تركوك أوحش ما تكون بقفرة
لم يؤنسوك، وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء، وصرت صاحب حفرة
عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
وذلك هو ما أرجحه من تلك الروايات التي نجدها في الكتب التي أرخت لسيبويه، فابن نافع وحده يذكر أنه مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وهو قول لم يؤيده فيه أحد، وغير معقول أيضا؛ لأن سنه حينئذ لم تكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين بكثير، وهو ما لم يقله مؤرخ، ويرى ابن خلكان - غير متثبت - أنه وصل إلى البيضاء ومات فيها، ويروي ابن النديم أنه عاد إلى البصرة، ثم ذهب إلى فارس، وعودته إلى البصرة مشكوك فيها بعد هذا الإخفاق.
وتحديدنا سنة وفاته بمائة وثمانين تحديد ترجيحي كذلك، وحسبي أن أذكر أن بعض الرواة يضعها سنة إحدى وستين ومائة، وابن الجوزي يضعها سنة أربع وتسعين ومائة، والفرق بين التاريخين ثلاث وثلاثون سنة، أما سبب ترجيحنا فإن أكثر الرواة عليه، ويرجحه ابن الأنباري، بدليل أنه مات قبل الكسائي، والكسائي مات سنة ثلاث وثمانين ومائة.
كانت سن سيبويه عندما توفي تزيد على الأربعين، وعلى حسب ما حددنا تكون سنه زهاء خمس وأربعين سنة، وهو المعقول بموازنة التواريخ، فليس بمعقول إذا أن نقبل قول الأستاذ أحمد أمين الذي يضع تاريخ وفاته في الثمانين بعد المائة، ثم يقول إنه مات وعمره نيف وثلاثون سنة؛ لأننا قلنا إنه أخذ عن عيسى بن عمر الذي توفي سنة تسع وأربعين ومائة، فيكون سيبويه حينئذ في المهد صبيا. (10) أخلاقه ومواهبه
كان سيبويه ذكيا، متوقد الذكاء، ذا عقل منطقي متزن، يحسن التفريع والتعليل، وكتابه خير دليل على ذلك، ثم هو طموح لم يرض بحظه في البصرة وأنه أصبح شيخها، بل أبى إلا أن يكون وحيد دهره، لا عالم فوقه في العالم الإسلامي، وإلى جانب طموحه كان واثقا بنفسه تمام الثقة، يؤمن بقدرته في النحو قدرة فائقة. عن أبي عثمان المازني قال: حدثني الأخفش قال: حضرت مجلس الخليل، فجاءه سيبويه، فسأله عن مسألة، وفسرها له الخليل فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق، فقلت له: جعلني الله فداءك، سألت الخليل عن مسألة فلم أفهم ما رد عليك، ففهمنيه. فأخبرني بها فلم تقع لي ولا فهمتها، فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتا، فإني لم أفهمها ولم تقع لي. فقال لي: ويلك، ومتى توهمت أنني أتوهم أنك تعنتني؟! ثم زجرني، وتركني ومضى. وذهابه إلى بغداد وطلبه مناظرة الكسائي تدلنا على هذا الخلق الثابت في نفسه، ولكنه لم يكن مع ثقته بنفسه وطموحه من هؤلاء المتعجرفين الذين تمل عشرتهم ويكره قربهم، بل كان محببا إلى نفس سامعيه ومجالسيه، والروايات كثيرة تدل على ظرفه وكياسته. حدث ابن النطاح قال: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يمل. قال: وكان كثير المجالسة للخليل، وما سمعت الخليل يقولها لغيره.
وكان إلى جانب ذلك - على ما يظهر لي - مفرط اليأس إذا يئس، فلم يستطع أن يقاوم الصدمة التي مني بها عندما أخفق في رحلته إلى بغداد، ولعله أراد أن يحارب اليأس الذي حل به، فقيل: إنه سأل عن أمير له في النحو أرب، وخرج يريد بني طاهر في خراسان، كما يروى، ولكن الألم الذي حز في نفسه لم يفارقه حتى مات.
هذا وقد تحدثنا عن لكنته فيما مضى، وبينا أثرها في إخفاقه في المناظرات. (11) أسرته
Unknown page