يقول أستاذنا الجليل أحمد أمين بك توضيحا لرأيه: «فالثورة إنما هي نتيجة لمقدمات كثيرة، مثل حالة سيئة اجتماعية تسود الشعب ودرجة عالية من غليان الشعب، وزعماء يوقدون النار تحتها، ونحو ذلك من مئات العوامل. وهذه هي المقدمات، فإن حدثت كلها ولم يتخلف شيء منها؛ حدثت الثورة لا محالة، وقلنا حينئذ إن التاريخ يعيد نفسه.»
لكننا نطلب من أستاذنا أن يذكر لنا مثلا واحدا من تاريخ الإنسانية كلها تشابهت فيه ثورتان تشابها تاما لتشابه مقدماتهما كما تتشابه قطعتا الحديد إذا تمددتا بفعل الحرارة. الثورة الفرنسية، والثورة المصرية، وثورة الإسلام على الجاهلية، وثورة الاشتراكية على الرأسمالية في إنجلترا اليوم ... إلخ، إلخ، كل هذه «ثورات» حدثت، فأين منها ما تشابه لتشابه مقدماته؟ كلا، بل إني أرى في كل هذه الأمور التي تتصل بالأحياء عامة وبالإنسان خاصة تفردا يستحيل عليه التكرار. وهذا التفرد الذي لا يقبل التكرار هو صميم الحياة والأحياء، وإن كان كل فعل إنساني فريدا بذاته، فمحال أن يتكرر.
ولعل معترضا يقول: ماذا يصنع علم النفس إذن، إذا لم يكن يستخرج لنا من أفعال الناس قوانين عامة تنطبق على جميع الحالات، كما يستخرج العالم الطبيعي قوانين عامة تنطبق على قطع الحديد كلها؟
والجواب هو أنه يستحيل أن تستغرق القوانين العامة كل أفعال الإنسان، بل لا بد أن يتبقى لكل فرد حي بقية تميزه من سائر الأفراد، وهذه البقية الفردية هي وحدها التي تجعله إنسانا بالمعنى الصحيح، وهي التي تجعل من الممكن أن يتصرف الإنسان تصرفا معينا ألف مرة، ثم يغير هذا التصرف في المرة الحادية بعد الألف.
فقد تتكرر الظروف بعينها ولا تتكرر الأفعال الإنسانية، ومعنى ذلك أن التاريخ لا يتحتم أن يعيد نفسه.
بداية قصة
عبء ثقيل
هو عبء الحياة ...
هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته في زحمة الطريق عابسا، يلتمس لنفسه مسلكا بين مئات الناس الذين خرجوا من توهم أفواجا من دار السينما، دون أن يمس أحدا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعض الشيء ولا يدق الأرض بعقبيه. نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبت قبل الخطو من موضع القدم، تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشع من جبهته وفمه جهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامحه عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته؛ رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان قويتان ظاهرتان، ولحية وشارب كثيفتان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه، كلها ملامح تدل على المضاء والحدة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان، أن الرجل هادئ وادع مستسلم مستكين.
رأيته يمضي في مزدحم الطريق، وقد حمل على ظهره ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه؛ لتظل حركة الذراعين حرة، فيطوحهما حينا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينا ، إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمع الناس الذي ملأ الطريق، يبدو من دونهم جادا مهموما صامتا، كأنه ينطوي على شيء ... ثم ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه؟
Unknown page