كيف أسرعت سجاح إلى الرجوع عن عزمها وموافقة مالك على رأيه؟ ليس فيما تذكره الروايات التي انتهت إلينا ما يبين عن السر في هذا الانقلاب، لكن الروايات تذكر أن مالكا كان شريفا فارسا شاعرا، وكانت فيه خيلاء كقومه، وكان ذا لمة كبيرة، وكان حلو الحديث حسن المحاضرة، قص أخوه متمم بن نويرة، وكان أسمى من مالك مكانة في الشعر، لكنه كان أعور قبيح الصورة، أن حيا من العرب أسروه فشدوا وثاقه وألقوه بفنائهم، وبلغ مالكا خبره، فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم وسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم، فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا؛ وبلغ من ارتياح القوم إليه أن أطلقوا متمما بغير فداء، وأسرت بنو تغلب متمما في الجاهلية، فجاء مالك ليفديه، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فلم يقبلوا منه فداء، وأطلقوا له الأسير فعاد به إلى قومه.
هل اقتنعت سجاح بحديث مالك وجماله، واقتنع بهما أخوالها بنو تغلب وسائر أنصارها؟ إنما نذكر ذلك لعله يفسر ما كان بين سجاح ومسيلمة من بعد، وسواء أصح ذلك أم لم يصح فقد دعت سجاح أمراء بني تميم لموادعتها فلم يوادعها منهم مع مالك إلا وكيع، وأغارت سجاح في جندها وجند مالك ووكيع على السريات فاقتتلوا ومات من الجانبين خلق كثير وأسر بعضهم من بعض، ثم إنهم تصالحوا وترادوا الأسرى، وعاد السلام إلى بني تميم.
وخرجت سجاح في جنود الجزيرة وقد راجعها العزم أن تلقى أبا بكر، أما مالك ووكيع فقد صالحا قومهما بعد أن رأيا سخطهم على اتباعهما هذه المتنبئة، وبلغت سجاح قوية النباج، فلقيها أوس بن خزيمة فهزمها، ثم ترادا الأسرى وصالحها على ألا تجتاز دياره إلى المدينة، هنالك اجتمع رؤساء أهل الجزيرة وقالوا لها: ما تأمريننا، فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا ولا يريدوننا أن نجوز أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم؟ قالت: اليمامة، فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة وقد غلظ أمر مسيلمة، وهنا تجري الرواية بأنها قالت: «عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ندامة.» ولم يبق لهم بعد هذا السجع الذي زعموه وحيا إلا أن يمتثلوا أمرها!
فيم كان انقلابها إلى اليمامة وقد خانها الحظ بين قومها بني تميم، وخانها في مسيرتها إلى أبي بكر؟ أولم يكن حولها من رجالها من يشيرون عليها؟! أم إنهم تم إيمانهم بنبوتها وبهذا السخف الذي تزعم أنه يوحى إليها فلم يترددوا في اتباعها؟ الحق أن قصة سجاح كلها عجب، وما روي عنها إلى فن القصص أقرب، فقد ذكروا أنها لما بلغت اليمامة في رجالها هابها مسيلمة وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه جند المسلمين أو تغلبه القبائل التي حوله، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يجيء إليها، ونزلت في جندها على الماء وأذنت له، فجاء في أربعين من بني حنيفة، ثم خلا إليها يحدثها ويذكر لها أنه كان يرى أن لقريش نصف الأرض فظلموا، فليكن نصف الأرض لها، وسجع لها سجعا أعجبها، فردت عليه بمثل سجعه، ثم إنهما تناظرا وتحادثا وطال بهما الحديث، وأعجبت سجاح بمسيلمة وبحلو حديثه وما شرع لقومه وانتهت إلى الإيمان بتفوقه، فلما عرض عليها أن تجمع نبوته إلى نبوتها وأن يتزوجا كان قلبها قد لان له فلم ترفض طلبه، وانتقلت إلى خيامه وأقامت معه ثلاثة أيام رجعت بعدها إلى قومها، وذكرت لهم أنها وجدته على الحق فتزوجته.
وعرف قومها أنه لم يجعل لها صداقا فقالوا لها: «ارجعي إليه؛ فقبيح بمثلك أن تتزوج بغير صداق.» فلما رجعت إليه أغلق حصنه دونها وبعث يسألها ما طلبها، ثم نزل للناس عن صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، إكراما لها، وانتهى الأمر به وبها على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة، حمل إليها النصف مما اتفقا عليه فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة، وخلفت وراءها من رجالها من يحمل لها النصف الآخر، لكن هؤلاء الرجال لم يقيموا إلا ريثما أقبلت جيوش المسلمين فهاجمت مسيلمة وقتلته، ولم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة إلى بني تميم حيث أقامت مسلمة حسنة الإسلام إلى أن ماتت.
