وأحسست برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاء آخر، فقصدت إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت أرقب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح. إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يميزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتف الساقان.
وقفت في مكاني حتى رأيته يستقر في موضعه من الجدار الذي لم يتم بناؤه، صعد إليه على كومة وطيئة من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزا على ذراعه اليسرى فدنوت منه.
قلت: السماء الليلة أكثر غماما، والدنيا أشد ظلاما من ليلة الأمس، برغم القمر.
قال ولم يرتع لرؤيتي: وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودت بظلامها وغمامها؟ إن من أراد الضوء فضيا رائقا خالصا من شوائب الظلمة؛ فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغمام من دونه، وعندئذ لا يكون ظلام ... لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمال وأثقال. أستغفر الحق، بل مشدود إليها بهذه الخيوط الواهية، بنفخات من هواء، وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرب له خلال فتحات السحاب ... العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، لا بد أن تدفع لكل شيء ثمنه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخذ هبة من الهواء على شرط أن ترد مكانها هبة مثلها. أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تجاوز السحاب، عندئذ تجد الضوء الساطع، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.
قلت: وماذا يشقيك من غمام السماء وظلمة الليل؟! انظر إلى الدنيا بعين الفنان؛ تر السماء الغائمة في مثل جمال السماء المقمرة. ألا يكون ظلام الليل أحيانا أشد فتنة من ضوء النهار؟ سل العاشقين يجيبوك؛ أيهما أفعل في النفس سحرا: الليل الوسنان في ستره أم النهار اليقظان في نشاطه وصحوه؟ سل العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعبادة؟ سل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للفكر؟ سل المجان متى طيب المجون؟ سل المتآمرين لماذا يدبرون الأمر بينهم بليل؟ ... لماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.
قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟!
قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جو من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها كيس من الجلد محشو بالقذر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها خرقة من قماش، صب عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر وما شاء الله من ألوان، واهصر الوردة الجميلة؛ لترى ماذا عساها في الواقع أن تكون بين إصبعيك؟ ... إن الذي ينقصك - كما قلت - هو الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئا جميلا، ومن الصورة شيئا جميلا، ومن الوردة شيئا جميلا، ومن غمام السماء شيئا جميلا، ومن ظلمة الليل شيئا جميلا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص إلى السماء كما تصنع الآلهة؟!
لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب»، فامتلأت حرارة وأنا أبادله الحديث؟ لقد أوحي إلي عندئذ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن الواجب الخلقي يقتضي أن أقوم فيه ما اعوج إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل. إنه عابس ولا بد أن يبتسم، يائس ولا بد أن ينبسط أمامه الأمل، كافر ولا بد أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بد له أن يبصر بعين الخيال.
وضاق «الأحدب» صدرا بحديثي فيما يظهر، وأخذ يعتدل في جلسته مرة ويميل على هذه الذراع أو تلك مرة، ويشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يصم الأذن عما أقول، لكني لم أعد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبث، فلا أقل من أن أستطلع بعض سره وأستخرج شيئا من مكنون نفسه. وسادت فترة قصيرة من سكون، فنزل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه افتعال وتصنع: أنا مضطر أن أعود، وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.
قلت: الأرجح أن طريقنا واحد، ولو إلى حين.
Unknown page