وأما الأمور التى فيها لتك الوحدات فجعلتها هى حامله للعدد الذى هو لذاته كم منفصل؛ ثم لايوجد فيها معنى كمية منفصلة غير معنى اجتماع تلك الآحاد؛ ولا يوجد لها مقدر خارج من مقدرها، من حيث هى معدودة، ولا لها جواز مساواة ولا مساواة يتعلق بالانفصال فى معنى غير العدد الذى يقع لها؛ فلا يجوز أن يقع فيها مقدر أو جواز مساواة ولا مساواة، بحيث لاتلتفت فى اعتباره إلى العدد، بل إنما تلتفت فى اعتباره إلى معنى غير ذلك من المعانى التى تكون فى الشئ مما هو أمر غير العدد، مثل أن يكون صوتا أو حركة أو جسما. فإن أمكن فى شئ من الأشياء أن يكون فيه تقدير واعتبار مساواة وغير مساواة لا يتناول اتصاله، ومع ذلك فلا يتناول انفصاله العددى، بل مأخذ آخر من الانفصال، أمكن أن يكون غير العدد كمية منفصلة. لكنك لاتجد شيئا من الأشياء ينسب إلى احتمال تقدير وجواز مساواة وغير مساواة، إلا وقد اعتبر اتصاله أو عدده لاغير. والأشياء إذا لم يلتفت إلى عددها ولم يكن لها اتصال تتقدر به لم تجد به، لم تجد لها تقديرا وكمية منفصلة؛ لاسيما ومفسرهم يقول: إن للمقطع المقصور إلى المقطع الممدود نسبة عددإلى عدد. وهذا تصريح بأنه يعد لأجل العدد. وحاله فى ذلك حال التى فى الجماعة. والعجب أنه لم يشكل هذا فى أجسام تجمع من غير اتصال، فيقدرها واحد ويكون لها جزء، من حيث هى منفصلة؛ ولا فى أزمنة متفرقة، ولا فى حركات الإيقاعات؛ولا فى عدد كيفيات تكون فى النقوش والصور؛ إنما أشكل هذا واشتبه على قوم فى أمر القول المسموع؛ فإنهم قالوا: إنه من الكم المنفصل باذات جزء ما. ثم بعضهم جعل السبب فيه أنه يقدر بمقاطعه؛ فتكون مقاطعه أجزاؤه؛ ولها أزمنة تقدرها؛ فتكون المقاطع تقدر الجملة بسبب زمانها. فيكون هؤلاء إنما يقدرون القول بعدد أقسام أزمنته وبمقاديرها؛ فيكون بالحقيقة إنما يجعلون القول كما لعدد زمانه؛ فيكون القول، على طريقتهم، كما بأمرين من الكم يقارنانه لا لذاته.
وقوم يتحاشون من ذلك فيحتالون له وجها آخر فيقولون: إن الصوت يعظم ويصغر بسبب حال القارع والمقروع؛ ولا يكون ذلك العظم معتبرا بالزمان؛ فهو إذن من باب آخر . فهؤلاء ليسوا إنما يجعلون القول، وهو المركب من المقاطع، وحده كما منفصلا؛ بل يجعلون الصوت نفسه كما. ثم لا ينفعهم هذا الاحتيال فيما نحن بسبيله؛ إن الجهة التى يحاولون أن يكون بها الصوت كما، إن كان بها كما؛ هى جهة توجب فيها الكمية المتصلة. وهؤلاء إنما أحوجوا إلى أن يثبتوا كمية غير متصلة على أن عظم الصوت وصغره هو نقلة وخفته أو جهارته وخفاتته؛ وهى كيفيات بالحقيقة كما تعلم ذلك فى موضعه لا كميات. ومع ذلك فهؤلاء جعلوا كمية الصوت لكمية ما يتولد عنه؛ فجعلوه أيضا من الكم بالعرض مثل أشياء كثيرة غير الصوت.
وقوم ممن هم أشد تحصيلا زعموا أنه ليس القول كم بشىء من ذلك؛ بل لأن المقطع جزؤه وهو يعده. وكل ذى جزء يعد بجزء له فهو من الكم؛ والكبرى من قياسهم مدخولة؛ فإنه ليس كل ما له جزء يقدر بجزئه فيجب أن يكون من الكم بالذات؛ بل يجوز أن يكون له وجود وحقيقة أخرى، وقد عرضت له كمية ما؛ إما مقدار وإما عدد فيكمم به وصار له بسببه جزء يعده.وأمثال هذه الأشياء لا تكون كميات بالذات؛ ولا تدخل فى الكمية دخول النوع فى الجنس؛ والمقطع ليست جزئيته وتقديره إلا لأنه واحد؛ والقول كثير؛ فالقول إنما له خاصية الكم من حيث الكثرة التى فيه وهى العدد؛ فإذا لم تلتفت إلى الكثرة التى فيه، التى هو محصل منها، ولا إلى الزمان الذى يساوقها، ولا إلى مقادير ما يتولد منه الصوت أو فيه، لم تجد للقول كمية ألبتة؛ فإن كانت هذه الأشياء تدخل ما يقارنه من الأشياء فى مقولة الكمية إدخالا بالذات، فههنا حركات الإيقاع ونغم الجمع فى الألحان وألوان التزاويق وأعضاء الحيوان وأشياء أخرى مما له هذه الكميات كلها أو بعضها؛ فما بالها لا تدخل فى الكم بالذات ؟ وليس لقائل أن يقول: إن المقادير قد يقع عليها العدد وكونها واقعا عليها العدد لا يمنعها أن تكون فى أنفسها كمية؛ فكذلك القول، فإن المقادير، وإن كثرت بالعدد، فلها بعد الكثرة وقبلها خاصية الكمية فى حد اتصالها وأحوال تلزمها وتلحقها؛ من حيث هى متصلات، لا تلتفت فيها إلى عددها، مثل كونها قابلة للتجزئة والتجزئة بالفعل. فإن جعلتها ذات عدد، فإن قبول التجزئة لا يجعلها ذات عدد وهى تحتمل أيضا المساواة وغير المساواة بالتطبيق فى حد اتصالها، كما سنبين بعد، من غير إحواج إلى عدد أو شىء آخر يلحقها.
Page 92