فعلى هذه الصورة يجب أن تفهم هذا الموضع ولا تلتفت إلى مأخذ آخر؛ فإنه حينئذ لا يستمر أن يقال: إن الكبير، لو كان ضدا للصغير لما اجتمعا؛ فإن القائل يقول الكبير ضد الصغير الذى هو عنده صغير، ولا لكل ما يفرض صغيرا. وبعض هؤلاء المتحذلقين من المفسرين يقولون فى هذا الموضع شيئا يرجع إلى خلال ماقلناه قبيل هذا؛ ولكنهم يزيدون فيه تكلفا يوهم أنه شئ؛ وذلك أنهم يقولون على قول القائل: إن الكبير والصغير من الكم، وإن الكبير والصغير متضادان، فبعض الكميات متضادات؛ فنقول: إن لهذا جوابين: جواب معاندة وجواب مساعدة. أما المعاندة فأن نقول: إن هذه ليست كميات؛ وأما المساعدة فأن نقول: إنا، وإن أعطينا أنها كميات، فليست بمتضادة. وهذا الجواب، إذا أوضح حق الإيضاح وصححت المقدمتان على الجهة الواجبة، حق. وأما تكلف ذكر المعاندة والمساعدة فيه فمن جنس التكلف؛ وذلك لأن أحد الجوابين يعاند فى الصغرى من المقدمتين؛ والآخر يعاند فى الكبرى، والعناد فى الصغرى إعراض عن الكبرى إلى أن يفرغ لها. فكما أنه حين قال: إن هذه ليست بكميات؛ كان كأنه قال: هبها أضدادا أو هبنى أساعدك على ذلك؛ ولكنى أقول: إنها ليست بكميات. وكذلك حين قال: إن هذه كميات؛ فكأنه قال: هبها كميات وهبنى أساعدك على ذلك؛ فإنها ليست بأضداد. وسواء قال فى كل موضع وهو ينازعه فى مقدمة، هب أنى أسلم لك المقدمة الأخرى أو لم يقل، فإن ذلك لا مدخل له فيما هو بسبيله.
وما قولهم فى هذا القائل لو قال: هبها أضدادا، فإنها ليست بكميات؛ أكانت المعاندة تنقلب مساعدة ؟ وقد كان يمكنهم أن يستعملوا المعاندة والمساعدة على جهة أخرى، فيجعلوا المساعدة فى أن يسلموا مقدمة، ولا يسلموا له أخرى؛ ويجعلوا المعاندة فى أن لا يسلموا ولا واحدة من المقدمتين.
وقد قيل فى الجواب عن هذه الشكوك: إن الصغير قد يكون شطرا من الكبير يقومه، والفرد جزءا من الزوج؛ والشئ المقوم لا يكون مضادا لما يقومه. وقالوا: إن الصغير والكبير بالقياس إلى المعتدل ضدان. ويشبه أن يكون صدق هذا ليس متعلقا بالكبير والصغير؛ بل بالزائد والناقص، من حيث هو واقع فى المقدار، بل من حيث هو واقع فى الكيف؛ ويكون من جهة الطبائع الزائدة والناقصة، لا من جهة الزائد والناقص، من حيث هما هما فقط؛ فيكون مثلا الجبن ضد التهور؛ لا لأن الزائد ضد الناقص بل لطبيعة الجبن وطبيعة التهور؛ فإنهما معقولتان بذاتيهما اللتين فيهما التضاد، إن كان تعرض لهما هذه الإضافة.
وأما الحدود المتعينة فى الخلق للصغير والكبير التى لا تقال بالقياس فإنها أيضا تكون متضادة؛ لا لأنها مقادير، بل لأنها مقارنة لكيفيات، ولأجل أنها أطراف طبيعية؛ مثل أن لأعظام الحيوانات مقادير هى على الإطلاق أكبر مقدار فيها، ومقادير هى على الإطلاق أصغر مقدار فيها. وليس إنما يقال للكبير منها كبير بالقياس إلى الصغير، بل فى نفسه، وبالقياس إلى طبيعة نوعه؛ وكذلك الحال فى الصغير منها. وحكمها حكم أطراف المسافة التى لحركات النقل والخفة.
Page 99