المدخل
Unknown page
[المدخل]
Page 1
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب الحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد وآله أجمعين. هذا كتاب الشفاء للشيخ الرئيس أبى على الحسين بن عبد الله بن سينا لقاه الله ما يليق بإحسانه وفى صدره كلام لأبى عبيد عبد الواحد بن محمد الجوزجانى. قال أبو عبيد: أحمد الله على نعمة، وأسأله التوفيق لمرضاته، وأصلى على نبيه محمد وآله. وبعد: فقد كانت محبتى للعلوم الحكمية،ورغبتى فى اقتباس المعارف الحقيقية، دعتانى إلى الإخلال ببلادى، والمهاجرة إلى مستقر الشيخ الرئيس أبى على أدام الله أيامه من البلاد؛ إذ كان ما وقع إلى من خبره، وعرض على من كلامه، يقتضى الميل إليه عن سائر من يذكر بهذه الصناعة، ويعتزى الى هذه الجملة. وقد كان بلغنى من خبره أنه مهر فى هذه العلوم، وهو حدث لم يستو به الشباب، ولا أربى على العقدين من العمر، وأنه كثير التصانيف، إلا أنه قليل الضن بها، والرغبة فى ضبط نسخها. فحقت رغبتى فى قصده، وملازمته، والإلحاح عليه، والالتماس منه أن يهتم بالتصنيف وأهتم بالضبط. فيممته وهو بجرجان، وسنه قريب من اثنين وثلاثين سنة، وقد بلى بخدمة السلطان والتصرف فى عمله، وقد شغل ذلك أوقاته، فلا أنتهز إلا الفرص الخفاف، واستمليته فيها شيئا من المنطق والطبيعيات. وإذا دعوته إلى التصانيف الكبار وإلى الشروح أحال على ما عمله من الشروح، وصنفه من الكتب فى بلاده، وقد كان بلغنى تفرقها وتشتتها، وضن من يملك نسخة منها بها. وأما هو فلم يكن من عادته أن يخزن لنفسه نسخة، كما لم يكن من عادته أن يحرر من الدستور، أو يخرج من السواد، وإنما يملى أو يكتب النسخة ويعطيها ملتمسها منه. ومع ذلك فقد تواترت عليه المحن، وغالت كتبه الغوائل، فبقيت معه عدة سنين أنتقل فيها من جرجان إلى الرى، ومن الرى إلى همذان. وشغل بوزارة الملك شمس الدولة، وكان اشتغاله بذلك حسرة علينا، وضياعا لروزجارنا. وكان قد وهن الرجاء أيضا فى تحصيل تصانيفه الفائتة ، فالتمسنا منه إعادتها، فقال: أما الاشتغال بالألفاظ وشرحها فأمر لا يسعه وقتى، ولا تنشط له نفسى، فإن قنعتم بما يتيسر لى من عندى، عملت لكم تصنيفا جامعا على الترتيب الذى يتفق لى. فبذلنا له منا الرضا به، وحرصنا على أن يقع منه الابتداء بالطبيعيات؛ فشرع فى ذلك، وكتب قريبا من عشرين ورقة، ثم انقطع عنه بالقواطع السلطانية. وضرب الدهر ضرباته، واخترم ذلك الملك، وآثر هو أن لا يقيم فى تلك الدولة، ولا يعاود تلك الخدمة، وركن إلى أن الاحتياط له، فيما استحبه من ذلك، أن يستتر مرتقبا فرصة الانفصال عن تلك الديار. فصادفت منه خلوة وفراغا اغتنمته، وأخذته بتتميم كتاب الشفاء؛ وأقبل هو بنفسه على تصنيفه إقبالا بجد، وفرغ من الطبيعيات والإلهيات خلا كتابى الحيوان والنبات فى مدة عشرين يوما، من غير رجوع إلى كتاب يحضره، وإنما اعتمد طبعه فقط. وشرع فى المنطق، وكتب الخطبة وما يتصل بها. ثم إن أعيان تلك الدولة نقموا عليه استتاره، واستنكروا عزمه فى المفارقة، وظنوا أنه لمكيدة أو لممالأة جنبة معادية، وحرص بعض خلص خدمه على توريطه فى مهلكة ليفوز بما له عنده من متاع الدنيا، فدل عليه طلابه وكانوا ممن سلف له عندهم صنائع تحرم عليهم قصده بالإيحاش، لو كانوا للمعروف ذاكرين ووقفهم على مكانه، فاستوثق منه بإيداعه قلعة فردجان، وبقى فيها قدر أربعة أشهر ريثما تقرر أسباب تلك الناحية على فصل من الأمر، وتاركها المنازعون، فأفرج عنه، وسيم معاودة الوزارة فاعتذر، واستمهل فعذر. وهناك اشتغل بالمنطق،، وتمكن من الكتب، فعرض من ذلك أن حاذاها، وجرى على ترتيب القوم فيها، وتكلم على ما استنكره من أقوالهم، فطال المنطق، وتم بأصبهان. وأما الرياضيات فقد كان عملها على سبيل الاختصار فى سالف الزمان، فرأى أن يضيفها إلى كتاب الشفاء. وصنف أيضا الحيوان والنبات، وفرغ من هذه الكتب، وحاذى فى اكثر كتاب الحيوان كتاب أرسطوطاليس الفيلسوف، وزاد فيها من ذلك زيادات، وبلغ سنه حينئذ أربعين. وغرضى فى اقتصاص هذه القصص، أن يوقف على السبب فى إعر اضه عن شرح الألفاط، وفى اختلاف ما بين ترتيبه لكتب المنطق، وما بين ترتيبه لكتب الطبيعيات والإلهيات، وأن يتعجب من اقتداره على تصنيفه ما صنفه من كتب الطبيعيات والإالهيات، والمدة عشرون يوما، والكتب غائبة عنه، وإنما يلى عليه قلبه المشغول بما منى به فقط. وسيجد المتأمل لهذا الكتاب بعين الاعتبار من النكت والنوادر والتفريعات والبيانات ما لا يجده فى جملة كتب السالفين؛ والله الموفقى لما فيه الخير. [ومن ها هنا ابتداء الكتاب وكلام أبى على الحسين بن عبدالله، أحسن الله إليه].
