان غاد٢ وقال جرير بن عطية: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس _________ ١ سورة لقمان الآية ١٩. ٢ حج جمع حاج.
1 / 15
والصوت مذكر لأنه مصدر كالضرب والقتل وقد ورد مؤنثًا على ضرب من التأول.
قال رويشد بن كثير الطائي:
يا أيها الراكب المهدي مطيته ... بلغ بني أسد ما هذه الصوت
فأراد الاستغاثة. كما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع بعض العرب يقول وذكر إنسانا: فقال فلان لغوب١ جاءته كتابي فاحتقرها فقال له: أتقول جاءته كتابي! قال: نعم أليست بصحيفة؟
وفي كتاب سيبويه:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليتيم٢
لأن بعض السنين سنة. ويقال: رجل صات أي شديد الصوت. كما يقال: رجل نال أي كثير النوال. وقولهم: لفلان صيت إذا انتشر ذكره من لفظ الصوت إلا أن واوه انقلبت ياءًا لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا: قيل من القول.
والصوت معقول لأنه يدرك ولا خلاف بين العقلاء في وجود ما يدرك. وهو عرض ليس بجسم ولا صفة لجسم. والدليل على أنه ليس بجسم أنه مدرك بحاسة السمع والأجسام متماثلة والإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات. فلو كان جسما لكانت الأجسام جميعها مدركة بحاسة السمع وفي علمنا ببطلان ذلك دليل على أن الصوت ليس بجسم. وهذه الجملة تحتاج إلى أن نبين أن الأجسام متماثلة وأن الإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات لأن كون الصوت مدركا بالسمع
_________
١ اللغوب واللغب الضعيف الأحمق.
٢ البيت لجرير في مدح هشام بن عبد الملك وقوله تعرقتنا بمعنى أذهبت أموالنا من تعرقت العظم إذا أذهبت ما عليه من اللحم.
1 / 16
والأجسام غير مدركة بالسمع مما لا يمكن دخول شبهة فيه ولا منازعة. والذي يدل على تماثل الأجسام: أنا ندرك الجسمين المتفقى اللون فيلتبس أحدهما علينا بالآخر لأن من أدركهما ثم أعرض عنهما وأدركهما من بعد يجوز أن يكون كل واحد منهما هو الآخر بأن نقل إلى موضعه ولم يلتبسا على الإدراك إلا لآشتراكهما في صفة تناولها الأدراك وقد بينا أن الإدراك إنما يتناول أخص صفات الذات وهو ما يرجع إليها وسندل على ذلك. وإذا كان الجسمان مشتركين فيما يرجع إلى ذاتيهما فهما متماثلان لأن هذا هو المستفاد بالتماثل.
فإن قيل: دلوا على أنهما لم يلتبسا إلا للاشتراك في صفة ثم بينوا أن تلك الصفة مما يتناوله الآدراك. قلنا: الوجوه التي يقع فيها الالتباس معقولة وهي المجاورة أو الحلول. كالتباس خضاب اللحية بالشعر من حيث المجاورة. وكما التبس على من ظن أن السواد الحال في الجسم صفة له من حيث الحلول. وكذلك من اعتقد أن صفة المحل للحال. حتى ذهب إلى أن للسواد حيزًا وكلا الأمرين منتف في التباس الجسمين لأنه لا حلول بينهما ولا مجاورة بل يقع الالتباس مع العلم بتغايرهما. فدل ذلك على ما ذكرناه.
فأما الدليل على أن الصفة التي اقتضت الالتباس مما يتناوله الإدراك فهو أن الأمر لو كان بخلاف ذلك لما التبسا على الإدراك وفي التباسهما عليه دلالة على تعلق الإدراك بما التبسا لأجله ولأن المشاركة فيما لا يتعلق الإدراك به لا يقتضى الاشتباه على المدرك. ألا ترى أن السواد لا يشبه البياض ويلتبس به عند المدرك وأن اشتركا في الوجود من حيث كان الإدراك لا يتعلق بالوجود.
وليس لأحد أن يقول: إذا أستدللتم على أن الأجسام متماثلة بالتباسها على الإدراك فقولوا: إن الأجسام التي لا تلتبس كالأبيض والأسود غير
1 / 17
متماثلة لفقد الالتباس. وذلك أن هذا مطالبة بالعكس في الأدلة وليس ذلك بمعتبر. وإثبات المدلول مع ارتفاع الدليل جائز غير ممتنع لأن الدليل غير موجب للمدلول وإنما هو كاشف عنه لكن المنكر ثبوت الدليل وارتفاع المدلول. على أن الالتباس في الجسمين المذكورين حاصل أيضًا لأن المدرك لهما ربما يجوز أن يكون أحدهما الآخر وإنما تغير لونه.
