Shuhada Tacassub
شهداء التعصب: رواية تاريخية وقعت أكثر حوادثها في فرنسا على عهد فرنسوا الثاني ملك فرنسا المتوفى سنة ١٥٦٠م
Genres
فقال ترولوس في نفسه: صدق الرجل، فقد كدت أشهر سيفي يومئذ؛ لأنني سمعت الإهانات توجه إلى الملكة!
وكان الناس قد تقلدوا السلاح على ملابس العيد التي لبسوها، وأخذوا يبدون مظاهرات حربية تبسم لها ترولوس، ودقت الأجراس لإعلان الابتهاج والسرور، وضربت الموسيقى، وازدانت الأبواب والنوافذ بالأغصان الخضراء، ورفعت أعلام عليها هذه الكلمات «حيا الله فرنسوا دوق دي جيز، حامي حمى الديانة الكاثوليكية»! فأحس ترولوس رسول الملكة بالعبرات تسري على خديه حنقا، وزاد غيظه عندما وصل إلى باب سن دنيس؛ لأنه رأى هناك جمهورا غفيرا ينتظر قدوم الرجل الذي دعاه منقذا لدينه، فقال ترولوس في نفسه: ما ضر الدوق لو تأخر يوما واحدا وجاء في يوم «عيد الشعانين» (أو أحد السعف الذي يسبق عيد القيامة بأسبوع واحد)، إذن لكان يدخل المدينة دخول المسيح أورشليم. وإذا بالصياح قد علا حتى طبق الفضاء، وسمع وقع حوافر الخيل من بعيد مبشرا بوصول الدوق دي جيز إلى باريس، مدينته المحبوبة، فعظم الهتاف وقتئذ، وكان القوم يصيحون، ليحي سيافة الدوق دي جيز! أو ليحي حملة بنادق الدوق دي جيز، أو لتحي بطانة الدوق دي جيز! صياحا يصم الآذان، وهتف بعضهم يقولون: ليحي القضاة العدول الذين قضوا على البروتستانت في فاسي!
ثم ظهر الدوق دي جيز راكبا جوادا أبيض، سرجه من جوخ مذهب، وعليه دراعة من حرير أبيض محجبة بوشي الذهب، وهو يفوق بطول قامته من حوله من الفرسان. فتوافد حكام المدينة للسلام عليه، وقدموا له مفاتيح البلد، وقام رئيس التجار خطيبا، فقال في خطبته: إن أهل المدينة انتظروا مسيحهم حتى أتى، وهذا المسيح هو الدوق دي جيز. فأجاب الدوق بكلمات قليلة كان لها صدى في العاصمة، قال: لقد أردنا أيها السادة مفارقة البلاط كي لا يتسلط علينا أعداء مذهبنا القويم، إلا أن جرأة هؤلاء الأعداء تجاوزت الحدود حتى عز على كل كاثوليكي حر أن يعيش محترما ما دام ذلك الأمر الملعون المشهور بأمر يناير (كانون الثاني) نافذا، وإنما عدنا إلى باريس للدفاع عن إلاهنا (ما أضعف هذا الإله إذا كان في حاجة لمثل هذا الدفاع)، وفي اعتقادنا أنه لا يوجد في المملكة كلها مدينة أوثق إيمانا من مدينتنا باريس العامرة!
واستمر الموكب سائرا على مهل، مضطرا أحيانا كثيرة إلى الوقوف ليدع للناس فرصة؛ ليقتربوا من الدوق، ويتبركوا بلمس ثيابه، وهكذا وصل فرنسوا دي جيز إلى قصره، وكان الكردينال دي بوربون شقيق أمير كوندة ينتظره فيه فأدى البلاغ، وطلب إلى الدوق أن يقابل الملكة في فونتنبلو حيثما تنتظره مع أمير كوندة الذي عزم على السفر إليها. فأجابه الدوق بلطف، قال: إنني أرغب في الذهاب إلى هناك، على أن الشعب لما علم بما طلبته الملكة وبأن الدوق ينوي الذهب دون جيشه إلى البلاط، ثار ثورة حقيقية، وجاءه رسول من الشعب يقول له بالنيابة عن الباريسيين: لسنا ندعك تذهب أيها المولى؛ لأنك إنما أتيت إلى باريس للدفاع عنا. فليفارق أمير كوندة باريس مصحوبا برجاله البروتستانتيين قبلما يطردهم الشعب نفسه. أما أنت فلا ترحل عن باريس من غير أن ترى ملك النافار وتتفق معه على الدفاع عن ديننا.
فانثنى الدوق إلى الكردينال، وقال له: أرأيت الآن يا ابن العم كيف أنني عاجز عن الانقياد إلى الملكة والعمل بأوامرها؟
فقطب الكردينال وجهه، ومضى ليلقى أخاه أمير كوندة، وكان هذا ينتظره وقد تأهب للسفر، فقال الأمير: أما أنا فإنني مطيع للملكة، ولقي ترولوس الأمير فقال له: أترى الآن أننا قادرون على المقاومة في باريس والهجوم على الدوق؟ فأجابه: كلا أيها الأمير، ولكني أرى المبادرة إلى مساعدة الملكة، وعسى أن نصل إليها قبل فوات الوقت.
فلم يجب أمير كوندة، بل خرج من باريس ليلا ومعه بعض الأشراف. فلما رأى ترولوس ذلك البعض وهو مؤلف من بروتستانتيين قد شيبتهم الحروب وشبان ممتلئين حماسة، قال: ليتك تأتي إلى فونتنبلو فنكون عصبة كبيرة نمنع الملكة، وما أعداؤها إلا أعداؤك. فتردد الأمير هنيهة، ثم قال: كلا يا كونت، فإني لا أجيء إلى كاترين إلا ومعي جيش، ولست أدري متى أستطيع اللحاق بدي شاتيلون، فلنذهب أولا إلى «مو» ولعلنا نجد فيها عددا كبيرا من أصدقائنا فنمضي بهم إلى مساعدة الملكة. فهل تذهب معنا؟
أجاب: لا أفارقك يا مولاي إلا إذا أعطيتني بعض فرق من حملة البنادق لأدافع بهم عن الملكة.
قال: تعال وعسى أن أتمكن غدا من إجابة طلبك. واستمر الأمير ورجاله سائرين في طريق «مو» وترولوس في طليعتهم يقول: ألا يفوت الوقت غدا؟
الفصل الثامن والعشرون
Unknown page