Page 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الجملة الأولى فى المنطق وهى تسعة فنون
Page 5
الفن الأول من الجملة الأولى فى المدخل وهو مقالتان. المقالة الأولى منها تشتمل على أربعة عشر فصلا. [الأول] (ا) فى الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب. [الثانى] (ب) فى التنبيه على العلوم والمنطق. الثالث (ج) فى منفعة المنطق. [الرابع] (د) فى موضوع المنطق. [الخامس] (ه) فى تعريف اللفظ المفرد، والمؤلف، والكلى، والجزئى، والعرضى، والذاتى، والذى يقال فى جواب ما هو، والذى لا يقال. [السادس] (و) فى تعقب ما قاله الناس فى الذاتى والعرضى. [السابع] (ز) فى تعقب ما قاله الناس فى الدال على الماهية. [الثامن] (ح) فى قسمة اللفظ المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة. [التاسع] (ط) فى الجنس. [العاشر] (ى) فى النوع ووجه انقسام الكلى إليه. [الحادى عشر] (يا) فى تعقب رسوم النوع. [الثانى عشر] (يب) فى الطبيعى، والعقلى، والمنطقى، وما قبل الكثيرة، وفى الكثرة، و بعد الكثرة. [الثالث عشر] (يج) فى الفصل. [الرابع عشر] (يد) فى الخاصة والعرض العام. المقالة الثانية تشتمل على أربعة فصول [الأول] (ا) فى المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة و أولها بعد العامة ما بين الجنس والفصل. [الثانى] (ب) فى المشاركة والمباينة بين الجنس والنوع. [الثالث] (ج) فى المشاركات والمباينات الباقية. [الرابع] (د) فى مناسبة بعض هذه الخمسة مع بعض.
Page 6
المقالة الأولى
Page 7
المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى وهى فى علم المنطق
[الفصل الأول] فصل فى الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب
Page 9
قال الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه: وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين، فإن غرضنا فى هذا الكتاب الذى نرجو أن يمهلنا الزمان إلى ختمه، ويصحبنا التوفيق من الله فى نظمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول فى العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول المستنبطة بالأفهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طو يلا، حتى استقام آخره على جملة اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشى الأهواء. وتحريت أن أودعه اكثر الصناعة، وأن أشير فى كل وضع الى موقع الشبهة، وأحلها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأورد الفروع مع الأصول إلا، ما أثق بانكشافه لمن استبصر بما نبصره، وتحقق ما نصوره، أو ما عزب عن ذكرى ولم يلح لفكرى. واجتهدت فى اختصار الألفاظ جدا، ومجانبة التكرار أصلا، إلا ما يقع خطأ أوسهوا، وتنكبت التطويل فى مناقضة مذاهب جلية البطلان أومكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولايوجد فى كتب القدماء شىء يعتد به إلا وقد ضمناه كتابنا هذا؛ فإن لم يوجد فى الموضع الجارى بإثباته فيه العادة وجد فى وضع آخر رأيت أنه أليق به، وقد أضفت إلى ذلك مما أدركته بفكرى، وحصلته بنظرى، وخصوصا فى علم الطبيعة وما بعدها، وفى علم المنطق. وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما هى للصناعة الحكمية، أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيراد شىء من ذلك، وإضاعة الزمان به، وأخرته إلى موضعه. ثم رأيت أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه "كتاب اللواحق"، يتم مع عمرى، ويؤرخ بما يفرغ منه فى كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب، وكتفريع الأصول فيه، و بسط الموجز من معانيه. ولى كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفة على ما هى فى الطبع، وعلى ما يوجبه الرأى الصريح الذى لا يراعى فيه جانب الشركاء فى الصناعة، ولا يتقى فيه من شق عصاهم مايتقى فى غيره، وهوكتابى فى "الفلسفة المشرقية". وأما هذا الكتاب فاكثر بسطا، وأشد مع الشركاء من المشائين مساعدة. ومن أراد الحق الذى لامجمجة فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على طريق فيه ترض ما إلى الشركاء وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له استغنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب. ولما افتتحت هذا الكتاب ابتدأت بالمنطق، وتحريت أن أحاذى به ترتيب كتب صاحب المنطق، وأوردت فى ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعى، فلم يتفق لى فى أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المؤتم به فى هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت كتاب الأسطقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحللت فيه الشبه واقتصرت عليه. ثم أردفته باختصار كذلك لكتاب المجسطى فى الهيئة يتضمن مع الاختصار بيانا وتفهيما، وألحقت به من الزيادات بعد الفراغ منه ماوجب أن يعلم المتعلم حتى تتم به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية. ثم تلوته باختصار لطيف لكتاب المدخل فى الحساب. ثم ختمت صناعة الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذى انكشف لى، مع بحث طو يل، ونظر دقيق، على الاختصار. ثم ختمت الكتاب بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جمل من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصف فيها كتابا جامعا مفردا. وهذا الكتاب، وإن كان صغير الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لا يفوت متأمله ومتدبره اكثر الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب أخرى؛ وأول الجمل التى فيه هو علم المنطق. وقبل أن نشرع فى علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارة موجزة، ليكون المتدبر لكتابنا هذا كالمطلع على جمل من الأغراض.