أما الدليل على أن الإدراك يتعلق بأخص صفات الذوات وأن كلامنا كله متعلق به فهو أنه لا يخلو من أن يكون يتعلق بالصفة الراجعة إلى الفاعل أو الراجعة إلى العلة أو الراجعة إلى الذات. والذي يرجع إلى الفاعل من الصفات هو الوجود. ولو تناوله الإدراك لم يخل من أن يتعداه إلى ما يرجع إلى الذات أو لا يتعداه فإن لم يتعد وجب ألا يحصل الفصل بين المختلفين بالإدراك لاشتراكهما في الوجود الذي لم يتناول الإدراك غيره. وإن تعداه إلى الصفة العائدة إلى الذات فيجب أن يفصل بين المختلفين بالإدراك من حيث افترقا في الصفة التي يتعلق بها وأن يلتبس أحدهما بالآخر من حيث اشتركا في الوجود الذي تعلق الإدراك به أيضًا وذلك محال فأما ما يرجع إلى العلل من صفات الجسم والذي يمكن أن يدخل شبهة في تناول الإدراك له كونه كائنا في جهة. والذي يوضح أن الإدراك لا يتناول ذلك أنه لو تناوله لفصل بالإدراك بين كل صفتين ضدين منه وذلك غير مستمر. وأحدنا لو أدرك جوهرًا في بعض الجهات ثم أعرض عنه جوز أن يكون انتقل إلى أقرب الأماكن إليه والتبس عليه الأمر فيه. ولا يلتبس أمره لو اسود بعد بياض، فبان أن الإدراك لا يتناول إلا أخص صفات الذوات، دون صفات العلل وما بالفاعل.
ويمكن الدلالة على أن الصوت ليس بجسم إذا ثبت أن الأجسام متماثلة من وجه آخر وذلك أنا ندرك الأصوات مختلفة. فالراء مخالفة للزاي. وكذلك سائر الحروف المختلفة فإذا كانت الأجسام متماثلة والأصوات
1 / 18
تدرك مختلفة فليست بأجسام. وإذا كنا دللنا على أن الصوت ليس بجسم فالذي يدل على أنه ليس بصفة لجسم بل هو ذات مخالفة له أن الصوت لو كان صفة لم يخل من أن يكون صفة ذاتية أو غير ذاتية. ولا يجوز أن يكون صفة ذاتية لتجدده وأن دوامه غير واجب. ولا يجوز أن يكون صفة غير ذاتية لما بيناه من أن الأدراك لا يتناول إلا الصفات الذاتية والصوت مدرك بلا خلاف. ومع الدلالة على أن الأصوات أعراض ففيها المتماثل والمختلف وقد ذهب أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي: إلى أن المختلف منها متضاد. وتوقف علم الهدى المرتضى١ نضر الله وجهه عن القطع على ذلك. فأما أبو هاشم فإنه اعتمد في تضادها على طريقين أحدهما: أن حمل الصوت على اللون من حيث كان إدراك كل واحد منهما مقصورًا على حاسة واحدة فلما قطع على تضاد المختلف من الألوان قال بمثل ذلك في الأصوات. والطريق الثاني: أن الصوت مدرك فهو هيئة للمحل إذا أوجب مختلفة هيئتين استحال اجتماعهما للمحل في حالة واحدة كما يستحيل ذلك في الألوان. وليس بعد امتناع اجتماعهما في المحل الواحد في الوقت الواحد إلا التضاد.
ولقائل أن يقول على ما ذكره أولا: ما أنكرت من أن تكون الأصوات والألوان وإن اتفقت في إدراك كل واحد منهما بحاسة واحدة تختلف فيكون المختلف من الألوان متضادًا دون الأصوات ولا يوجب الاتفاق في قصر الإدراك على حاسة واحدة التساوي في جميع الأحكام. كما أنها وإن اتفقت عندك في ذلك فلم تتفق في أن الأصوات تبقى كما أن الألوان تبقى ولا في أن الأصوات يضادها ما يحدث بعدها كما كان ذلك في الألوان. وإذا جاز مع التساوي فيما ذكرته من قصر الإدراك على حاسة واحدة. الاختلاف في أحكام كثيرة فأحر أن يكون المختلف من
_________
١ هو الشريف أبو القاسم على بن الظاهر ابن أحمد الحسين المتوفى سنة ٤٣٦هـ.
