بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، وعليه أتوكل

الفن التاسع من الجملة الأولى من كتاب «الشفاء» لأبى على حسين بن عبد الله بن سينا البخارى

فصل فى الشعر مطلقا وأصناف الصيغ الشعرية، وأصناف الأشعار اليونانية

| فصل فى الشعر مطلقا وأصناف الصيغ الشعرية، وأصناف الأشعار اليونانية

Page 161

ونقول نحن أولا: إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة. ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعى. ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية، فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر. ومعنى كونها مقفاة هو أن يكون الحرف الذى يختم به كل قول منها واحدا. ولا نظر للمنطقى فى شىء من ذلك إلا فى كونه كلاما مخيلا: فان الوزن ينظر فيه: أما بالتحقيق والكلية فصاحب علم الموسيقى، وأما بالتجزئة وبحسب المستعمل عند أمة أمة فصاحب علم العروض. والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافى. وإنما ينظر المنطقى فى الشعر من حيث هو مخيل. والمخيل هو الكلام الذى تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكرى، سواء كان المقول مصدقا به أو غير مصدق. فان كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل: فانه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه؛ فان قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق. فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا، وربما كان المتيقن كذبه مخيلا.

وإذا كانت محاكاة الشىء بغيره تحرك النفس وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشىء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق، بل ذلك أوجب. لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شىء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة له، والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شىء تستأنس به النفس، فربما أفاد التصديق والتخييل معا، وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به. والتخيل إذعان، والتصديق إذعان، لكن التخيل إذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول، والتصديق إذعان لقبول أن الشىء على ما قيل فيه. فالتخييل يفعله القول لما هو عليه، والتصديق يفعله القول بما المقول فيه عليه، أى يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه.

Page 162

والشعر قد يقال للتعجيب وحده، وقد يقال للأغراض المدنية. وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية. والأغراض المدنية هى فى أحد أجناس الأمور الثلاثة، أعنى: المشورية والمشاجرية والمنافرية. وتشترك الخطابة والشعر فى ذلك، لكن الخطابة تستعمل التصديق، والشعر يستعمل التخييل. والتصديقات المظنونة محصورة متناهية يمكن أن توضع أنواعا ومواضع. وأما التخييلات والمحاكيات فلا تحصر ولا تحد. وكيف، والمحصور هو المشهور أو القريب! والقريب والمشهور غير كل ذلك المستحسن فى الشعر، بل المستحسن فيه المخترع المبتدع.

والأمور التى تجعل القول مخيلا: منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه، وهو الوزن؛ ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول؛ ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول؛ ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم. — وكل واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على وجهين: لأنه إما أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحا من غير صنعة فيه، أو يكون نفس المعنى غريبا من غير صنعة إلا غرابة المحاكاة والتخييل الذى فيه. وإما أن يكون التعجب منه صادرا عن حيلة فى اللفظ أو المعنى: إما بحسب البساطة أو بحسب التركيب. والحيلة التركيبية فى اللفظ مثل التسجيع ومشاكلة الوزن والترصيع والقلب وأشياء قيلت فى «الخطابة». وكل حيلة فإنما تحدث بنسبة ما بين الأجزاء: إما بمشاكلة، وإما بمخالفة. والمشاكلة إما تامة، وإما ناقصة؛ وكذلك المخالفة: إما تامة، وإما ناقصة. وجميع ذلك إما بحسب اللفظ، وإما بحسب المعنى. والذى بحسب اللفظ: فاما فى الألفاظ الناقصة الدلالات، أو العديمة الدلالات كالأدوات والروف التى هى مقاطع القول؛ وإما فى الألفاظ الدالة البسيطة؛ وإما فى الألفاظ المركبة. والذى بحسب المعنى. فاما أن يكون بحسب بسائط المعانى، وإما أن يكون بحسب مركبات المعانى.

ولنبدأ من القسم الأول، فنقول : إن من الصيغات التى بحسب القسم الأول تشابه أواخر المقاطع وأوائلها. والنظام المسمى المرصع كقوله:

فلا حسمت من بعد فقدانه الظبى

ولا كلمت من بعد هجرانه السمر

Page 163

ومنها تداخل الأدوات ومخالفتها وتشاكلها: «من» و«إلى» من باب المتخالفات، و«من» و«عن» من باب المتشاكلات.

