Shuyuciyya Wa Insaniyya
الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام
Genres
كلا، إن الديانات كلها تتحرى المنفعة الاقتصادية وتنبت في منابتها، وإن المنفعة الاقتصادية في كل مجتمع هي ينبوع العقائد فيه، وينبوع كل ظاهرة روحية فيه مما يسمونه بالآداب والأخلاق والفنون، ويحسبونه من ثمرات الذوق أو الخيال أو من وحي السماوات والأرباب، وما صنعه أبواي لا يعاب عليهما ولا ينم عن نقيصة خلقية أو خيانة لعهد الروح والضمير، بل هو مفخرة لهما وآية من آيات صدق النظر والبصيرة لديهما؛ لأنهما قد نفذا إلى أصل الدين في أعمق أعماقه، فلم ينخدعا فيه كما ينخدع المؤمنون الغافلون عن أصل الدين وعن جميع الأصول.
فها هنا دلالة أقوى من دلالة الفكرة التي تتولد من البحث العلمي والأقيسة المنطقية، ها هنا «أولا» خليقة موروثة مع الطباع التي تورث عن كلا الأبوين، وها هنا بعد ذلك حاجة نفسية تلح على الوعي الباطن والوعي الظاهر معا، وتلتمس منهما قوة العزاء أو قوة التحدي والمكابرة، فلا معابة في ترك الدين طلبا للمنفعة المادية أو الاقتصادية، بل هو الظاهرة العامة التي ينبغي أن ترجع إليها جميع الديانات، وهو إلى ذلك مفخرة الأبوين بالنظر الثاقب والحدس القويم.
وليس موقف الأسرة من الدين هو كل ما نلمحه من الخلائق الموروثة وأثرها في تكوين أفكاره أو بواعث تفكيره، فإن اعتلاله كان مسبوقا بعلة مثلها في أبيه الذي مات بها قبل بلوغ الشيخوخة، وقال الأطباء عنها في محضر الوفاة: إنها داء الكباد، ولم تكن أمه أصح من أبيه كما يؤخذ من أخبارها القليلة، وكان له أخ يسمى «إدوارد» أصابه داء الهزال فمات في صباه. •••
هذه نشأة جسدية تضاف إلى نشأته النفسية أو الأخلاقية، فلا تنم على فطرة سوية ولا تهيئ الناشئ للخير والفلاح في حياته الخاصة أو العامة، ويجوز لمن يترجم سيرته أن يقدر جرائرها إذا أعوزته الشواهد والروايات بأسانيدها، غير أن الحوادث المفصلة في هذه السيرة تغني عن التقدير وتزودنا على سعة بالمعلومات الوافية عن إمام الشيوعية من طفولته الباكرة؛ لأن الدعوة إلى المذاهب الثورية ومذاهب الاشتراكية المتطرفة والمعتدلة قد انتشرت بعد عصره بسنوات معدودة، وأدركها أتباعه وتلاميذه فاحتفظوا بآثاره وبالغوا في الاحتفاظ بها، حتى جمعوا من خاصة أخباره ما قل أن يجتمع في سيرة مشهورة من رجال الدول، فضلا عن دعاة المذاهب والبرامج الاجتماعية، وكان من حظ التاريخ الصادق أن أتباعه كانوا - بحكم عقيدتهم - ممن تهون عليهم قيم الأخلاق والأدب، فلم يتحرجوا من المساوئ والعيوب كما يتحرج منها مترجمو العظماء، حين يعرضون لأخبارهم الخاصة وسقطاتهم المريبة.
ومن هذه المعلومات دون غيرها، يتراءى أمام المادية التاريخية في كل صفحة من صفحات سيرته مصدقا لتلك الخلائق التي أجمعت عليها أوصاف عارفيه، فلم يكن في عمل تولاه قط قدوة صالحة أو فردا صالحا لمجتمع من المجتمعات كائنا ما كان في حساب الماديين أو غير الماديين، فلا الناشئ الطالب في سلك الدراسية، ولا الرجل رب الأسرة، ولا الصديق أو الزميل في الدعوة الاجتماعية، ولا الداعية العامل على نشر مذهبه، ولا الإنسان الذي ينتمي إلى ملة أو وطن أو طبقة، كان في «كارل ماركس» قدوة يحمدها الماديون التاريخيون ويتمنون الإكثار منها في مجتمعهم الموعود، أو في بيئة من البيئات على اختلاف المعايير والآداب.
كان على أحسنه عندهم موضع اعتذار وتعليل، ولم يكن في أخلاقه قط موضع إكبار واقتداء.
كان الطالب «كارل ماركس» يهمل دروسه، وينقطع عن معهد الدراسة أسابيع متواصلة، ويبدل منهجا من مناهج التعليم بمنهج غيره، ثم لا ينشط للمنهج الجديد إلا ريثما يبدله، ويتعلق بآخر يهدم به ما بناه بالأمس كما قال أبوه.
وقد كان أبوه - على سنة الآباء أجمعين - يميل إلى حسن الظن، أو يلقي في روعه أنه يحسن الظن به؛ ليستبقي عنده بعض الثقة برأيه، فلا يركب رأسه على هواه إذا داخله اليأس من جانب أبيه، فكان يوحي إليه بالنصيحة من خلال النقد والثناء، ويقول له: إنه يسهر الليالي الطوال في بناء الآراء وهدمها، وينقطع من الجامعة لمتابعة هذه الآراء التي لا تطرد على وتيرة ولا تنتهي إلى طائل، وحقيقة الأمر أنه ينقطع عن الجامعة لغير ذلك السبب في كثير من الأحيان، وأنه كان يسترسل في سهراته مع غواة اللهو والعربدة، ويهجر البلدة كلها - بلدة «بون» مقر الجامعة ليذهب إلى «كولون» في جوارها، ويبتغي فيها من ملاهي السهر ما لم يكن ميسورا له تحت الرقابة الجامعية. وحدث في بعض هذه السهرات أنه سيق إلى دار الشرطة مع جماعة من السكارى لإفراطه في السكر والعربدة. وأنه سيق إلى المبارزة مرة أخرى، وتبين من تقريرات الشرطة أنه استخدم الأسلحة النارية فيها.
13
وقد جرت عادة «ماركس» في كتابته الاقتصادية أن يطلق اسم «الرعاع» على علماء الاقتصاد الذين يقنعون بالظواهر ولا ينفذون إلى بواطن الحركات الاجتماعية، كما تبدو له في دراساته التي يميزها دون غيرها باسم الدراسات العلمية. فإذا استعيرت هذه التسمية للباحثين في أطوار «الشخصيات»، فلعلها تنطبق على أولئك المترجمين الذين كتبوا سيرة «كارل ماركس»، وأرادوا أن يفسروا تقلبه بين الدراسات فأقنعتهم كلمة «القلق» أو «الجموح»، ولم يشعروا بالحاجة إلى تفسير وراء هذا التفسير الذي يصح فيه أنه من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء، لأن القلق هو التقلب، والتقلب هو القلق، بغير فارق كبير في مصطلحات القاموس أو مصطلحات العلوم النفسية، وشبيه بهؤلاء المفسرين نظراؤهم الذين يفسرون هذا القلق باختلال البنية، ولا يذهبون وراء هذا الاختلال إلى دخائل النفس لفهم بواعثها وغاياتها، وما كان اختلال البنية بصالح لتفسير عمل من الأعمال، أو توضيح ترجمة من التراجم، إلا حين ينتقل من أسماء الأمراض والأسقام إلى أسماء الأخلاق والعادات.
Unknown page