1 / 19
الأصوات غير متضاد وإن كان المختلف من الألوان متضادًا.
ويقال له فيما ذكره ثانيًا: إن الصوتين المختلفين ليس محلهما واحدًا فيقطع على تضادهما لامتناع اجتماعهما فيه في ذلك الوقت الواحد. بل محال الحروف المتغايرة متغايرة وإذا كان المحلان مختلفين فلا سبيل إلى القطع على التضاد بإستحالة اجتماعهما في المحل. لأن كل واحد من الصوتين المختلفين لا يصح أن يحل محل الآخر.
وقد أشار القاضي أبو الحسن١ عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ﵀: إلى أن الأصوات غير متضادة لأنها غير باقية والمنافاة إنما تصح في المتضاد الباقي. كأنه أراد أن عدم أحد الضدين إذا كان واجبا لأنه مما لا يبقى فليس لوجود ضده حكم يخالف عدمه.
فأما الكلام في تماثلها واختلافها فالدلالة على ذلك ما قدمناه من الإدراك لها. وبيانه في الحروف فأن الراء تدرك ملتبسة بالراء ومخالفة للزاي وقد بينا أن الإدراك يتناول أخص صفات الذات ولا يجوز وجود الصوت إلا في محل أما من أثبت حاجة جميع الأعراض إلى المحال من حيث كان عرضا وأما من أجاز وجود بعض الأعراض في غير محل بدلالة أنه يتولد عن اعتماد الجسم ومصاكته لغيره ولأنه يختلف باختلاف حال محله فيتولد من الصوت في الطست خلاف ما يتولد في الحجر فيقول قد ثبت وجود بعض الأصوات في غير محل فإذا ثبت ذلك في بعضه ثبت في جميعه لأن الأصوات متفقة في أنها لا توجب حالا لمحل ولا جملة ٢.
_________
١ هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني – أبو الحسين قاض أصولي لقب بقاضي القضاة وكان شيخ المعتزلة في عصره ولي القضاة بالري ومات فيها له تصانيف كثيرة منها: الأمالي والمجموع في المحيط وشرح الأصول الخمسة والمغني في أبواب التوحيد والعدل وتثبيت دلائل النبوة وتشابه القرآن توفي بالري عام ١٠٢٥ ميلادية.
٢ في هذه العبارة تحريف لأن معناها غير ظاهر.
1 / 20
وقد ذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي١: إلى أن جنس الصوت يحتاج مع المحل إلى هيئة وحركة. وقال أبو هاشم أخيرًا: أنه لا يحتاج إلا إلى المحل. وعلى هذا القول أكثر أصحابه. وله نصر الشريف المرتضى ﵁. واستدلوا على نفي حاجته إلى غير المحل بأنه مما لا يوجب حالًا لغيره فجرى مجرى اللون في أنه لا يحتاج إلى سوى محله. وقالوا: أن الصوت من فعلنا إنما احتاج إلى الحركة لأنها كالسبب فيه من حيث كنا لا نفعله إلا متولدًا عن الاعتماد على وجه المصاكة والاعتماد يولد الحركة فلهذا جرى مجرى السبب. فليس يمتنع أن يفعل الله تعالى الصوت مبتدأ من غير حركة كما يفعله غير متولد عن الاعتماد وكما يفعل ما وقع منا بآلة من غير آلة. وجعلوا هذا هو العلة في انقطاع طنين الطست بتسكينه. وأجازوا وجود القليل من الصوت مع السكون عند تناهيه وانقطاعه ومنعوا من وجوده من فعلنا مع السكون من فعلنا حالا بعد حال٢ لما ذكرناه.
والأصوات تدرك بحاسة السمع في محالها ولا تحتاج إلى انتقال محالها وانتقالها وكونها أعراضا منع من انتقالها. وقد استدل على ذلك بأنها لو انتقلت لجاز أن تنتقل إلى بعض الحاضرين دون بعض حتى يكون مع التساوي في القرب والسلامة يسمع الصوت بعضهم دون بعض وأن يجوز إختلاف انتقال الحروف حتى يدرك الكلام مختلفا. واستدل على ذلك أيضًا بأنه: لو احتيج في إدراك الأصوات إلى انتقال المحال لما وقع الفرق مع السلامة بين جهة الصوت والكلام مكانهما كما أنه لا يعرف في أي جهة
_________
١ هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجنائي أبو علي ولد عام ٢٣٥هـ وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة الجبائية له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته إلى جبن بجبي له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعري. توفي عام ٣٠٣هـ.
