Shuroot al-Nahda (The Conditions of the Renaissance)
شروط النهضة
Investigator
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
Publisher
دار الفكر
Publisher Location
دمشق سورية
Genres
مالك بن نبي
شروط النهضة
ترجمة عبد الصبور شاهين
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
1 / 1
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
شروط النهضة
ترجمة: - عمر كامل مسقاوي - عبد الصبور شاهين
إصدار ندوة مالك بن نبي
1 / 3
تصوير ١٤٠٦هـ-١٩٨٦م
جميع الحقوق محفوظة
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
في عام ١٩٧١، ترك أستاذنا مالك بن نبي، ﵀، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٦٧/ ٢٧٥ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١
الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف بـ "ندوة مالك بن نبي".
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم.
فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإنوجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩
عمر مسقاوي
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْفِرَنْسِيَّةِ
بِقَلم الدكتور عَبْد العَزِيز الخَالِدي
لكي أقوم بتقديم هذه الدراسة أجد بين يدي سيرة عاصفة مؤثرة أعرفها في الجزائر، ولكني ملزم بأن أدع الحديث عنها، لأن المؤلف قد منعني صراحة من مجرد الإشارة إليها، وأحتفط مع ذلك بحقي في الحديث عن العمل الذي تحتل فيه هذه الدراسة مكانا هاما، منتهيا إلى بيان الطابع الخاص، والقيمة الاجتماعية التي نجدها حتى في كتابه (لبيك) (١) الذي اعتبره بعض القراء غريبا عن الأفق الوضاء الذي خطه كتاب (الظاهرة القرآنية).
ويلفت انتباهنا في كتاب (الظاهرة) هذا، ذلك الحشد من المشاكل التي يثيرها مدخله، وطريقته الجديدة التي طبقها المؤلف للمرة الأولى على تفسير القرآن.
وأيا ما كان، فلقد تأثر المؤلف في كتاب (الظاهرة) بمشهد شباب الإسلام الذين استهوتهم المناقشة الخطيرة بين العلم والدين، فاستخلص من هذه المناقشات نتائج وثيقة أراد تبليغها للضمائر الأخرى.
ولكن دقة النقد، وعمق التحليل، وصرامة المنطق الذي يقود إلى هذه النتيجة، كل هذه الأمور ثانوية في عمل ينبع تأليفه والهدف منه من المغزى الدرامي للمشكلة أكثر من أن ينشأ عن المغزى العقلي.
وبن نبي في الواقع ليس كاتبا محترفا، أو عاملا في مكتب مكبا على أشياء
_________
(١) هي القصة الوحيدة التي كتبها المؤلف، وقد اتجه فيها اتجاها أدبيا.
1 / 7
خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية. وتلك هي المأساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة، وبكل ما صادف في تجاربه الشخصية النادرة من قساوة. وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء (الظاهرة القرآنية) أو الدراسة التي يقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها (كوكب المثالية) الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة.
ولكن هذه الأنشودة ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية، التي يطالبنا بها في الجزائر، وهو يكشف لنا عن مفهومها الأليم.
فإذا كان دقيقًا حساسا إلى هذه الدرجة، فليس معنى ذلك أنه رجل عقل مغرم بالتجريد، أو أنه أديب فنان مولع بصور الجمال، فإن الذي يأسره ويستولي عليه إنما هو الرعشة الإنسانية ... الألم ... الجوع ... الأسمال ... الجهل ...
فهل من يفكر من أول وهلة في مواجهة هذه المشكلات يكون غير فقيه؟
لقد عاش بن نبي هذه المشكلات تماما كالآخرين الذين اتخذوا منها معارج انتخابية، يتحدثون منها عن البؤس حتى درجة الإشباع التي تناسب جميع صنوف الدجل والاستغلال، ونحن نعلم اليوم ما يؤدي إليه مثل هذه الحالة من الاختلال والقحط والفوضى.