Page 11
[الفصل الثانى] (ب) فصل فى التنبيه على العلوم والمنطق
Page 12
فنقول: إن الغرض فى الفلسفة أن يوقف على حقائق الأشياء كلها على قدر مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودة إما أشياء موجودة ليس وجودها باختيارنا وفعلنا، و إما أشياء وجودها باختبارنا وفعلنا. و معرفة الأمور التى من القسم الأول تسمى فلسفة نظرية، ومعرفة الأمور التى من القسم الثانى تسمى فلسفة عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط، والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم مايعمل به فتعمل. فالنظرية غايتها اعتقاد رأى ليس بعمل، والعملية غايتها معرفة رأى هو فى عمل، فالنظرية أولى بأن تنسب إلى الرأى. والأشياء الموجودة فى الأعيان التى ليس وجزدها باختيارنا وفعلنا هى بالقسمة الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التى تخالط الحركة، والثانى الأمور التى لا تخالط الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التى تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن تكون لا وجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع، وما شابه ذلك، و إما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التى لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنها إما أن تكون، لا فى القوام و لا فى الوهم، يصح عليها أن تجرد عن مادة معينة، كصورة الإنسانية والفرسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك فى الوهم دون القوام، مثل التربيع، فإنه لا يحوج تصوره إلى أن يخص بنوع مادة، أو يلتفت الى حال حركة. وأما الأمور التى يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهى مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والعلية. فتكون الأمور التى يصح عليها أن تجرد عن الحركة، إما أن تكون صحتهاصحة الوجوب، وإما ألا تكون صحتها صحة الوجوب، بل تكون بحيث لا يمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية، والعلية، والعدد الذى هو الكثرة. وهذه فإنما أن ينظر اليها من حيث هى هي، فلايفارق ذلك النظر النظراليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر الذى يكون فى الأشياء، لامن حيث هى فى مادة، إذ هي، من حيث هى هى، لافى مادة، وإما أن ينظر إليها من حيث عرض لها عرض لا يكون فى الوجود إلافى المادة. وهذا على قسمين:إما أن يكون ذلك العرض لا يصح توهمه أن يكون إلا مع نسبة إلى المادة النوعية و الحركة، مثل النظر فى الواحد، من حيث هو نار أو هواء، وفى الكثير، من حيث هو أسطقسات، وفى العلة، من حيث هى مثلا حرارة أو برودة، وفى الجوهر العقلى، من حيث هونفس، أى مبدأ حركة بدن،وإن كان يجوز مفارقته بذاته. وإما أن يكون ذلك العرض وإن كان لايعرض إلا مع نسبة إلى مادة ومخالطة حركة فإنها قد تتوهم أحواله وتستبان من غير نظر فى المادة المعينه و الحركة النظر المذكور، مثل الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال التى تلحق العدد فإن ذلك يلحق العدد وهو فى أوهام الناس، أوفى موجودات متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصور ذلك قد يتجرد تجردا ما حتى لا يحتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية. فأصناف العلوم إما أن تتناول إذن اعتبار الموجودات، من حيث هى فى الحركة تصورا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصة الأنواع، وأما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لا قواما، وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا. فالقسم الأول من العلوم هو العلم الطبيعى. والقسم الثانى هو العلم الرياضى المحض،وعلم العدد المشهور منه، وأما معرفة طبيعية العدد، من حيث هو عدد، فليس لذلك العلم. والقسم الثالث هو العلم الإلهى. وإذ الموجودات فى الطبع على هذه الأقسام الثلاثة، فالعلوم الفلسفية النظرية هى هذه. وأما الفلسفة العلمية: فأما أن تتعلق بتعليم الآراء التي تنتظم باستعمالها المشاركة الإنسانية العامية، وتعرف بتدبيرالمدينة، وأتسمى علم السياسة، وإماأن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به المشاركة الانسانية الخاصة، وتعرف بتدبير المنزل، وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به حال الشخص الواحد فى زكاء نفسه، ويسمى علم الأخلاق. وجميع ذلك انما تحقق صحة بالبرهان النظرى، و بالشهادة الشرعية، ويحقق تفصيله وتقديره بالشريعة الإلهية. والغاية فى الفلسفة النظرية معرفة الحق، والغاية فى الفلسفة العلمية معرفة الخير. وماهيات الأشياء قد تكون فى أعيان الأشياء، وقد تكون فى التصور، فيكون لهما اعتبارات ثلاثة : اعتبار الماهية بما هى تلك الماهية غيرمضافة إلى أحد الوجودين وما يلحقها، من حيث هى كذلك؛ واعتبار لها، من حيث هي فى الأعيان، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك واعتبار لها، من حيث هى فى التصور، فيلحقها حينئذ أعر اض تخص وجودها ذلك، مثل الوضع والحمل، ومثل الكلية والجزئية فى الحمل، والذاتية والعرضية فى الحمل، وغير ذلك مما ستعلمه، فإنه ليس فى الموجودات الخارجة ذاتية و لا عرضية حملا، ولا كون الشىءمبتدأ ولا كونه خبرا، ولا مقدمة ولا قياسا، ولا غيرذلك. وإذا أردنا أن نتفكر فى الاشياء ونعلمها، فنحتاج ضرورة الى أن ندخلها فى التصور، فتعرض لهاضرورة الأحوال التى تكون فى التصور، فنحتاج ضرورة إلى أن نعتبر الأحوال الى لهافى التصور، وخصوصا ونحن نروم بالفكرة أن نستدرك المجهولات، و أن يكون ذلك من المعلومات. والأمور إنما تكون مجهولة بالقياس الى الذهن لا محالة، وكذلك انما تكون معلومة بالقياس إليه. والحال والعارض الذى يعرض لها حتى ننتقل من معلومها الى مجهولها،وهو حال وعارض يعرض لها فى التصور، وإن كان مالها فى ذاتها أيضا موجودا مع ذلك، فمن الضرورة أن يكون لنا علم بهذه الأحوال، وأنها كم هي، وكيف هي، وكيف تعتبر فى هذا العارض. ولأن هذا النظر ليس نطرا فى الأمور، من حيث هى موجودة أحد نحوى الوجودين المذكورين، بل من حيث ينفع فى إدراك أحوال ذينك الوجودين، فمن تكون الفلسفة عنده متناولة للبحث عن الأشياء، من حيث هى موجودة، ومنقسمة إلى الوجودين المذكورين، فلا يكون هذا العلم عنده جزأ من الفلسفة؛ ومن حيث هو نافع فى ذلك، فيكون عنده آلة فى الفلسفة ومن تكون الفلسفة عنده متناولة لكل بحث نظرى، ومن كل وجه، يكون أيضا هذا عنده جزأ من الفلسفة، وآلة لسائر أجزاء الفلسفة. وسنزيد هذا شرحا فيما بعد. والمشاجرات التى تجرى فى مثل هذه المسألة فهى من الباطل ومن الفضول: أما من الباطل، فلأنه لا تناقض بين القولين، فإن كل واحد منهما يعنى بالفلسفة معنى آخر، وأما من الفضول، فإن الشغل بأمثال هذه الأشياء ليس مما يجدى نفعا. وهذا النو ع من النظر هو المسمى علم المنطق، وهو النظر فى هذه الأمور المذكورة، من حيث يتأدى منها إلى إعلام المجهول، وما يعرض لها من حيث كذلك لا غير.