٢ في هذه العبارة ارتباك ظاهر وهنا كما ورد في الأصل.
1 / 21
انتقل إلى محل ما يلاقيها من الأجسام التي يدرك منها الحرارة والبرودة. وقد سئل على هذا المذهب عن العلة في مشاهدة القصار من بعد يضرب الثوب على الحجر ثم يسمع الصوت بعد مهلة فيسبق النظر السمع. وأجيب عن ذلك: بأن الصوت يتولد في الهواء والبعد المخصوص مانع من إدراكه فإذا تولد فيما يقرب أدرك في محله وإن ما يتصل بحاسة السمع والذي يدرك بعد مهلة هو غير الصوت الذي تولد عن الصكة الأولى لأن ذلك إنما لا يدرك لبعده. قيل: فكذلك يدرك الصوت في جهة الريح أقوى لأنه يتولد فيها حالا بعد حال فيكون إلى إدراكه أقرب. وإذا كانت الريح في خلاف جهة الصوت ضعف إدراكه وربما لم يدرك لأنه يتولد فيما يبعد عنه البعد المانع من إدراكه. ولا يجوز البقاء على الأصوات أما من أثبت البقاء معنى كالبغداديين من المعتزلة فإنه يمنع من بقاء جميع الأعراض لأن البقاء الذي هو عرض عنده لا يصح أن يحل العرض. وأما من لم يثبت البقاء معنى - وهو الصحيح - ويجوز على بعض الأعراض البقاء ويقطع على بعض فإنه يعتل في المنع من بقاء الأصوات بأنها لو بقيت لاستمر إدراكنا لها مع السلامة وارتفاع الموانع ومعلوم خلاف ذلك. ولو كان الصوت مدركا على الاستمرار لم يقع عنده فهم الخطاب لأن الكلمة كانت حروفها تدرك مجتمعة فلا يكون زيد أولى من يزد أو غير ذلك مما ينتظم من حروف زيد. ولو كان الكلام أيضًا باقيا لكان لا ينتفي إلا بفساد محله لأنه لا ضد له من غير نوعه. ولا تقع الأصوات من فعل العباد إلا متولدة. ويدلك على ذلك أيضا تعذر إيجادها عليهم إلا بتوسط الاعتماد والمصاكة ولأنها تقع بحسب ذلك فيجب أن تكون مما لا يقع إلا متولدًا كالآلام.
والصوت يخرج مستطيلا ساذجا حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا. وسنبين ذلك.
1 / 22
فصل في الحروف
الحرف في كلام العرب يراد به حد الشيء وحدته. ومن ذلك حرف السيف إنما هو حده وناحيته. وطعام حريف: يراد به الحدة. ورجل محارف أي محدود عن الكسب. وقولهم: انحرف فلان عن فلان أي جعل بينه وبينه حدا بالبعد.
وفسر أبو عبيدة معمر بن المثنى١ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ ٢ أي لا يدوم. وفسره أبو العباس أحمد بن يحيى٣ أي على شك. وكلا التأويلين على ما قدمناه لأن المراد أنه غير ثابت على دينه ولا مستحكم البصيرة فيه فكأنه على حرفه أي غير واسط منه.
وسميت الحروف حروفًا لأن الحرف حد منقطع الصوت. وقد قيل: إنها سميت بذلك لأنها جهات للكلام ونواح كحروف الشيء وجهاته.
فأما قولهم في القراءة: حرف أبي عمرو من القراء وغيره فقد قيل فيه: إن المراد أن الحرف كالحد ما بين القراءتين. وقيل أيضًا: أن الحرف في هذا القول المراد به الحروف كما قال الله تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ ٤ أي والملائكة. وكقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم أي
_________
١ هو معمر بن المثنى التيمي أبو عبيدة النحوي المعروف من أئمة العلم بالأدب واللغة ولد بالبصرة سنة ١١٠هـ وتوفي فيها سنة ٢٠٩هـ قال عنه الجاحظ لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه له نحو ٢٠٠ مؤلف منها نقائض جرير والفرزدق ومجاز القرآن وأيام العرب ومعاني القرآن ٠٠ وغيرها كثير وهو من حفاظ الحديث-.
٢ سورة الحج الآية ١١.
٣ هو أحمد بن يحيى بن زيد الشيبائي أبو العباس المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة وكان راوية للشعر مشهورا بالحفظ ولد ببغداد سنة ٢٠٠هـ أصيب في أواخر عمره بالصمم توفي على أثر صدمة تلقاها من فرس سنة ٢٩١.هـ من كتبه قواعد الشعر وشرح ديوان زهير والفصيح ومجالس ثعلب.