ولكن التجربة الشخصية تعني عند بن نبي شيئا آخر: فهي سبب لتأمل في الدواء، ومن هذا التأمل تبدأ المأساة في أن تصبح عنده مشكلة فنية، فهو يقودنا بتحليله الدقيق الوثيق في أركان التاريخ لكي يكشف لنا عن (الدورة الخالدة) التي ألهمته الأنشودة الجميلة التي صدّر بها هذه الدراسة.
ولكن قبل اقتراح الحل. يجب أن تزول تماما الأنقاض من الفناء الغاص ببقايا انحطاطنا. ورواسب الفوضى التي عشنا فيها سنين عديدة.
وهذا الكتاب قد استطاع في فصوله الأولى أن يلقي الضوء على تلك الحقبة
1 / 8
الهامدة، والتي حركتها بصعوبة (التقاليد البطولية) ثم أعقبتها مرحلة (الفكرة).
ولكن تراثا وثنيا قد تبقى في أعماق الضمير الشعبي الذي شكلته القرون المليئة بخرافات الدراويش.
فإذا كان غول الدراويش قد صرعه الإصلاح، فإن غولا جديدا يمكن أن يظهر أيضا. وهو لا يشترط وجود أولياء أو أحجبة وحروز، ولكن أوثان سياسية، وبطاقات للتصويت.
هذا هو الصراع بين الفكرة والوثن، الذي أصبح طابعا جديدا للمأساة الجزائرية، وبدهي أن الإدارة الاستعمارية لم تكن غافلة وهي تعرف كيف تستغل هذا الوضع لكي يتفرق الشعب الجزائري، وتتبعثر قواه. وأكثر من ذلك فإن المشكلة التي نحن بصددها قد أسيء تكييفها سواء عند دعاة الإصلاح أو رجال السياسة.
إن الاستعمار ليس مجرد عارض، بل هو نتيجة حتمية لانحطاطنا: هذه هي المشكلة، ولا جدوى من فكرة لا تسلم بهذا المسلّم الأساسي الذي يبرزه بن نبي وهو يؤكد أنه " لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار" هذه الجملة البسيطة هي، فيما أعتقد، الإشعاع النوراني الأول، الذي استرسل لينير حلبة الصراع لنا، ولقد أضاءها من قبل نور تلك الآية المذكورة هنا كأساس للنظرية كلها ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
ومع ذلك فإن المؤلف يرى من المفيد أن يقدم أيضا التبرير التاريخي، والنقدي، والعقلي، لهذا الأساس الرباني، الذي قد يفزع العقل الديكارتي.
وهو يعتبر هذا التبرير- الذي يكشف في بعض الصفحات عن أصول فلسفته- من القوانين التي تحكم أطراد الحضارات، وهنا ينبثق حل المشكلة كنتيجة حتمية لهذا الدرس التاريخي.
1 / 9
والنظرية تتكون جزءا فجزءا، بطريقة منطقية، طبقا للتكوين الأساسي لكل حضارة، حيث تتكون من الإنسان والتراب والوقت.
فإذا طبقت هذه النظرية على بلاد العروبة مثلا، فإنها تستوجب تكييفا للانسان الأمي، والتراب البائر، والوقت الضائع.
والمؤلف يبدأ نظريته هذه في ذلك الرمز الذي صدر به الباب الثاني والذي صاغه في كناية بارعة، وجمال أدبي فذ، وإلهام اجتماعي عميق.
وخطوة خطوة يكشف لنا عن العناصر التي تبدو في نظرنا ثانوية لا تستحق التفكير، والتي تنال هنا اهتماما رئيسيا، لأن اتصالها الحقيقي بتطورنا وحياتنا يظهر أمامنا فجأة، ولقد قال فاليري: " كل سياسة تقتضي (وهي عموما تجهل أنها تقتضي) فكرة معينة للإنسان ورأيا عن مصير النوع الإنساني، فكرة غيبية تذهب من المادة البحتة إلى التصوف الشاطح ".
فهل فكر أحد في مشكلة الرجل والتراب والوقت والمرأة والزي والتكيف والثقافة، التي هي جوهر المشكلة الإنسانية كلها؟
وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصوير الفني للأشياء، ولكن ثقافته المزدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية، بنفس الثقة التي تطبع خاتمته المؤثرة. ونضيف هنا أن الأمر لا يتعلق بعمل مفيد للجزائر فحسب، لأن هذه الدراسة تتعدى بعبقريتها حدود الجزائر، لكي تضم مجال العالم الإسلامي كله، حيث أنها تتضمن المشكلة الإنسانية في سائر عناصرها.