هذه قصة سجاح بنت الحارث، وهي - كما قدمت - عجب كل العجب، وهل عجب كمغامرتها بالسير من الجزيرة للقاء أبي بكر وقتاله، ثم إسراعها إلى العدول عن عزمها حين تحدث مالك بن نويرة إليها، ثم انقلابها إلى اليمامة ولقائها مسيلمة وزواجها منه وعودها من عنده إلى أرضها، وبقائها بعد ذلك مع ذويها كأنها لم تخرج من بينهم ولم تتزوج من غيرهم!
وأمر مسيلمة معها أعجب العجب، ولئن صح أنه تزوجها ليكونن ذلك برهانا على دهائه في السياسة وعلمه بمداخل القلوب، فهو قد أراد أن يتخلص منها ليفرغ لقتال من حوله من القبائل ومن أوفدهم أبو بكر لقتاله من المسلمين، ورآها لينة فاستهوى أنوثتها، فلما لانت له ودانت أعرض عنها وتخلص منها، والحق أن حديث هذه المرأة مع مالك بن نويرة ثم مع هذا الزميل من مدعي النبوة شهد بأنها إن تكن حسنة السجع في كهانتها فقد كانت لينة العريكة في أنوثتها، فأما مسيلمة فكان رجلا قزما لا جمال فيه إلا حسن حديثه؛ وكان قليل الافتنان بالمرأة ومحاسنها، ولذلك كان مما شرعه لقومه أن من ولد له ولد لم يجز له أن يقرب امرأة إلا أن يموت ذلك الولد؛ فإذا مات جاز له أن يبتغي ولدا غيره فيقرب امرأته، أما من كان له ولد ذكر فالنساء عليه حرام!! •••
بينا يجري ذلك في اليمامة بين مسيلمة وسجاح كان خالد بن الوليد يصعد في البزاخة ويصوب، يستعيد إلى الإسلام من تاب وأناب، ويعاقب بأشد العقوبة من قتل مسلما أو عدا عليه، وينتهي بمقاتلة أم زمل حتى يقتلها ويشتت جمعها بعد أن شتت جمع طليحة وحمله على الفرار، وتداول الناس أنباء خالد، فبلغت مالك بن نويرة بالبطاح فردته إلى الاضطراب والحيرة، لقد منع الزكاة وقام مع سجاح في وجه المسلمين من بني تميم، وأصبح بذلك عدوا للمسلمين معرضا لإغارتهم عليه، فماذا عساه يصنع بعد أن باءت جنوده وجنود سجاح معها بالفشل والهزيمة؟ أما صاحبه وكيع فقد رأى قبح ما صنع، فعاد إلى الإسلام وأخرج الزكاة، وأما مالك فبقي متحيرا: أينكر أمسه ويعود مسلما مع أبي بكر كما كان مع محمد يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، أم يصر على مثل موقفه مع سجاح والأمر لله من قبل ومن بعد؟!
وفرغ خالد من أسد وغطفان ومن معهما بعد أن عاد كل من بقي من هذه القبائل إلى الإسلام وأذعن لسلطان المدينة، ثم إنه أزمع السير إلى البطاح يلقى فيها مالك بن نويرة ومن كان معه في مثل تردده، وعرف الأنصار هذا العزم منه فترددوا وقالوا: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا.» وأجابهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلنته بها فاتني ثم أعلمه حتى أنتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به: وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرهكم.» وسار ومن معه، خلا الأنصار، يقصد البطاح.
وبرم الأنصار بالأمر وتشاوروا فيما بينهم فاستقر رأيهم على أن يلحقوا به، ذلك أنهم قالوا: لئن أصاب خالد اليوم خيرا إنه لخير حرمتموه، ولئن أصابته ورجاله مصيبة ليجتنبنكم الناس، وجردوا إلى خالد رسولا استمهله حتى لحقوا به وساروا معه، فلما بلغوا البطاح لم يجدوا بها أحدا؛ فقد فرق مالك بن نويرة قومه في ديارهم ونهاهم عن الاجتماع، وقال لهم: «يا بني يربوع، إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الأمر وبطأنا الناس عنهم فلم نفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت فرأيت الأمر يتأتى للقوم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم قد صنع لهم.» ونصح لهم بالرجوع إلى الإسلام والتفرق في الديار، ورجع هو إلى منزله.
Unknown page