لم يشغل أبا بكر عن حروب الردة شاغل إلا ما اتصل بها مما قصصنا نبأه حين الحديث عنها، أما وقد هان أمر المرتدين ولم يبق لأحد من أهل الحواضر والبوادي أن يأبه لهم أو يخشى خطرهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يغامر بحرب قيصر؟ إنه إن يفعل يصرف أذهان العرب في شبه الجزيرة كلها عن ثاراتهم، ويجعل لهم من الفخار ما ينسيهم ضغنهم على يثرب وأهلها، ويمهد الطريق لانتشار كلمة الله في الإمبراطورية الرومية المترامية الأطراف.
لكن غزو الروم مغامرة إن لم يحالف النصر فيها أعلام المسلمين تعرضت شبه الجزيرة لشر من الثورة التي أخمدتها حروب الردة: تعرضت للروم وحكمهم، وتعرضت بذلك لكارثة تجتث حكم المدينة، وقد تفتن المسلمين عن دينهم، ومنازلة الروم ليست هينة، إنما انتصر أبو بكر على المرتدين في شبه الجزيرة؛ لأن الإسلام قضى على الوثنية فيها، ولأن البواعث التي أدت بطليحة ومسيلمة والعنسي إلى الثورة وجدت من قبائل هؤلاء المتنبئين من رأى في ردتهم نقضا لعهد عقدوه مع رسول الله، حين ذهبت وفودهم إليه بالمدينة تعلن الإسلام وتنضوي تحت لوائه، أما الروم فكانوا نصارى أهل كتاب كالمسلمين، ثم كانوا إلى ذلك أصحاب الكلمة العليا في توجيه سياسة العالم لذلك العصر.
صحيح أنه قامت بينهم وبين فارس حروب استطالت على السنين، كتب النصر في بداءتها للفرس، ثم انتهى الغلب فيها للروم، وقد استنفدت هذه الحروب من قوى الدولتين الكبيرتين ما يحتاج إلى الجهد الضخم والسنين الكثيرة لتعويضه، لكن للفوز في الحروب بريقا يكلل هام المنتصر بأكاليل تبهر أنظار الناس، وتصدهم عن محاربة من كان النصر حليفه، ولم تكن الأمة العربية قد جربت حظها في مثل هذه الحروب من بعد لتقدم على مغامرة لها من الخطر ما يصد عنها، بل ما يخيف منها.
ولم يرد التفكير في محاربة الفرس بخاطر أبي بكر، فالحجاز لا يتصل بفارس، والبلاد العربية التي تتاخم الفرس هي البلاد التي فشت فيها الردة، ويتعذر لذلك أن يعتمد أبو بكر عليها أو يأمن أهلها في غزو دولة لا يزال لها مع ظفر الروم بها، جيوش جرارة وموارد كثيرة، أفلا يجمل بالخليفة أن يوجه همه إلى توطيد الأمن في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لتنضم كلها في وحدة تزيدها قوة وتزيد سياستها اتساقا!
وإن أبا بكر ليفكر في هذا وفي مثله إذ ترامت إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالا في البحرين، حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته هذه على الفرس وعمالهم ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وسأل أبو بكر عن هذا المثنى من هو، وإلى أي قبيلة ينتسب، وعلم أنه من البحرين من بني بكر بن وائل، وأنه انضم إلى العلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من بقي على الإسلام من أهل هذه النواحي، وأنه تابع مسيره مساحلا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين فتحدث إليهم وتعاهد معهم، وعلم أكثر من ذلك أنه رجل جليل المكانة يعتمد عليه، قال عنه قيس بن عاصم المنقري: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
جعل أبو بكر يفكر فيما سمعه من ذلك وفيما يمكن أن ينشأ عنه، وأدى ذلك به إلى معاودة التفكير في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة كيما ينصرفوا عن ثاراتهم الأولى وثورتهم بسلطان المدينة، ألا يستطيع هذا المثنى أن يتوغل في العراق وأن يفتح للمسلمين أبوابه ما دامت أبواب الشام مستعصية! فقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وشيبان تهوي نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ومن العراق انحدرت سجاح تعلن نبوتها في بني تميم، وتعتمد على أبناء هذه القبائل العربية التي نزحت إلى شواطئ الفرات، لعل البدء بتوجيه سياسة المسلمين إلى هذه الناحية يكون أجدى من كل توجيه آخر! ولعل هذا المثنى الشيباني يكون خير طليعة لتنفيذ هذه السياسة!