ونظريه بن نبي تلقي ضوءا على التجديد الإسلامي الذي يتجلى فيه قطبا النهضة: الروح والفن.
وهو حين يقدم في النطاق العقلي والخلقي مثله الباهر، فإنما يعطي لهذين القطبين منتهى الوضوح.
1 / 10
ونحن نأمل أن تخدم هذه الدراسة سير النهضة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، اللذين يجب أن تتوافق صحوة ضميرهما مع ضابط النغم في الضمير العالمي، الذي يبحث بصورة مؤثرة عن وسائل طمأنينته في طريق السلام والديمقراطية.
ونحن نريد أيضا أن تتقبل الدول الكبرى هذه الصحوة لا " كخطر إسلامي"، ولكن كنهضة لمئات الملايين من الناس الذين جاؤوا بدورهم ليساهموا في الجهود الخلقية والعقلية للإنسانية.
فهل تستطيع الشبيبة العربية والإسلامية التي وجدت في ظروف مواتية أن تحرك هذه النهضة، التي يعتبر بن نبي داعيا وحاديها؟
وأنا لا أريد هنا أن أخالفه، فأبدي له تقديري الشخصي كأخ لي وكأستاذ.
نوفمبر ١٩٤٨
دكتور عبد العزيز الخالدي
1 / 11
مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ
إن نشر الطبعة الأولى لهذا الكتاب، باللغة العربية، قد أظهر الاهتمام المتزايد الذي تحظى به في البلاد العربية والإسلامية بوجه عام المشكلات التي تمت إلى علم الاجتماع.
فالجيل الحاضر، يبدي أكثر فأكثر، رغبته في تفهم الوقائع الاجتماعية وآليتها.
لذلك فقد كان طبيعيا أن يبدي بعض قراء الطبعة الأولى رأيهم في الكيفية التي عالجت فيها بعض الوقائع.
ولقد لمست من خلال مناقشاتي مع هؤلاء القراء أن بعض التفسيرات التي قدمتها لهم عن تلك الوقائع لم تعطهم كل ما كنت أتمناه من التوضيح؟
وإن من هذه النقط التي تبين لي اكتنافها بشيء من الإبهام رغم ما أردت لها من الوضوح تلك التي تتصل بدور الفكرة الدينية كعامل اجتماعي يؤثر في توجيه التاريخ.
ولعلي لم أكن فيما عرضت لهذه النقطة في الطبعة السابقة قد أوفيتها حقها من التفصيل، وذلك لاقتناعي بالتفسير المختصر للدور الذي تقوم به الفكرة الدينية في التاريخ، ولما اعتمدت عليه من آراء لكسر لنج H.Kesserling في الموضوع، أعني تلك الآراء التي استخلصها من دور الفكرة المسيحية (١) في تركيب الحضارة الغربية.
وهكذا اتفقت آراء القراء على غموض هذه النقطة بالذات واقترحوا أن
_________
(١) تناولت هذه الآراء في فصل "الدورة الخالدة"
1 / 12
بعقد فصل كامل في هذا الكتاب لتوضيح دور الفكرة الدينية في التاريخ. وحيث لا يسعني هنا إلا أن أؤيد هذه الملاحظات اعترافا مني بجدارتها.
فقد وددت أن أستغل فرصة الطبعة الثانية للكتاب لأضيف إليه فصلا يعالج بالخصوص أثر الفكرة الدينية في الدورة الحضارية معتمدا هذه المرة على الاعتبارات النفسية الاجتماعية بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية التي اقتنعنا بها في الطبعة السابقة.
