فقالت إذ ذاك سلمى: «الحق مع توفيق يا أبي، وهل هو لعبة يا ترى؟ أرح يديك في الأقل.» - «يا قرد، أيلام المشتاق إذا بث أشواقه؟» فقال توفيق وهو يصافح سلمى: «وكسر أضلاع المشتاق إليه، لا بأس، لا نلومه إذا كان لا يلومنا.»
فضحكت سلمى وهي تتقدمه إلى الديوان وتقول: «اجلس وقص علي قصتك كلها من الألف إلى الياء.» - «قصة طويلة يا سلمى، ولا شك أنه جائع مثلي، فبعد العشاء - إن شاء الله - غدا وبعد غد يقصها عليك بالتتابع. هاتي لنا العرق الآن وشيئا من الماذا.»
امتثلت سلمى أمر أبيها، وراحت تخدم الاثنين كأنها جارية وكأنهما أميران، بل كانت في نظرهما وهي تروح وتجيء كطيف من أطياف الجنة، خفيفة الحركة، رشيقة القوام، ساحرة اللحظ والابتسام، فلا لوم على إلياس نادر إذا غالى في حب ابنته وإعجابه بها، ولا عجب إذا قبل توفيق من أجلها كل لطمة من لطماته، وضحك لكل نكتة من نكاته، فعند الكأس والحب والشوق واللقاء لا يرى المرء على الأرض غير ما في السماء، ولو سئل سرجنت زيدون رأيه في الكون بعد أن عاد من فرنسا وتعددت زياراته إلى بيت نادر، لقال ولا شك ناسيا لوسيل والقمار وويلات الحرب: «الكون عال من الطبقة الأولى.»
أما أنطونيو كاتالان بياع الثمار والحلوى في الدكان الصغير أمام بيت نادر، فجل ما يقال فيه أن رأيه في الكون لا يليق بالنقل والنشر، ولا عجب؛ فقد حدث في عالم أنطونيو يوم عاد السرجنت زيدون من فرنسا حادث خطير غير في نظره نظام الكائنات، فأمست الحياة كثمرة بالية بين يديه، أو كقشرة موز تحت قدميه.
أما في أثناء تغيب توفيق فقد كان موفقا في عمله، سعيدا في يومه، أرباحه كثيرة، وآماله كبيرة، وكل مصاعب الحياة لديه صغيرة حقيرة، كيف لا وكان إذا نظر من باب دكانه إلى الشباك في البيت الذي أمامه تجلت له آيات السحر والجمال في لواحظ فتانة سرقت من سماء سوريا النور، ومن فجر سوريا السهام؟! وكم مرة وهو يصفف تفاحاته وموزاته رآها في الشباك تنفض البساط ، وخدها كالتفاح، وجبينها كجبين الصباح! وكم مرة وقف وسلمى في الباب عند المساء وكان الكون أمامها بابا للسعادة مفتوحا على مصراعيه! بل حدث ولا حرج عن ساعات جلس فيها وإياها على الديوان، فخيل إليه أن الأفلاك تدور تحت قدميه.
أما الآن، فالويل لمن أقفل الأبواب، والويل لمن أفسد عليه نظام الكائنات، والويل لك أيتها الفتاة السورية الناكرة الوعود، العابثة بالعهود، الويل لك من غضب أنطونيو كاتالان، والويل لمن تربع مكانه على الديوان، وحل محله في أعلى الجنان.
فها هو ذا مسرع إلى بيت صديقه القديم بتروكنتي البقال وعينه تقدح نارا، ورأسه يلتهب بالمقاصد السامية لإصلاح الكون. أجل، ليس أنطونيو من الذين يخضعون مستسلمين إلى الأقدار، أو يسكتون عمن يلعب على حسابهم بالنار.
وصل إلى الدكان فوجد من فيه ممن هم في نظره آفات الزمان مشتغلين كل بما يهمه؛ بتروكنتي يعد نقوده، وامرأته تقشر البطاطا للعشاء، وابنهما الصغير القذر متربع على الأرض وهو يكسر بيديه ورجليه لعبة من اللعب، فود أنطونيو لو أن الكون كهذه اللعبة بين يديه. - مساء الخير يا كاتالان. كيف حالك؟ - لا يهمني حالي، عندما تنتهي من عد أموالك أكلمك. - انتهيت، وأنا مصغ إليك.
فدنا أنطونيو منه وانحنى فوق صندوق الزجاج قائلا: أمر مهم.
ففتح بترو بابا صغيرا بين رفوف الدكان وأدخله إلى غرفته الخصوصية.
Unknown page