أشرنا إلى بعث مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة رسولين إلى محمد بالمدينة يحملان رسالة جاء فيها: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا لنصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون.» وسأل النبي الرسولين حين سمع الكتاب: فما تقولان؟ قالا: نقول كما قال، فنظر إليهما مغضبا وقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما! ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين.»
لم يغفل رسول الله عما تنطوي عليه رسالة مسيلمة من نذير، لذلك بعث من المسلمين نهارا الرحال، وكان قد فقه الدين، ليشغب على مسيلمة، وليفقه المسلمين من أهل اليمامة في الإسلام، وسنرى من بعد كيف انضم نهار إلى مسيلمة، وكيف شهد بأنه شريك محمد في الرسالة، بذلك ازداد مسيلمة نفوذا وازداد ادعاؤه انتشارا، وتجاوبت باليمامة أصداء انتصار العنسي في اليمن فقوى تجاوبها ساعد مسيلمة وفت في أعضاد المسلمين، لكن رسول الله لم يتجه بسياسته إلى قمع هذه الفتنة قبل استفحالها، موقنا أن الله ناصره على الروم في الشمال، وأن انتصاره عليهم سيكون له الأثر الحاسم في القضاء على أسباب الانتقاض والثورة الداخلية في أنحاء بلاد العرب.
فقد كانت سياسته
صلى الله عليه وسلم
متجهة إلى حماية التخوم العربية في الشمال من عدوان هرقل ورجاله عليها، فهرقل هو الذي دحر الإمبراطورية الفارسية، وهو الذي رد الصليب الأعظم إلى بيت المقدس، وهو لذلك الذي تخشى صولته، وقد ارتد جيش المسلمين في مؤتة فلم يقو على قتال الروم وإن لم ينهزم أمامهم، وكانت تبوك غزوة موفقة، لكنها لم تبعد المخاوف من انحدار الروم إلى بلاد العرب، فإذا استطاعت قوات المسلمين أن تظهر على الروم في غزاة حاسمة قوى ذلك من عزم المنتشرين منهم في قبائل العرب، فلا يلبث كل منتقض عليهم أن يرجع عن انتقاضه، وأن يسلم المقادة إليهم طائعا أو كارها، وكيف لا يفعل وقد تغلغل المسلمون في أنحاء شبه الجزيرة من الشمال إلى الجنوب، وصاروا قوة يحسب حسابها، فلم يقو مسيلمة في اليمامة، ولا لقيط في عمان، ولا طليحة في بني أسد، أن يناصبوها العداوة في جهر وإعلان.
لكن لقيطا وطليحة كانا كمسيلمة يتربصان لإعلان عصيانهما أن تدور الدوائر على المسلمين، وأقام هؤلاء الثلاثة كل في ناحيته ينشر دعوته في غير ضجة أو جلبة، ودون أن يطعن على النبي الهاشمي أو ينتقص من رسالته، وإنما كانت دعواهم أنه نبي، وأنهم أنبياء مثله، بعث في قومه، وبعث كل منهم في قومه، وأنهم يريدون لأقوامهم الهدى كما يريد هو لقومه الهدى، وبوسائل تنقصها جرأة الأسود العنسي وإن لم ينقصها دهاؤه هيئوا حول المسلمين المقيمين بين أظهرهم جو قلق وتربص تتلظى نيران الفتنة تحت رماده ريثما تتقد فيه.
ولم يكد النبأ بوفاة الرسول ينتشر في بلاد العرب حتى بدأت نذر هذه الفتنة تتحرك في كل أنحاء شبه الجزيرة، وقد تحركت في صور مختلفة وألوان متباينة تباين العوامل التي أثارتها، وسنفصل ذلك من بعد في وضوح وجلاء، لكنا نقف من حديث هؤلاء المتنبئين وتربصهم بالإسلام عند أمور لها بالعرب حين وفاة النبي أوثق اتصال.
أول هذه الأمور أن رسول الله قبض وبوادر الفتنة تجري نذرها في جو شبه الجزيرة، بل يوشك قسم كبير منها أن يضطرب أشد اضطراب، فقد رأيت كيف استغلظ أمر الأسود وامتد ملكه من أقصى الجنوب عند حضرموت إلى مكة والطائف، ثم رأيت كيف تربص مسيلمة وطليحة بالمسلمين، وهذه الربوع التي أعلنت العصيان على دين محمد وسلطانه كانت أكثر بلاد شبه الجزيرة حضارة وأضخمها ثروة كما كانت أكثرها ببلاد الفرس اتصالا، فلا عجب وذلك شأنها أن يلفت انتفاضها نظر الخليفة الأول، وأن يطيل تفكيره في تدبير سياستها، ليعيدها إلى حظيرة الإسلام، وليقر فيها الأمن والسلام.
الأمر الثاني الذي تدل عليه فتنة الأسود وتربص مسيلمة وطليحة أن الاضطراب الديني بلغ بين القوم في ذلك العصر أن استهل تحريك النفوس باسمه، ولم يكن ذلك يرجع إلى تعصب الناس لدين من الأديان، بل كان يرجع على العكس إلى عدم استقرار العقيدة في النفوس استقرار طمأنينة وسكينة، فالنصرانية واليهودية والمجوسية والأصنام كانت كلها تتجاور، وكان لكل منها أنصار ظاهرون أو مستترون؛ لكنها كانت جميعا موضع الجدل: أيها الحق، وأيها أدنى إلى تحقيق الخير والسعادة للناس، وهذا هو ما سهل على الذين ادعوا النبوة أن يطالعوا الناس بمزاعمهم، وأن يخدعوهم بألوان من المظاهر يتخذونها آيات صدقهم، وبهذه الوسيلة استطاع المتنبئون أن يجمعوا حولهم من الأتباع ما جمعوا، وأن يحرزوا أول أمرهم من النجاح ما أحرزوا.
ولم يكن ادعاء النبوة وتصديق الناس هذا الادعاء هو العنصر الجوهري في نجاح هؤلاء المدعين، فقد رأيت أن الأسود اعتمد على عوامل أخرى، في مقدمتها برم أهل اليمن بالفرس كبرمهم بأهل الحجاز، وسترى من ذلك في أمر مسيلمة وطليحة ما يؤيد قولنا كل التأييد. ولو أن الإسلام كان قد استقر في النفوس وبلغ منها مبلغ العقيدة والإيمان لما قامت لواحد من هؤلاء المدعين قائمة، فللعقيدة المتأصلة سلطان على النفوس قل أن يغلبه سلطان، لكن أهل هذه الأصقاع لم يكونوا قد آمنوا وإن كانوا قد أسلموا؛ فلما أتيح لهم أن يخلعوا إسلامهم باسم القومية أو باسم غيره لم يصدهم عن ذلك إيمان حق، فاندفعوا وراء الأسود وغير الأسود من المتنبئين.
Unknown page