ونحن حينما نتناول الأشياء على هذه الصورة، إنما نعطي للقارىء فرصة يلمس فيها بنفسه التأثير المباشر للفكرة الدينية في الوقائع النفسية الاجتماعية التي تكون ظاهرة التاريخ، فعندما نقول في فصل "من التكديس إلى البناء" إن الفكرة الدينية تتدخل كـ" مركب" (Cataliseur)، في تركيب عناصر التاريخ فنحن في هذا نقرر حقيقة يؤيدها تاريخ الحضارات غير أن هذا التأييد سوف يأتي على صورة "شهادة" عن هذه الظاهرة وليس في صورة "تفسير" مقبول لها.
ومن هنا كان للقارىء بعض الحق في أن لا يقتنع بهذه " الشهادة" أي أن لا يقتنع بما يقول المؤرخ وحده دونما مزيد من التفاصيل عن الفكرة الدينية في عملها المباشر في صياغة النفوس التي تحرك التاريخ بما يختلج فيها.
من أجل ذلك فقد شعرت أن القارىء ينتظر في هذا الموضوع أكثر من شهادة التاريخ: إنه ينتظر وصفا تحليليا يجد فيه المعلومات التي تقدمها الدراسات الموضوعية لهذه الظاهرة. أعني الدراسة التي تتناول الأشياء في كنهها لا في مظهرها.
ولقد حاولت تلبية هذه الرغبة المحقة فخصصت في هذه الطبعة فصل " أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة". سالكا هذه المرة مسلك التحليل النفساني الذي يبين بوضوح أكبر جانب من " الظاهرة" في هذا المركب، إذ يكشف لنا عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في خصائص الفرد النفسية.
وأنا في هذا لا أدعي أن هذه الطريقة تعطي للقارىء " معرفة رياضية" في
1 / 13
الموضوع، لأن هذا الموضوع لا مجال فيه للرياضيات حيث يتصل بعالم النفوس، وهو عالم يقصر العقل التجريدي عن أن يكشف سره تماما. غير أنه يمكننا القول بأن هذه الطريقة التي اتبعناها تعطي على الأقل للقارىء فرصة يتتبع فيها كيف تحدث عملية التركيب بتأثير الفكرة الدينية، وذلك بنظرة مباشرة تختلف عن نظرة التاريخ غير المباشرة.
ومما تنبغي الإشارة إليه هنا أن الفصل الذي تحدثنا فيه عن هذا الموضوع قد كتبناه في الحالة التي يكون فيها عالم الاجتماع الذي يحاول توضيح دور الفكرة الدينية في تكوين وتطوير الواقع الاجتماعي. مع العلم أن هذا الدور ليس هو كل شيء بالنسبة للفكرة الدينية. ذلك أننا قبل أن نشرع في البحث عن صلاتها بعالم الشهادة، قد تقبلنا أولا صلتها بعالم الغيب، وبعبارة أدق فإن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية في نظرنا، أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية. غير أن هذه النظرة ليست موضوع هذا البحث. فنحن قد خصصنا لها دراسة أخرى (١) ولذلك فإن بحثنا هنا سوف يقتصر على الجانب الاجتماعي.
ومن ناحية أخرى فإن القارىء سوف يجد في هذه الطبعة فصلا عقدناه لتوضيح العلاقة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال. وذلك لإظهار أثره الكبير كعامل يحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ. وأظن أن هذا الفصل هو أول بحث تناول العلاقة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال باعتبارها مقياسا من أهم مقاييس علم الاجتماع.
وبهذا فإننا نكون قد حققنا على قدر ما نستطيع إرادة القارىء في هذه الطبعة. ونحن نأمل أن نكون، فيما أضفناه من جديد، قد أشبعنا رغبات القراء التي تعتبر أحسن مسوغ لجهود المؤلف.
المعادي ٣٠/ ١٠/ ١٩٦٠
م. ب. ن.
_________
(١) راجع كتاب الظاهرة القرآنية.
1 / 14
الْبَابُ الْأَوَّلُ
الْحَاضِرُ وَالتَّارِيخُ
1 / 15
أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ
أي صديقي:
* لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاح الفجر الشاحب بين نجوم الشرق.
* وكل من سيستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة.
* ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته، هنالك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة.
* ستحمل اشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك البارك، في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك.
* وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك ... بعيدأ عن ظلك.
* ابذر يا أخي الزارع. من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك ... في عمق المستقبل.