[الفصل الثالث] (ج) فصل فى منفعة المنطق
Page 16
لما كان استكمال الانسان من جهة ما هو إنسان ذو عقل على ما سيتضح ذلك فى موضعه، هو فى أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخيرلأجل العمل به واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على ذلك، وكان جل ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مكسب المجهول هو المعلوم، وجب أن يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم وكيف يكون حال المعلومات وانتطامها فى أنفسها، حتى تفيد العلم بالمجهول، أى حتى إذا ترتبت فى الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه. وكما أن الشىء يعلم من وجهين: أحدهما أن يتصورفقط حتى إذا كان له اسم فنطق به، تمثل معناه فى الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أوكذب، كما إذا قيل: إنسان، أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقفت على معنى ما تخاطب به من ذلك، كنت تصورته. والثانى أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلا إن كل بياض عرض، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل صدقت أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، فقد تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لا تتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق به بعد؛ وكل تصديق فيكون ع تصور، ولا ينعكس، والتصور فى منل هذا المعنى يفيدك أن يحدث فى الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والتصديق هو أن يحصل فى الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشىء يجهل من وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثانى من جهة التصديق فيكون كل واحد منها لايحصل معلوما إلابالكسب، ويكون كسب كل واحد منهما بمعلوم سابق متقدم، وبهيئة وصفة تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من العلم بها إلى العلم بالمجهول. فهاهنا شىء من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصوره، وشىء من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصديقه. ولم تجر العادة بأن يفرض للمعنى الجامع من حيث علمه يفيد علم تصور شىء اسم جامع، أو لم يبلغنا، لأن منه حدا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما، على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع وأما الشىء الذى يترتب أولا معلوما، تم يعلم به غيره على سبيل التصديق، فإن ذلك الشىء يسمى كيف كان حجة، فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه أشياء أخرى. فغاية علم المنطق أن يفيد الذهن معرفة هذين الشيئين فقط،؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول الموقع لتصور، حتى يكون معرفا حقيقة ذات الشىء وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يتوصل به إلى حقيقة ذاته وكيف يكون فاسدا، مخيلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولم يكون كذلك، وما الفصول التى بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع لتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لا يصح انتقاضه وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين، وكيف يكون بحيث يظن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميل نفس وقناعة من غيرتصديق جزم، وكيف يكون القول حتى يؤثرفى النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتاع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، ل من حيث يخيل، فكثير من الحيالات يفعل فى هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت لعسل إنه مرة مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة البتة ، كا تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه ، وما الفصول بينها ولم كانت كذلك وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يتوصل إلى معرفة الغرضين، وهذه الصناعة هى المنطق، وقد يتفق الإنسان أن ينبعث فى غريزته حد موقع للتصور، وحجة موقعة التصديق، إلا أن ذلك يكون شيئا غير صناعى، ولا يؤمن غلطه فى غيره، فإنه لو كانت الغريزة والقريحة فى ذلك ما يكفينا طلب الصناعة، كما فى كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض فى المذاهب ما عرض، ولكان الإنفسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته، بل الفطرة الإنسانية غير كافية فى ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية فى كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له فى بعضها إصابة كرمية من غير رام، وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لايغلط ألبتة البتة ؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها فى كثير من الأحوال، لا أن الصناعة فى نفسها غيرضابطة، وغيرصادة عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثانى أن يكون قد استوفاها، لكنه فى بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعالها، أو يذهب عنها. على أنه و إن كان كذلك، فإن صاحب العلم، إذا كان صاحب الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها، ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرة تمكن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا فى البلادة فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو فى مهمات صناعته التى تعينه المعاودة فيها، و إن وقع له سو فى نوافلها. والإنسان فى معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها فى الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد فى تأكيد الأمر فى تلك المهمات بمراجعات عرض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن مع تفاصيل حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة فى عقد الجملة. فهذه الصناعة لابد منها فى استكمال الإنسان الذى لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب، ونسبة هذه الصناعة إلى الروية الباطنة التى تسمى النطق الداخلى، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التى تسمى النطق الخار جى، وكنسبة العروض إلى الشعر لكن العروض ليس ينفع كثيرا فى قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العر بى قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها لانسان المكتسب لعلم بالنظر والروية، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله، فتكون نسبته إلى المروين نسبة البدوى الى المتعربين.