٤ سورة المجادلة الآية ١٧.
1 / 23
الدنانير والدراهم ١. والمعنى: أن القارىء يؤدي حروف أبي عمر وبأعيانها من غير زيادة ولا نقصان.
وقد اختلفوا في تسمية الناقة الضامر حرفًا. فقال قوم: أي أنها قد حددت أعطافها بالضمر.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: لأنها انحرفت عن السمن. وقال غيره: شبهت بحرف الجبل في الشدة والصلابة. وزعم بعضهم: أنها شبهت بحرف السيف في مضائه. وقال آخرون: شبهت بالهاء من الحروف لدقتها وتقويسها. وكل هذا راجع إلى ما تقدم.
ومنه سمى مكسب الرجل حرفة لأنه الجهة التي انحرف إليها. وسموا الميل محرافًا لدقته. وأنشد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد:
كما زل عن رأس الشجيج المحارف٢
والتحريف في الكلام الميل والانحراف. قال الله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ ٣.
أما تسمية أهل العربية أدوات المعاني نحو: من وقد حروفا فإنهم زعموا أنهم سموها بذلك لأنها تأتي في أول الكلام وآخره فصارت كالحروف والحدود له. وقد قال بعضهم: إنما سميت حروفًا لانحرافها عن الأسماء والأفعال. وهي عندنا نحن كلام لأنها منتظمة من حرفين فصاعدًا.
وأما قولهم للحروف التي في لغة العرب حروف المعجم فليس بصفة للحروف لأن ذلك يفسد من وجهين أحدهما: امتناع وصف
_________
١ لأن أل فيها للجنس.
٢ المحارف جمع محراف وهو الميل الذي يسبر به الجراحات يقول بلغ الميل العظم نزل عنه.
٣ سورة النساء الآية ٤٦.
1 / 24
النكرة بالمعرفة١ والثاني: إضافة الموصوف إلى صفته والصفة عند النحويين هي الموصوف في المعنى ومحال أن يضاف الشيء إلى نفسه٢. إلا أن أبا العباس المبرد ذهب في ذلك إلى أن المعجم بمنزلة الإعجام كما تقول: أدخلته مدخلا أي إدخالا. وكما حكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: أن بعضهم قرأ: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ ٣ بفتح الراء أي من إكرام. فكأنهم قالوا - على هذا الوجه: حروف الإعجام. ولم يجز أبو الفتح عثمان بن جنى أن يكون قولهم: حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع. قال: لأن معنى ذلك: صلاة الفريضة الأولى ومسجد اليوم الجامع فهما صفتان حذف موصوفاهما وأقيما مقامهما وليس كذلك حروف المعجم لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم ولا حروف اللفظ المعجم. وليس يبعد عندي ما أنكره أبو الفتح بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس. وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط فوصف الخط العربي بأنه معجم لهذه العلة. وقيل: حروف المعجم أي حروف الخط المعجم كما يقال: حروف العربي أي حروف الخط العربي وليس يمكن أن يعترض على هذا القول بأن يدعى أن وضع كلام العرب قبل خطهم وأن التسمية كانت لحروفه بحروف المعجم من حين تكلم به لأن قائل هذا يحتاج إلى إقامة الدلالة على ذلك وهي متعذرة لبعد العهد وفقد الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة ذلك لا سيما إثبات التسمية لهذه الحروف بأنها حروف المعجم
_________
١ الممنوع نعت النكرة بالمعرفة وما هنا من باب الإضافة.
٢ إضافة الموصوف إلى صفته ليست من إضافته الشيء إلى نفسه لما بينهما من المغايرة التي تجعل هذا موصوفا وذلك صفة.
٣ سورة الحج الآية ١٨.
1 / 25
قبل وضع الخط وكلما يروى من ابتداء وضعه وأنه خرج على ما قيل من الأنبار وما يجري هذا المجرى فليس يثمر إلا الظن.
فإذا قيل أعجمت الكتاب فمعناه ازلت ابهامه كما يقال اشكيته إذا إذا أزلت ما يشكوه.