* ها هي بعض الأصوات تهتف. الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي. وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعدحين.
* غنِّ! يا أخي الزارع! لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر، نحو الخط الذي يأتي من بعيد.
* وليدوِّ غناؤك البهيج. كما دوّى من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدت فيها الحضارات.
1 / 17
* وليملأ غناؤك أسماع الدنيا، أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك.
* ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ، السوق وملاهيه، لكي يميلوا هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك، ويُلهوهم عن ندائك.
* وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات، لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك.
* وها هم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار. ولكي يطمسوا بالظلام شبحك، في السهل الذي أنت ذاهب إليه.
* وها هم قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة.
* ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام، كما حدث يوم تحطّم "هُبل" في الكعبة.
1 / 18
دَوْرُ الْأَبْطَالِ
إن عهود الملاحم كالأوديسة والألياذة ليست هي العهود التي توجه فيها الشعوب طاقتها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة.
بل هي تصرف في مثل هذه العهود طاقتها تسلية واشباعا لخيالاتها. وما جهود الأبطال الذين يقومون بأدوارهم في تلكم الملاحم إلا جهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء العقيدة، فهم لا يقاتلون مدركين أن نصرهم قريب، وأن طريقهم إلى تخليص مجتمعهم محدد واضح. فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطورة منه إلى التاريخ.
ولو أننا سألنا أحدهم عن بواعث كفاحه، فإنه لا يستطيع أن يجد بكل وضوح المبررات التي تتصل عادة بالأعمال التاريخية، فهو يعلم أن مجهوداته كلها تذهب هباء، غير أن دوافعه الدينية وشرفه الإنساني قد حتما عليه مثل هذا السير.
ولقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن الماضي وحتى الربع الأول من هذا القرن دورا بطوليا فقط. ومن طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد.
إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها ... وما الحضارات المعاصرة، والحضارات أو تهدمها ... وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ
1 / 19
فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها، ويا لها سلسلة من النور! .. تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها، المتصلة في سبيل الرقي والتقدم.
هكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يُبعث ليكوّن حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى.
وما أجلّ هذه الساعة!. حينما تؤذن بفجر جديد من المدنية، وما أهولها من ساعة حينما تعلن غروب أخرى!. وهكذا كان شأن الجزائر عام ١٨٣٠، فقد مضى على أفول شمسها زمن بعيد، وقضت في ليلها وقتا ليس بالقصير، ومن عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإِنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد.
فعندما برق في أفقنا فرس الأمير (عبد القادر) في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم.
ثم توالت أشباح أخرى في موجة من الأحلام. تستمد مغزاها الأليم من تقاليد شعب بطل، أحب دائما الفرس والبارود، وكان تتابعها على الأخص في البوادي، حيث الخيل المسومة، والمجال الفسيح متوفران لدى القبائل.
فالرابطة القبلية قد ظلت وحدها الرابطة الوثيقة التي توحد بعض الرجال فيما يشبه وحدة رسالة، غير أن هذه الرابطة لم تكن بكافية لتأهيل شعب ليؤدي رسالة تاريخية، وإن كانت أهلته للقيام برواية حماسية رائعة، ولكن التاريخ يقرر أن الشعب الذي لم يقم برسالته، أي بدوره في تلك السلسلة، ما عليه إلا أن يخضع ويذل.
1 / 20
ولم يكن هناك في الحقيقة من يسجل هذه الحقبة من كفاح الشعوب ضد الاستعمار سوى هؤلاء المجاهدين من رجال القبائل، ولقد كان الأمير (عبد الكريم الخطابي) آخر من ارتشف من كأس البطولة الموروثة عن أجدادنا الأول، ولم يبق بعده باق ممن يهبون للنضال ضد المستعمر، من أجل البطولة المجردة، في سبيل الخلود، على سنة الذين عقدوا ألويتهم للكفاح، فقد كانت القبائل العربية البربرية تقاتل معه لا من أجل البقاء، ولكن في سبيل الخلود، ولقد كتب لها الخلود بما أوتيت من روح رفعتها فوق الهاوية، حيث هوى الآخرون، من الشعوب التي غمرتها موجة الاستعمار. فليسأل السائل عن مصير القبائل الأمريكية قبل كريستوف كولومب، أين هي؟ لقد أصبحت أحاديث وتمزقت كل ممزق، ودفنها التاريخ في طياته، حيث استقرت في ضميره نسيا منسيا، ونحن نرى في زوالها وانحلالها خير شاهد على أن الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية، كان للذين يتمسكون به درعا من أن تحطمهم الأيام، أو يذوبوا في بوتقة المستعمِر، يتقمصون شخصيته.