Page 20
[الفصل الرابع] (د) فصل فى موضوع المنطق
Page 21
ليس يمكن أن ينتقل الذهن من معنى واحد مفرد إلى تصديق شىء؛ فإن ذلك المعنى ليس حكم وجوده وعدمه حكما واحدا فى إيقاع ذلك التصديق؛ فإنه إن كان التصديق يقع، سواء فرض المعنى موجودا أو معدوما، فليس للمعنى مدخل فى إيقاع التصديق بوجه، لأن موقع التصديق هو علة التصديق، وليس يجوز أن يكون شىء علة لشىء فى حالتى عدمه ووجوده. فإذا لم يقع بالمفرد كفاية من غير تحصيل وجوده، أو عدمه فى ذاته، أو فى حاله، لم يكن مؤديا إلى التصديق بغيره؛ وإذا قرنت بالمعنى وجودا أو عدما فقد أضفت إليه معنى آخر، وأما التصور فإنه كثيرأ ما يقع بمعنى مفرد، وذلك كما سيتضح لك فى موضعه، وذلك فى قليل من الأشياء؛ ومع ذلك فهو فى أكثر الأمر ناقص ردىء، بل الموقع لتصور فى أكثر الأشياء معان مؤلفة، وكل تأليف فإنما يؤلف من أمور كثيرة، وكل أشياء كثيرة ففيها أشياء واحدة، ففى كل تأليف أشياء واحدة. والواحد فى كل مركب هو الذى يسمي بسيطا ولما كان الشىء المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته مع الجهل ببسائطه، فبالحرى أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات. والعلم بالمفردات يكون على وجهين: لأنه إما أن يكون علما بها، من حيث هى مستعدة لأن يؤلف منها التأليف المذكور، وإما أن يكون علما بها، من حيث هى طبائع وأمور يعرض لها ذلك المعنى. ومثال هذا أن البيت الذى يؤلف من خشب وغيره بحتاج مؤلفه إلى أن يعرف بسائط البيت من الحشب واللبن والطين؛ لكن لخشب واللبن والطين أحوالا بسببها تصلح للبيت وللتأليف، وأحوالا أخرى خارجة من ذلك. فأما أن الخشب هو من جوهر فيه نفس نباتية، وأن طبيعته حارة أو باردة، أو أن قياسه من الموجودات قياس كذا، فهذا لايحتاج إليه بانى البيت أن يعلمه وأما أن الخشب صلب ورخو، وصحيح ومتسوس، وغير ذلك، فإنه مما يحتاج بانى البيت إلى أن يعلمه. وكذلك صناعة المنطق فإنها ليست تنظر فى مفردات هذه الأمور، من حيث هى على أحد نحوى الوجود الذى فى الأعيان والذى فى الأذهان، ولا أيضا فى ماهيات الأشياء، من حيث هى ماهيات، بل من حيث هى محمولات وموضوعات وكليات وجزئيات، وغير ذلك مما إنما يعرض لهذه المعانى من جهة ما قلناه فيما سلف وأما النظر فى الألفاظ فهو أمر تدعو إليه الضرورة، وليس للمنطقى من حيث هو منطقى شغل أول بالألفاط إلا من جهة الخاطبة والمحاورة، ولو أمكن أن يتعلم المنطق بفكرة ساذجة، إنما تلحظ فيها المعانى وحدها، لكان ذلك كافيا ولو أمكن أن يطلع المحاور فيه على مافى نفسه بحيلة أخرى، لكان يغنى عن الفظ ألبتة البتة . ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعال الألفاظ، وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعانى من غير أن تتخيل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاة من الإنسان ذهنه بألفاظ متخيلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها فى النفس من المعانى حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن يصير بعض أجزائها نظرا فى أحوال الألفاظ؛ ولولا ما قلناه لما احتاجت أيضا إلى أن يكون لها هذا الجزء. ومع هذه الضرورة، فإن الكلام على الألفاظ المطابقة لمعانيها كالكلام على معانيها، إلا أن وضع الألفاظ أحسن عملا وأما فيما سوى ذلك، فلا خير فى قول من يقول إن المنطق موضوعه النظر فى الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، وإن المنطق إنما صناعته أن يتكلم على الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، بل يجب أن يتصور أن الأمر على النحو الذى ذكرناه. وإنما تبلد فى هذا من تبلد، وتشوش من تشوش، بسبب أنهم لم يحصلوا بالحقيقة موضوع المنطق، والصنف من الوجودات الذى يختص به، إذ وجدوا الموجود على نحوين: وجود الأشياء من خارج، ووجودها فى الذهن فجعلوا النظر فى الوجود الذى من خارج لصناعة أو صناعات فلسفية، والنظر فى الوجود الذى فى الذهن وأنه كيف يتصور فيه لصناعة أو جزء صناعة؛ ولم يفصلوا فيعلموا أن الأمور التى فى الذهن إما أمور تصورت فى الذهن مستفادة من خارج، وإما أمور تعرض لها، من حيث هى فى الذهن لا يحاذى بها أم من خارج. فتكون معرفة هذين الأمرين لصناعة، ثم يصير أحد هذين الأمرين موضوعا لصناعة المنطق من جهة عرض يعرض له. وأما أى هذين الأمرين ذلك، فهو القسم الثانى؛ وأما أى عارض يعرض، فهو أنه يصير موصلا إلى أن تحصل فى النفس صورة أخرى عقلية لم تكن، أو نافعا فى ذلك الوصول، أو ما يعاوق ذلك الوصول فلما لم يتميز لهؤلاء بالحقيقة موضوع صناعة المنطق، ولا الجهة التى بها هى موضوعه، تتعتعوا وتبلدوا؛ وأنت ستعلم بعد هذا، بوجه أشد شرحا، أن لكل صناعة نطرية موضوعا، وأنها إنما تبحث عن أعر اضه وأحواله، وتعلم أن النظر فى ذات الموضوع قد يكون فى صناعة، والنظر فى عوارضه يكون من صناعة أخرى، فهكذا يجب أن تعلم من حال المنطق.
[الفصل الخامس] (ه) فصل فى تعريف اللفظ المفرد والمؤلف وتعريف الكلى والجزئى، والذاتى والعرضى، والذى يقال فى جواب ما هو والذى لا يقال
Page 24