لأن هذه اللفظة في كلام للابهام والخفاء. ومنه: رجل أعجم. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "جرح العجماء جبار" ١ يريد البهيمة. وعجم الزبيب وغيره أي المستتر فيه. وسموا صلاتي الظهر والعصر: عجماوين لأنه لا يفصح بالقراءة فيهما. والحروف تختلف بأختلاف مقاطع الصوت حتى شبه بعضهم الحلق والفم بالناي لأن الصوت يخرج منه مستطيلًا ساذجًا فإذا وضعت الأنامل على خروقه ووقعت المزاوجة بينها سمع لكل حرف منها صوت لا يشبه صاحبه فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم بالإعتماد على جهات مختلفة سمعت الأصوات المختلفة التي هي حروف. ولهذا لا يوجد في صوت الحجر وغيره لأنه لا مقاطع فيه للصوت وليس يحتاج إلى حصر الحروف التي يتعلق بها. وإنما الغرض ذكر ما في اللغة العربية التي كلامنا عليها لأن في غيرها من اللغات حروفًا ليست فيها كلغة الأرمن وما جرى مجراها.
فحروف العربية تسعة وعشرون حرفا وهي: الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والقاف والكاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو. فهذا ترتيبها على المخارج.
وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد٢ لا يعتد بالهمزة ويجعل
_________
١ أخرج البخاري الحديث بلفظ العجماء جرحها جبار.
٢ هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثعالي الأزدي أبو العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمنه ولد بالبصرة سنة ٢١٠هـ وتوفي ببغداد سنة ٢٨٦هجرية =
1 / 26
الحروف ثمانية وعشرين حرفًا. وقوله هذا عند النحويين مرفوض واعتلاله بأن الهمزة لا صورة لها مستكره غير مرضى١ لأن الاعتبار باللفظ دون الخط وهي ثابتة فيه. ولو أن العرب خط لها كغيرها من الأمم لم يمنع ذلك من الاعتداد بجميع هذه الحروف المذكورة.
فأما الألف التي هي ساكنة أبدًا فقد قالوا: إن واضع الخط ولا ى أتى بلا على وزن ما لأن الألف ساكنة لا يصح الابتداء بها فجاء بحرف قبلها ليمكن النطق بها ويقع تمثيل ذلك.
وليس غرضه أن يبين كيف يتركب بعض هذه الحروف من بعض كما يقول المعلمون: لام ألف. ولو أراد أن يبين التركيب لبينه في سائر الحروف ولم يقتصر على الألف مع اللام.
وقد قال أبو الفتح عثمان بن جتى٢: أنهم إنما اختاروا لها حرف اللام دون غيره من الحروف لأن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ لأنه أصل للخط والخط فرع عليه. فلما رآهم قد توصلوا إلى النطق بلام التعريف بان قدموا قبلها الفا نحو الغلام والجارية لما لم يمكن الابتداء باللام الساكنة كذلك أيضًا قدم قبل الألف في لا لا ما توصلا إلى النطق بالألف الساكنة.
وكان في ذلك ضرب من المعارضة بين الحرفين.
ويمكن عندي أن يعترض على هذا القول بأن يقال: أن التي مع اللام
_________
= من كتبه المطبوعة: الكامل والمقتضب وشرح لامية العرب ومن كتبه المخطوطة المذكر والمؤنث والتعازي والمرائي والمقرب.
١ لا يخفى أن الهمزة لها صورة معروفة وإن كانت لا تنفصل توضع فوقه أو تحته.
٢ هو عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو ولد بالموصل وتوفي ببغداد كان أبو مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي من تصانيفه رسالة في من نسب إلى أمه من الشعراء مخطوط ومن كببه المطبوعة شرح ديوان المتنبي والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة والمحتسب في شواذ القراءات والمذكر والمؤنث وغيرها كثير.
1 / 27
في الرجل والجارية هي الهمزة وليست الألف الساكنة التي جاءت اللام معها في لا فكيف تجعل العلة في ورود اللام هنا مع الألف ورود الهمزة هناك مع اللام وليس بين الموضعين تناسب ولا معارضة كما ذكرت وهل يصح أن يقال: إن الألف الساكنة التي لا يمكن أن يبتدأ بها في النطق بل يحتاج إلى حرف قبلها يتوصل بها إلى النطق بلام التعريف التي هي ساكنة مثلها وكل من الحرفين يحتاج إلى ما يحتاج إلى ما يحتاج إليه الآخر؟
فإن قيل: إن الهمزة التي مع اللام في الرجل هي ألف على الحقيقة وهي التي بعد اللام في قولهم: لا وإن كانت ساكنة هناك قيل له فما وجه إنكارك وإنكار أصحابك على أبي العباس المبرد أنه لم يعتد بالهمزة في الحروف بل جعلها ثمانية وعشرين حرفا فقط١ أو ليس هذا منكم إنكار للهمزة رأسا وليس يحظر أن يجاب عن هذا الكلام إلا بأن كافة النحويين يطلقون على الهمزة التي مع لام التعريف أنها ألف ومثل هذا لا يقنع لأن التعليل فيما ذكره أبو الفتح إذا قصر على الشبه في الاسم ضعف جدًا واطرح.
