وإذ قد بينا صحة هذا الرأى فيجب أن نحل الشبه المذكورة، أما الشبهة الأولى فنقول إنه ليس يجب إذا كانت النفس واحدة الذات أن لا تفيض عنها فى أعضاء مختلفة قوى مختلفة، بل من الجائز أن يكون أول ما يفيض عنها فى البزر والمنى قوة الإنشاء، فتنشىء أعضاء على حسب موافقة أفعال تلك القوة، ويستعد كل عضو لقبول قوة خاصة لتفيض عنها، ولولا ذلك لكان خلق البدن معطلا لها، وأما من تشكك فجعل النفس عالمة لذاتها فهو فاسد، فإنه ليس يجب إذا كان جوهر النفس خاليا بذاته عن العلم أن يستحيل له وجود العلم، فإنه فرق بين أن يقال إن جوهر الشىء باعتبار ذاته لا يقتضى العلم وبين أن يقال إن جوهره بذلك الاعتبار يقتضى أن لا يعلم، فإن لزوم الجهل مع كل واحد من القولين مختلف، فإنا وإن سلمنا أن النفس بجوهرها جاهلة فإنما نعنى أن جوهرها إذا انفرد ولم يتصل به سبب من خارج لزمه الجهل بشرط الانفراد مع شرط الجوهر لا بشرط الجوهر وحده، ولسنا نعنى بهذا أن جوهرها جوهر لا يعرى عن الجهل، وإن لم نسلم بل قلنا إن ذلك أمر عارض لها فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعى، فإنه ليس إذا قلنا إن الخشبة خالية عن صورة السريرية وإن ذلك الخلو ليس لجوهرها بل أمر عارض لها جائز الزوال كان هذا القول كأنك تقول يجب أن يكون قد كانت فيها صورة السريرية ثم انفسخت، ومن المحال أيضا ما قاله المتشكك من ارتداد الشىء إلى ذاته، فإن الشىء لا يغيب البتة عن ذاته، بل ربما قيل إنه قد يغيب عن أفعال قد تختص بذاته وتتم بذاته وحدها، وإنما يتوسع فيقال هذا لأن هذه الأفعال لا تكون موجودة له، بل لا تكون موجودة أصلا، وأما ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها، وبالحقيقة فإن أفعاله لا يجوز أن يقال فيها أنه يغيب عنها، لأن الغائب هو موجود فى نفسه غير موجود للشىء، وهذه الأفعال ليست موجودة أصلا إلا وقت ما يوجدها، فلا يكون غائبا عنها، وأما ذات الشىء فلا يغيب الشىء عنها ولا يرجع إليها،
Page 259