وإذ لا بد لنا فى التعليم والتعلم من الألفاظ، فإنا نقول: إن اللفظ إما مفرد و إما مرمكب. والمركب هو الذى قد يوجد له جزء يدل على معنى هو جزء من المعنى المقصود بالجملة دلالة بالذات، مثل قولنا: الإنسان وكاتب، من قولنا، الإنسان كاتب؛ فإن لفظة الإنسان منه تدل على معنى، ولفظة كاتب أيضا تدل على معنى، وكل واحد منهما جزء قولنا: الإنسان كاتب، ومعناه جزء المعنى المقصود من قولنا: الإنسان كاتب، دلالة مقصودة فى اللفظ، ليس كما نقول: حيوان، فيخظن أن الحى منه مثلا دال إما على جملة المعنى، و إما على بعض منه، لوكان من غير أن كان يقصد فى إطلاق لفظة الحيوان أن يدل الحى منه تلك الدلالة. وأما المفرد فهو الذى لا يدل جزء منه على جذء من معى الكل المقصود به دلالة بالذات، مثل قولنا "الإنسان'، فإن "الإن "و"السان' لا يدلان على جزأين من معنى الإنسان، منهما يأتلف معنى الإنسان، ولا يلتفت فى هذه الصناعة إلى التركيب الذى يكون بحسب المسموع، إذا كان لا يدل جزء منه على جزع من المعنى، كقولنا: عبد شمس، إذا أريد به اسم لقب ولم يرد عبد الشمس. وهذا وأمثاله لا يعد فى الألفاظ المؤلفة، بل فى المفردة، والموجود فى التعليم الأقدم من رسم الألفاظ المفردة أنها هى التى لا تدل أجزاؤها على شىء. واستنقص فريق من أهل النظر هذا الرسم، وأوجب أنه يجب أن يزاد فيه: أنها التى لا تدل أجزاؤها على شيء من معنى الكل، إذ قد تدل أجزاء الألفاظ المفردة على معان، لكنها لا تكون أجزاء معانى الجملة. وأنا أرى أن هذا الاستنقاص من مستنقصه سهو، وأن هذه الزيادة غير محتاج إليها للتتميم بل للتفهيم. وذلك أن اللفظ بنفسه لا يدل ألبتة البتة ، ولولا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ فكما أن اللافظ يطلقه دالا على معنى، كالعين على ينبوع الماء، فيكون ذلك دلالته، ثم يطلقه دالا على معى آخر، كالعين على الدينار، فيكون ذلك دلالته. كذلك إذا أخلاه فى ا إطلاقه عن الدلالة بقى غير دال، وعند كثير من أهل النظر غير لفظ فإن الحرف والصوت فيما أظن لايكون، بحسب التعارف عند كثير من المنطقين، لفظا، أو يشتمل على دلالة. وإذا كان ذلك كذلك، فالمتكلم باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا أيضا يريد أن يدل بجزئه على معنى اخر من شأنه أن يدل به عليه وقد انعقد الاصطلاح على ذلك. فلا يكون جزؤه ألبتة البتة دالا على شىء حين هوجزؤه بالفعل، اللهم إلا بالقوة، حين نجدالإضافة المشار إليها، وهى مقارنة إرادة القائل دلالة به. وبالجملة فإنه إن دل، فإنما يدل، لا حين ما يكون جزءا من اللفظ المفرد، بل إذا كان لفظا قائما بنفسه؛ فأما وهو جزء فلا يدل على معنى ألبتة البتة . واللفط إما مفرد و إما مركب، وقد علم أن النظر فى المفرد قبل النظر فى المركب. ثم الفظ المفرد إما أن يكون معناه الواحد الذى يدل عليه لا يمتنع فى الذهن، من حيث تصوره، اشتراك الكثرة فيه على السوية، بأن يقال لكل واحد منهم إنه هو، اشتراكا على درجة واحدة، مثل قولنا: الإنسان، فإن له معنى فى النفس، وذلك المعنى مطابق لزيد ولعمرو ولخالد على وجه واحد لأن كل واحد منهم إنسان. ولفظة الكرة المحيطة بذى عشرين قاعدة مثلثات، بل لفط الشمس والقمر، وغير ذلك، كل منها يدل على معنى لا يمنع تصوره فى الذهن من اشتراك كثرة فيه، وإن لم يوجد مثلا بالفعل، كالكرة المذكورة، أوكان يمتنع ذلك بسبب خاج عن مفهوم اللفظ نفسه كالشمس وإما أن يكون معناه بحيث يمتنع فى الذهن إيقاع الشركة فيه، أعنى فى المحصل الواحد المقصود به، كقولنا زيد؛ فإن لفط زيد، وإن كان قد يشترك فيه كثيرون، فإنما يشتركون من حيث المسموع؛ وأما معناه الواحد فيستحيل أن يجعل واحد منه مشتركا فيه، فإن الواحد من معانيه هو ذات المشار إليه، وذات هذا المشار إليه يمتنع فى الذهن أن يجعل لغيره، اللهم إلا أن لايراد بزيد ألبتة البتة ذاته، بل صفة من صفاته المشترك فيها، وهذا القسم، وإن لم تمتنع الشركة فى مسموعه، فقد يمتنع أن يوجد فى المعنى الواحد من المدلول به عليه شركة. فالقسم الأول يسمى كليا، والثانى يسمى جزئيا وأنت تعلم أن من الألفاظ ما هو على سبيل القسم الأول، ومن المعانى ما هو على سبيل معنى القسم الأول، وهو المعنى الذى المفهوم منه فى النفس لا تمتنع نسبته إلى أشياءكثيرة تطابقها نسبة متشاكلة ولا عليك من حيث أنت منطقى أنه كيف تكون هذه النسبة، وهل لهذا المعنى من حيث هو واحد مشترك فيه وجود فى ذوات الأمور التى جعلت لها شركة فيه؛و بالجملة وجود مفارق وخارج غير الذى فى ذهنك أوكيف حصوله فى الذهن؛ فإت النظر فى هذه لصناعة أرى أو لصناعتين. فقد علمت أن اللفظ إما أن يكون مفردا، وإما أن يكون مؤلفا؛ وأن المفرد إما أن يكون كليا، وإما أن يكون جزئيا. وقد علمت أنأ أوجبنا تأخير النظر فى المركب. واعلم أيضا أنا لانشتغل بالنظر فى الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غيرمتناهية فتحصر، ولا لوكانت متناهية كان علمنا بها من حيث هى جزئية يفيدنا كمالا حكميا، أو يبلغنا غاية حكمية، كما تعلم هذا فى موضع العلم به، بل الذى يهمنا النظر فى مثله، هو معرفة اللفظ الكلى، وأنت تعلم أن اللفط الكلى إنما يصيركليا، بأن له نسبة ما، إما بالوجود، وإما بصحة التوهم، إلى جزئيات يحمل عليها. والحمل على وجهين: حمل مواطأة، كقولك: زيد إنسان فإن الإنسان محمول على زيد بالحقيقة والمواطأة؛ وحمل اشتقاق، كحال البياض بالقياس إلى الإنسان فإنه يقال: إن الإنسان أبيض أو ذو بياض، ولا يقال: إنه بياض، و إن اتفق أن قيل: جسم أبيض، ولون أبيض، فلا يحمل حمل المحمول على الموضوع،؛ وإنما غرضنا ها هنا ما يعمل هو ماكان على سبيل المواطأة. فلنذكر أقسام الكلى الذى إنما ينسب إلى جزئيات مواطأة عليها، ويعطيها الاسم والحد، لكنه قد تضطرنا إصابتنا لبعض الأغراض أن لا نسلك المعتاد من الطرق فى قسمة هذه الألفاظ فى أول الأمر، بل نعود إليه ثانيا. فنقول: إن لكل شىء ماهية هو بها ما هو، وهى حقيقته، بل هى ذاته. وذات كل شىء واحد ر بما كان معنى واحدا مطلقا ليس يصير هو ما هو بمعان كثيرة، إذا التأمت يحصل منها ذات لاشى ع واحدة. وقلما تجد لهذا من الظاهرات مثالا، فيجب أن يسلم وجوده. ور بما كان واحدا ليس بمطلق، بل تلتئم حقيقة وجوده من أمور ومعان إذا التأمت حصل منها ماهية الشىء، مثال ذلك الإنسان، فإنه