ثم الكلام عليهم أيضًا باق في قولهم أن الهمزة في نحو الرجل ألف على الإطلاق مع اعتقادهم أن الألف هي الحرف الساكن أبدًا في نحو كتاب وغيره والهمزة حرف غيره وإنكارهم على أبي العباس المبرد ما ذكرناه.
فأما نحن إذا سئلنا عن العلة في إيراد اللام مع الألف للتوصل بحرف متحرك دون غيرها من الحروف فمن جوابنا أن الغرض كان إيراد حرف متحرك للتوصل به والعادة جارية في مثل هذا الموضع بمجيء همزة الوصل كما جاءت في نحو اذهب وغيره فمنع من ذلك ما ذكره أبو الفتح
_________
١ قد يجاب عن هذا بأنه خاص بهمزة الوصل فهي عليه ألف على الحقيقة دون همزة القطع.
1 / 28
من أنها تأتي مكسورة ولو جاءت قبل الألف مكسورة لانقلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها وانتفض الغرض. فلما خرجت الهمزة بهذه العلة التي ذكرها كانوا في غيرها من الحروف بالخيار أي حرف متحرك ورد صح به الغرض فأتوا باللام لغير علة كما خص واضع الخط بعض الحروف بشكل دون بعض لغير سبب. وأمثال هذا الذي لا يعلل كثيرة لا تحصى.
ويلحق هذه الحروف التي ذكرناها حروف بعضها يحسن استعماله في الفصيح من الكلام وبعضها لا يحسن فالتي تحسن ستة أحرف وهي: النون الخفيفة التي تخرج من الخيشوم والهمزة المخففة وألف الإمالة وألف التفخيم وهي التي بها ينحا نحو الواو وذلك كقولهم في الزكاة: الزكاوة والصاد التي كالزاي نحو قولهم في مصدر مزدر والشين التي كالجيم نحو قولهم في أشدق أجدق.
والحروف التي لا تستحسن ثمانية وهي الكاف التي بين الجيم والكاف نحو كلهم عندك والجيم التي كالكاف نحو قولهم للرجل ركل والجيم التي كالشين نحو قولهم خرشت والطاء التي كالتاء كقولهم طلب والضاد الضعيفة كقولهم في أثرد أضرد والصاد التي كالسين في قولهم صدق والظاء التي كالثاء كقولهم ظلم والفاء التي كالباء كقولهم فرند١.
ومخارج هذه الحروف ستة عشر مخرجًا: ثلاثة في الحلق فأولها من أقصاه مخرج الهمزة والألف والهاء وهذا على ترتيب سيبويه. وزعم أبو الحسن الأخفش أن الهاء مع الألف لا قبلها ولا بعدها. ثم يليه من وسط الحلق مخرج العين والحاء. ثم من فوق ذلك مع أول الفم مخرج الغين والخاء. ثم من أقصى اللسان مخرج القاف. ومن أسفل ذلك وأدنى إلى
_________
١ في المخطوط رسم المؤلف فوق كل حرف ما يشبهه فجيما صغيرة فوق حرف الكاف في كلهم وركل وخرشت وتاء صغيرة كذلك فوق حرف الطاء من طلب وهكذا حتى آخر الأمثلة.
1 / 29
مقدم الفم مخرج الكاف. ومن وسط اللسان ذلك بينه وبين الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء. ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد. ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام. ومن طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا مخرج النون. ومن مخرج النون غير أنه ادخل في ظهر اللسان مخرج الراء. ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والتاء والدال. ومما بين الثنايا وطرف اللسان مخرج الصاد والزاي والسين. ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج الظاء والثاء والذال. ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء ومن بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة.
ومن هذه الحروف المجهور والمهموس ومعنى الجهر في الحرف أنه أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضى الاعتماد ويجري الصوت. ومعنى الهمس فيه أن يضعف الاعتماد في الصوت حتى يجري معه النفس. والحروف المهموسة عشرة أحرف وهي الهاء والحاء والخاء والكاف والسين والصاد والتاء والشين والثاء والفاء ويجمعها في اللفظ ستشحثك خصفه وجمعت أيضا: سكت فحثه شخص وما سوى هذه الحروف هو المجهور.
