والقلب الكريم لا ينسى شيئا أحبه، لا شيئا ألفه؛ إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتصل بالمعدوم اتصاله بالموجود على قياس واحد، فكأنما القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعض السر الأزلي الذي يحيط بالأبعاد كلها إحاطة واحدة؛ لأنها كلها كائنة فيه: فليس بينك وبين أبعد ما مر من حياتك إلا خطوة من الفكر، هي للماضي أقصر من التفاتة العين للحاضر. •••
ليس بجمال إلا ذلك الروح الذي يرفع النفس إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوة التي يطير، ويدعها بعد ذلك تترامى بين أفق إلى أفق؛ فإما انتهى المحب إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقة من الحقائق، وإما انكفأ من أعاليه، وبه ما بالطيارة الهاوية: رفعت راكبها إلى حيث ترمي به ميتا، أو كالمغشي عليه من مس الموت!
والذين ينكرون أن الجمال يقتل أحيانا، أو يجعل الحياة كالقتل، ثم يدعون مع ذلك هوى وحبا، إنما هم أولئك الذين يعشقون بنفس العاطفة المادية الخسيسة التي يحبون بها الذهب، والفضة، وورق البنك ...
وليس بحب إلا ما عرفته ارتقاء نفسيا، تعلو فيه الروح بين سماوين من البشرية فتلوح منهما كالمصباح بين مرآتين: يكون واحدا وترى منه العين ثلاثة مصابيح؛ فكأن الحب هو تعدد الروح في نفسها، وفي محبوبها. •••
ولا سمو للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانا؛ فأجللته وأكبرته.
فإذا أنت أصبت في الخليقة من أغفل الله قلبه
11
عن تلك الأربعة! فلا حب، ولا صلة! ولا يألف ولا يؤلف، فذلك هو الذي لا نفس له من نفوس الناس، كأنه سبع من السباع الضارية، أو هو الذي كله نفس، كأنه نبي من الأنبياء ... تجد الأول فيمن اعتزله العالم من شرار المجرمين، وأخلاط الشياطين الإنسية الذين لا يسعهم الناس بعد أن انفصلوا من إنسانيتهم، وانحطوا انحطاطا في أشد العنف؛ وتجد الثاني فيمن اعتزل هو العالم من خيار الأوابين، والشهداء الذين لا يسعون الناس بعد أن اتصلوا بإنسانيتهم الكاملة؛ فارتفعوا عن الخلق ارتفاعا في أرق الرحمة!
الحب بعض الإيمان: وكما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس؛ فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلا قليلا؛ والخطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء!
وكما ينشأ الفكر أحيانا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب.
Unknown page