يحتاج أن يكون جوهرا، ويكون له امتداد فى أبعاد تفرض فيه طولا وعرضا وعمقا، وأن يكون مع ذلك ذا نفس، وأن تكون نفسه نفسا يغتذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون بحيث يصلح أن يتفهم المعقولات، ويتعلم صناعات ويعلمها إن لم يكن عائق من خارج لا من جملة الإنسانية فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هى ذات الإنسان. ثم تخالطه معان وأسباب أخرى، يتحصل بها واحد واحد من الأشخاص الإنسانية، ويتميز بها شخص عن شخص، مثل أن يكون هذا قصيرا وذاك طويلا، وهذا أبيض وذاك أسود. ولا يكون شى من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص، وكان بدله غيره، لزم منه أن يفسد لأجله؛ بل هذه أمور تبع وتلزم وإنما تكون حقيقة وجوده بالإنسانية، فتكون ماهية كل شخص هى بإنسانيته، لكن إنيته الشخصية تحصل من كيفية وكمية وغير ذلك، وقد يكون أيضا له من الأوصاف أوصاف أخرى غير الإنسانية، يشترك فيها الناس مع الإنسانية، بل تكون بالحقيقة أوصافا لانسان العام مثل كونه ناطقا، أى ذا نفس ناطقة، ومثل كونه ضاحكا بالطبع. لكن كونه ناطقا أمر هو أحد الأمور التى، لما التأمت، اجتمع من جملتها الإنسان، وكونه ضاحكا بالطبع هو أمر، لما التأمت الإنسانية بما التأمت منه، لم يكن بد من عروضه لازما فإن الشىء إذا صار إنسانا بمقارنة النفس الناطقة لمادته ، أعرض للتعجب الموجب فى مادته هيئة الضحك، كما أعرض لأمور أخرى: من الخجل والبكاء والحسد والاستعداد للكتابة وقبول العلم، ليس واحد منها لما حصل، أعرض الشىء لحصول النفس الناطقة له، فيكون حصول النفس الناطقة إذن سابقا لها، ويتم به حصول الإنسانية وتكون هذه لوازم بعدها، إذا استثبتت الإنسانية لم يكن بد منها. فقد لاح لك من هذا أن هاهنا ذاتا حقيقية للشىء، وأن له أوصافا بعضها تلتئم منه ومن غيره حقيقة الشىء، و بعضها عوارض لا تلزم ذاته لزوما فى وجوده، وبعضها عوارض لازمة له فى وجوده، فما كان من الألفاظ الكلية يدل على حقيقة ذات شىء أو أشياء، فذلك هو الدال على الماهية، وما لم يكن كذلك فلا يكون دالا على الماهية، فإن دل على الأمور التى لابد من أن تكون متقدمة فى الوجود على ذات الشىء، حتى يكون بالتئامها يحصل ذات الشىء، ولا يكون الواحد منها وحده ذات الشىء، ولا اللفظ الدال عليه يدل على حقيقة ذات الشىء بكالها، بل على جزء منه فذلك ينبغى أن يقال له اللفظ الذاتى الغير الدال على الماهية. وأما ما يدل على صفة هيى خارجة عن الأمرين، لازمة كانت أو غير لازمة، فانه يقال له لفظ عرضى، ولمعناه معنى عرضى. ثم هاهنا موضع نظر: أنه هل يجب أن يكون معنى اللفظ الذاتي مشتملا على معنى اللفظ الدال على الماهية اشتمال العام على الخاص أو لا يكون: فإن قولنا: لفط ذاتى، يدل على لفط لمعناه نسبة إلى ذات الشى،ومعنى ذات الشىء لا يكون منسوبا إلى ذات الشىء، إنما ينسب إلى الشىء ما ليس هو. فلهذا بالحرى أن يظن أن لفظ الذاتى إنما الأولى به أن يشتمل على المعانى التى تقوم الماهية، ولا يكون اللفظ الدال على الماهية ذاتيا، فلا يكون الإنسان ذاتيا لانسان، لكن الحيوان والناطق كونان ذاتيين للإنسان. فإن لم يجعل الإنسان ذاتيا للانسان، بما هو إنسان، بل لشخص شخص، لم يخل إما أن تكون نسبته بالذاتية إلى حقيقة ماهية الشخص ، وذلك هو الإنسان أيضا وإما أن تكون نسبته بها إلى الجملة التى بها يتشخص، فيكون ليس هو بكماله، بل هوجزء مما هو منه، من حيث هو جملة. فحينذ يعرض أن لا يكون الحيوان الناطق والإنسان وما يجرى مجراها ذاتيا لشخص تخص فقط، بل الأمور العرضية أيضا، مثأل لونه، وكونه قصيرا، وكونه ابن فلان، وما يجرى هذا المجزى قد تكون ذاتية، لأنها أجزاء مقومة للجملة. فحينئذ لا يكون للإانسان، من حيث هو ذاتى للشخص، إلا ما لهذه فهذه الأفكار تدعوإلى أن لا يكون الذاتى مشتملا على المقول فى جواب ماهو، لكن قولنا ذاتى، و إن كان بحسب قانون اللغة يدل على هذا المعنى النسبى، فإنه بحسب اصطلاح وقع بين المنطقيين يدل على معى آخر. وذلك لأن اللفظ الكلى، إذا دل على معنى نسبته إلى الجزئيات التى تعرض لمعناه نسبة يجب، إذا توهمت غير موجودة، أن لا يكون ذات ذلك الشىء من الجزئيات موجودا، لا أن ذات ذلك الشىء يجب أن يكون يرفع أولا، حتى يصح توهم رفع هذا، بل لأن رفع هذا موجب رفع ذلك الشىء، سواء كان لأن هذا المرفوع هوحقيقة ذاته، أوكان هذا المرفوع مما تحتاج إليه حقيقة ذاته ليتقوم فإنه يقال له ذاتى، فإن لم يكن هكذا وكان يصح فى الوجود أو فى التوهم أن يكون الشى ء الموصوف به حاصلامع رفعه، أوكان لايصح فى الوجود، ولكن ليس رفعه سبب رفعه، بل إنما لايصح ذلك فى الوجود لأن رفعه لا يصح إلا أن يكون ذلك، ارتفع أولا فى نفسه، حتى يكون رفعه بالجملة ليس سبب رفعه فهو عرضى، فأما المرتفع فى الوجود فكالقيام والقعود، وذلك ما يسرع رفعه، وكالشباب فإنه يبطؤ رفعه، وكغضب الحليم فإنه يسهل إزالته، وكالخلق فإنه يصعب إزالته. وأما المرتفع فى الوهم دون الوجود فكسواد الحبشى، وأما الذى لا يرتفع، ولايرفع رفع السبب، فككون الإنسان بطبعه معرضا لتعجب والضحك، وهوكونه ضحاكا بالطبع، فإنه لا يجوز أن يرفع عن الإنسان فى الوجود، فإن توهم مرفوعا، فإن الإنسانية تكون مرفوعة، لا أن رفع الأعراض بالطبع لهذا المعنى هو سبب رفع الإنسانية، بل لأنه لا يتاتى أن يرفع، إلا أن تكون الإنسانية أولا مرفوعة، كما أنها ليست سببا لثبوت الإنسانية، بل الإنسانية سبب لثبوتها. فقد بان اختلاف مابين نسبة الحيوان والناطق والإنسان إلى الأشخاص، وبين نسبة الأعراض إليها، فإن النسبة الأولى إذا رفعتها، أوجب رفع الشخص وأما النسبة الثانية فنفس رفعها لا يوجب رفع الشخص، بل منها ما يرتفع، ومنها ما لا يجوز أن يرتفع أويرتفع الشخص؛ وأما رفعها فلا يرفع الشخص ألبتة البتة . وإذا كان الأمر على هذه الجهة، فالذاتى يشتمل على الدال على الماهية. فقد اتضح لك أن اللفط المفرد الكلى منه ذاتى يدل على الماهية، ومنه ذاتى لا يدل على الماهية، ومنه عرضى.