وأما الصيغات التى بحسب القسم الثانى فالتى بالمشاكلة التامة: فهى أن يتكرر فى البيت ألفاظ متفقة التصريف متخالفة الجوهر، أو متفقة الجوهر متخالفة التصريف. والتى بالمشاكلة الناقصة فأن تكون متقاربة الجوهر، أو متقاربة الجوهر والتصريف: ومثال الأول: العين والغين، ومثال الثانى: الشمل والشمال، ومثال الثالث والرابع: الفاره والهارف، أو العظيم والعليم، والصابح والسابح، أو السهاد والسها. — وهذا هو التشاكل الذى فى اللفظ بحسب ما هو لفظ. وقد يكون ذلك فى اللفظ بحسب المعنى، وهو أن يكون لفظان اشتهرا مترادفين وأحدهما مقولا على مناسب الآخر أو مجانسه واستعمل على غير تلك الجهة، كالكوكب والنجم ويراد به النبت، أو السهم والقوس يراد به الأثر العلوى. — وأما الذى بحسب المخالفة فاذ ليس لفظ من الألفاظ بمخالف للفظ بجهة لفظيته، فاذن إن خالف فمعناه ما يخالف وهو المعنى الذى يكون اشتهر له. فتكون الصيغة التى على هذا السبيل فى ألفاظ أو لفظين يقع أحدهما على شىء، والآخر على ضده أو ما يظن به أنه ضده وينافيه، أو ما يشاكل ضده أو يناسبه ويتصل به، وقد استعمل على غير تلك الجهة، كالسواد التى هى القرى، والبياض والرحمة وجهنم وما جرى مجراه.

وأما الصيغات التى بحسب القسم الثالث فالذى منه بالمشاكلة فأن يكون لفظ مركب من أجزاء ذوات التصريف فى الانفراد وتجتمع منها جملة ذات ترتيب فى التركيب ويقارنه مثله، أو يكون التركيب من ألفاظ لها إحدى الصيغات التى فى البسيطة ويقارنه مثله. — والذى بحسب المخالفة فالذى يكون فيه مخالفة ترتيب الأجزاء بين جملتى قولين مركبين: إما فى أجزاء مشتركة فيهما، أو أجزاء غير مشتركة فيهما.

Page 164

وأما الصيغات التى بحسب القسم الرابع: أما الذى بحسب المشا كلة التامة فأن يتكرر فى البيت معنى واحد باستعمالات مختلفة؛ وأما الذى بحسب المشاكلة الناقصة فأن يكون هناك معان مفردة متضادة أو متناسبة، كمعنى القوس والسهم، ومعنى الأب والابن. وقد يكون التناسب بتشابه فى النسبة، وقد يكون بجهة الاستعمال، وقد يكون باشتراك فى الحمل، وقد يكون باشتراك فى الاسم. مثال الأول: الملك والعقل. مثال الثانى: القوس والسهم. مثال الثالث: الطول والعرض. مثال الرابع: الشمس والمطر.

وربما صرح بسبب المشاكلة، وربما لم يصرح. وإذا صرح فربما كان بحسب لأمر فى نفسه، وربما كان بحسب الوضع. والمخالفة إما تامة فى الأضداد وما جرى مجراها، وإما ناقصة وهى بين شىء ونظير ضده أو مناسب ضده، أو بين نظيرى ضدين أو مناسبيهما. وربما كانت المخالفة بسبب يذكر، وربما كانت فى نفس الأمر.

وأما الذى بحسب القسم الخامس: فأما فى المشاكلة فأن يكون معنى مركب من معان وآخر غيره يتشاكل ترتيبهما أو يشتر كان فى الأجزاء. وأما الذى بالمخالفة فأن يتخالفا فى التركيب أو الترتيب بعد الشركة فى الأجزاء، أو بلا شركة فى الأجزاء: ويدخل فى هذه القسمة كقولهم: إما كذا كذا، وإما كذا كذا. والجمع والتفريق كقولهم: أنت وفلان بحر، لكن أنت للغمارة، وذاك للزعاقة. وجمع الجملة لتفصيل البيان كقولهم «يرجى»، «ويتقى»:

يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

فهذه هى الصيغات الشعرية على سبيل الاختصار.

واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر، وكانوا يخصون كل غرض بوزن على حدة. وكانوا يسمون كل وزن باسم على حدة:

Page 165