وشجع أبا بكر على العود إلى هذا التفكير ما يعلمه من أمر فارس صاحبة السلطان في العراق، فقد انتصر هرقل على الفرس قبيل وفاة النبي وحطم جيوشهم في نينوى ودستجرد، وسار حتى صار على أبواب المدائن عاصمة ملكهم، وقد بلغ من ضعف سلطانهم أن تخلصت اليمن من نيرهم وأن انضم بازان إلى رسول الله، هم لم يحركوا لاستردادها ساكنا، ومن بعد ذلك تقلص سلطانهم من البحرين ومن جميع الإمارات الواقعة على الخليج الفارسي وعلى خليج عدن، ولم يفكر أحد من ملوكهم في استرداد شيء من هذا السلطان قل أو كثر، وكيف يفكرون والاضطراب ضارب بجرانه في بلاطهم، يسعى كل أمير ليقتل الجالس على العرش فيأخذ مكانه؛ حتى لقد ادعى هذا العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء كانوا يقتتلون عليه فيقتل بعضهم بعضا، جهرة حينا وغيلة حينا، لا عجب إذن أن يصح ما تحدث الناس به إلى أبي بكر عن المثنى وفعاله، ثم لا عجب أن ينشط تفكير أبي بكر في العراق وفتحه.
وبينما يتأمل الخليفة الأمر ويطيل التفكير فيه؛ إذ أقبل المثنى إلى المدينة، وتلقاه أبو بكر وسمع منه وعرف من أنبائه ما زاده اطمئنانا إلى البدء بفتح العراق العربي أدنى إلى النجاح، ولن يلقى من المقاومة ما يلقاه التقدم في الشام وليس العراق على شواطئ النهرين دجلة والفرات وفي الجزيرة الواقعة بينهما بأقل من الشام جمالا ونضرة، وإذا لم يكن أهل الحجاز قد تحدثوا عنه ما تحدثوا عن الشام لقرب الشام منهم، ولأن الطريق إليه طريقهم في رحلة الصيف، فغدا يتحدثون عن العراق وتتجه إليه أنظارهم ما اتجهت إلى الشام، فليعزم الصديق إذن أمره، وليتوكل على الله.
وكيف له أن يتردد وقد ذكره المثنى بأن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين الغنية بألوان الزرع والفاكهة وبالطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة وعمل أبناؤها فلاحين في الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلتها، ولا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود الدهاقين عليهم به، أي مرعى أخصب من هذا المرعى لبث الدعوة العربية، ولتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس ومن عدوانهم، فهؤلاء العرب وإن استقروا بأرض العراق يستجيبون لا ريب لكل دعوة عربية، ومعاملة الدهاقين لهم تعدهم للثورة بهم، أما وقد أحسنوا السماع لحديث المثنى فالفرصة من ذهب، يجب ألا تضيع، بل يجب أن تتخذ خطوة لما بعدها.
ولئن حالف النجاح المسلمين في هذه الخطوة لتكونن البشير بخطوات واسعة: فليست دلتا النهرين على خصبها وحسن ثمرها أخصب العراق أو أجمله أو أحسنه ثمرا؛ بل إن دجلة والفرات ليجريان متوازيين قرابة ثلاثمائة ميل قبل أن يتصلا، ولا يقف أمر المناطق التي يتوازيان فيها عند الخصب الممرع الذي يجعل منها جنة دونها جنات الشام التي بهرت أنظار أهل الحجاز وسحرت قلوبهم، بل إن بها من ذكريات التاريخ ما يثير الإعجاب في نفس من يسمع بها من أهل شبه الجزيرة، بل من أهل الأرض جميعا، وحسبك أن مدينة «أور» التي تكشفت في عصرنا الحديث عن آثار يقرنها بعض الناس إلى آثار الفراعنة، تقع في هذه المنطقة، فإذا أنت سرت شمالا لقيك بعد قليل من توازي النهرين آثار بابل القديمة، ولقيك على شواطئ الفرات برج بابل قائما يحدث عن عظمة الآشوريين ويروي تاريخ مجدهم، ونحن نتحدث إلى اليوم عن هذا البرج فيثير حديثه في نفوسنا العجب، ما بالك به من أربعمائة وألف سنة مضت، وبما كان يثيره في النفوس حين كان العرب يسمعون حديثه!
Unknown page