ومنها أيضا الرخو والشديد والذي بين الشديد والرخو فالشديد الحرف الذي يمنع الصوت أن يجري فيه. وهي ثمانية أحرف: الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والدال والتاء والباء ويجمعها في اللفظ أجدك قطبت. والتي بين الشديد والرخو ثمانية أحرف وهي: الألف والعين والراء واللام والياء والنون والميم والواو ويجمعها في اللفظ: لم يروعنا. والرخوة الحروف التي لا تمنع الصوت أن يجري فيها وهي ما سوى هذين القسمين المذكورين.
1 / 30
ومنها أيضًا المنطبقة والمنفتحة ومعنى الأطباق أن يرفع المتلفظ بهذه الحروف لسانه ينطبق بها الحنك الأعلى فينحصر الصوت بين اللسان والحنك. وهي أربعة أحرف: الصاد والضاد والطاء والظاء. وما سواها من الحروف مفتوح غير منطبق.
ومن الحروف أيضًا حروف الاستعلاء. وحروف الانخفاض ومعنى الاستعلاء: أن تصعد في الحنك الأعلى وهي سبعة أحرف: الحاء والغين والقاف والضاد والظاء والصاد والطاء.
وما سوى ذلك من الحروف منخفض.
ومنها حروف الذلاقة ومعنى الذلاقة أن يعتمد عليها بذلق اللسان وهو طرفه وذلق كل شيء حده. وهي ستة أحرف: اللام والراء والنون والفاء والباء والميم. وما سواها من الحروف فهي المصمتة.
وللحروف أيضًا انقسام إلى الصحة والاعتلال والزيادة والأصل والسكون والحركة وغير ذلك مما أكثر علقته بالنحو ولو ذكرناه في هذا الكتاب أطلناه. وعدلنا عن الغرض في تقريبه.
وإنما أربنا ذكر مالا يستغنى عنه طالب معرفة الفصاحة التي لها يقصد وإليها ينحو. فأما ما سوى ذلك فاللمحة تقنع منه واللمعة تغنى فيه. وفيما أردناه من أقسام الحروف وأحكامها في هذا الفصل مقنع ولا يليق به الزيادة عليه والإسهاب لأنه كالطريق الذي يجتاز فيه إلى مرادنا ونتوصل بسلوكه إلى مقصدنا فالليث به غير واجب والريث فيه غير محمود ١.
_________
١ أخذ ابن الأثير في كتاب المثل السائر على المؤلف أنه أكثر في كلامه من ذكر الأموات والحروف والكلام عليها وإن كان كتابه هذا جيد.
1 / 31
فصل في الكلام
الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير. وذكر السيرافي أنه مصدر والصحيح أنه اسم للمصدر والمصدر التكليم قال الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ١ ولعل أبا سعيد تسمح في إيراد ذلك وقاله مجازًا. فأما الكلم فإنه اسم يدل على الجنس هكذا مذهب أهل النحو في الأسماء التي يكون فيها الاسم على صورتين تارة بالهاء وتارة بطرحها نحو تمرة وتمر وبسره وبسر وما أشبه ذلك. على أن بعضهم قد جعل الكلم جمع كلمة لكن الأحرى على مذهبهم ما ذكرناه.
والكلمات جمع كلمة وقد حكى كلمة وجمعها كلم. وروى أبو زيد أن العرب تقول الرجلان لا يتكالمان يريد: لا يتكلمان ٢. وقد استدل على أن الكلام ليس بمصدر بأن الفعل المستعمل منه إنما هو كلمت وفعلت يأتي مصدره في القياس على مثال التفعيل نحو: كسرت تكسيرا ولا يأتي مصدره في القياس على مثال التفعيل نحو: كسرت تكسيرا ولا يأتي على لفظ آخر.
والكلام عندنا على ما انتظم من هذه الحروف التي ذكرناها أو غيرها على ما بيناه من أننا لا نذكر إلا حروف اللغة العربية دون غيرها من اللغات. وحده ما انتظم من حرفين فصاعدًا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن تصح منه أو من قبيله الإفادة. وإنما شرطنا الانتظام لأنه لواتي بحرف ومضى زمان وأتى بحرف آخر لم يصح وصف فعله بأنه كلام. وذكرنا الحروف المعقولة لأن أصوات بعض الجمادات ربما تقطعت على وجه يلتبس بالحروف. ولكنها لا تتميز وتتفصل كتفصيل الحروف التي ذكرناها.
واشترطنا وقوع ذلك ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة لئلا يلزم عليه أن يكون ما
_________
١ سورة النساء الآية ١٦٤.
٢ مادة تكالما تدل على المشاركة بخلاف مادة تكلم فلا يجوز تفسير الأولى بالثانية.
1 / 32