ولكن شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها، وسرعان ما انبلج الفجر في الأفق الذي يدعو فيه المؤذن إلى الفلاح، كل صباح، ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيَّ على الفلاح! فكان رجعه في كل مكان، إنه صوت (جمال الدين الأفغاني) موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة، ويوم جديد.
***
1 / 21
دَوْرُ السِّيَاسَةِ وَالْفِكْرَةِ
إن الكلمة لَمِن روح القدس، إنها تساهم إِلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إذ تدخل إِلى سويداء قلبه، فتستقر معانيها فيه، لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة.
فالكلمة يطلقها إنسان، تستطيع أن تكون عاملًا من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية.
وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها، فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتم إلى أسلوب في الحياة جديد.
وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان، وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها، ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر، فانكرت من أمرها ما كانت تستحسن، واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم حتى مع ثيابها التي كانت تلبسها، فنبذت النرجيلة والطربوش والحرز والزردة (١). ولقد يلغ تأثير تلك القوة الفعالة الجزائر فأخذت منها بنصيب.
فمأساة الجزائر مثلًا حتى سنة ١٩١٨ لم تكن إلا رواية صامتة، أر أثرا من الآثار التاريخية وضع في متحف، أي في صدور قوم صامتين يعلمون السر الخفي للمأساة، حتى أرّقت ضمائرهم، واحتوته أيضا ملفات الحكومة التي كانت تعلم من أمرها ما تعلم، حتى إذا ظهرت الفكرة الإصلاحية حوالي سنة ١٩٢٥ تحركت المشكلة الجزائرية، وقد أوتيت لسانا ينطق، وفكرة تنير لها الطريق.
_________
(١) هي الوليمة التي يقيمها رجال الطرق في أحفالهم، ويطلق عليها العوام في مصر "الفتة".
1 / 22
والذين أدركوا شبابم في تلكم الأيام يتذكرون تلكم الخواطر التي كانت تمر بهم.
وليس من شك في أن التاريخ يرى في مثل هذه الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، بمعنى أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته، ويبدأ تاريخه.
أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل، لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخا، بل كانت قصصا ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله، وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى، فيوقظها من نومها العميق.
وإنه لمن الواجب علينا أن ننوه ببعض ما كان من أمر مناجاة الشيخ (صالح بن مهنة) الضميرية الفردية- إن صح التعبير- فإن صوت مناجاته كاد يوقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة ١٨٩٨.
والحق أن هذا الشيخ الوقور كان في طليعة المصلحين، إذ أنه قام قومة مباركة ضد الخرافيين (الدراويش)، غير أن الحكومة الساهرة على الهدوء، كيلا يستيقد النائمون، عملت على إبعاده وعاقبته بمصادرة مكتبته الثمينة، وفرقت أمثاله من (مقلقي النوم العام) في نظر الاستعمار، فحولت الشيخ (عبد القادر المجاوي) من منصبه بمدرسة قسنطينة، إلى مدرسة العاصمة، وهكذا استطاع النوم أن يشد بالأجفان من جديد، بعد أن حاولت تفلتا من قيوده، ومضت هذه الأصوات التي كادت أن تلفت إليها الأذهان، وتجمع حولها الناس، وكأنها شجار حدث في وسط ليل: لم ينتبه إليه نائم.
ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل، من قمة الجبل. فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر. فحوالي عام ١٩٢٢، بدأت في الأرض هينمة وحركة، وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثا لحياة جديدة. فكأنما
1 / 23