[الفصل السادس] (و) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الذاتى والعرضى
Page 33
قد قيل فى التمييزبين الذاتى والعرضى: إن الذاتى مقوم والعرضى غير مقوم، ثم لم يحصل، ولم يتبين أنه كيف يكون مقوما، أو غير مقوم، وقيل أيضا: إن الذاتى لا يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشىئ، والعرضى يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشىء. فيجب أن نحصل نحن صحة ما قيل أو اختلاله، فنقول: أما قولهم إن الذاتى هو المقوم، فإنما يتناول ما كان من الذاتيات غير دال على الماهية، فإن المقوم مقوم لغيره. وقد علمت ما يعرض من هذا، اللهم إلا أن يعنوا بالمقوم ما لايفهم من طاهر لفظه، ولكن يعنون به ماعنينا بالذاتى، فيكونوا إنما أتوا باسم مرادف صرف عن الاستعمال الأول، ولم يدل على المعنى الذى نقل إليه، و يكون الخطب فى المقوم كالخطب فى الذاتى، وتكون حاجة كل واحد منهما إلى البيان واحدة. وأما اعتادهم على أم الرفع فى التوهم، فيجب أن تتذكر ما أعطيناك سالفا: أن المعنى الكلى قد يكون له أوصاف يحتاج إليها أولا حتى يحصل ذلك المعنى، ويكون له أوصاف أخرى تلزمه وتتبعه، إذا صار ذلك المعنى حاصلا. فأما جميع الأوصاف التى يحتاج اليها الشىء حتى تحصل ماهيته، فلن يحصل معقولا مع سلب تلك الأوصاف منه. وذلك أنه قد سلف لك أن للاأشياء ماهيات، وأن تلك الماهيات قد تكون موجودة فى الأعيان، وقد تكون موجودة فى الأوهام وأن الماهية لا يوجب لها تحصيل أحد الوجودين، وأن كل واحد من الوجودين لا يثبت إلا بعد ثبوت تلك الماهية، وأن كل واحد من الوجودين يلحق بالماهية خواص وعوارض تكون للماهية، عند ذلك الوجود، ويجوز أن لا تكون له فى الوجود الآخر. وربما كانت له لوازم تلزمه من حيث الماهية، لكن الماهية تكون متقررة أولا، ثم تلزمها هي، فإن الاثنينية يلزمها الزوجية، والمثلث يلزمه أن تكون زواياه الثلاث مساوية القائمتين، لا لأحد الوجودين، بل لأنه مثلث. وهذه الماهية إذا كان لها مقومات متقدمة من حيث هى ماهية لم تحصل ماهية دون تقدمها، وإذا لم تحصل ماهية، لم تحصل معقوله ولا عينا. فإذن إذا حصلت معقولة، حصلت وقد حصل ما تتقوم به فى العقل معها على الجهة التى تتقوم به،؛ فإنا كان ذلك حاصلا فى العقل، لم يمكن السلب، فيجب أن تكون هذه المقومات معقولة مع تصور الشىء، بحيث لايجهل وجودها له، ولا يجوز سلبها عنه، حتى تثبت الماهية فى الذهن، مع رفعها فى الذهن بالفعل. ولست أعنى بحصولها فى العقل خطورها بالبال بالفعل، فكثيرمن المعقولات لا تكون خاطرة بالبال، بل أعنى أنها لا يمكن مع اخطارها بالبال، و إخطار ما هى مقومة له بالبال، حتى تكون هذه مخطرة بالبال، وذلك مخطرا بالبال بالفعل، أن يسلبها عنه، كأنك تجد الماهية بالفعل خالية عنها مع تصورها، أعنى تصور الماهية فى الذهن. وإذا كان كذلك، فالصفات التى نسميها ذاتية للمعانى المعقولة، يجب ضرورة أن تعقل للشىء على هذا الوجه، إذ لا تتصور الماهية فى الذهن دون تقدم تصورها. وأما سائر العوارض، فإذ ليست مما يتقدم تصورها فى الذهن تصور الماهية فيه، ولا أيضا هاى مع تصور الماهية، بل هى توابع ولوازم ليست مما يحقق الماهية، بل مما يتلو الماهية، فالماهية تثبت دونها وإذا تثبتت دونها، لم يتعذر أن تعقل الماهية، و إن لم تتقدم، أو إن لم يلزم تعقلها. وقد علمت أنى لست أعنى فى هذا التعقل أن يكون، إذا تصورت الشىء بالفعل ملحوظا إليه، يكون مع ذلك تصورت أفراد المقومات له أيضا بالفعل، فر بما لم تلحظ الأجزاء بذهنك، بل أعنى بهذا أنك إذا أخطرت الأمرين معا بالبال، لم يمكنك أن تسلب الذى هو مقوم عن الذى هو مقوم له سلبا يصح معه وجود المقوم بماهيته فى الذهن من دون وجود ما يقومه فيه، فإذا كان كذلك، فيجب أن لايمكنك سلبه عنه، بل يعقل وجوده له لا مالة. وأما العوارض فلا أمنع صحة استثباتك فى الذهن معنى الماهية، ولا يعقل وجودها للماهية، بل يسلبها سلبا كاذبا. ولا أوجب ذلك أيضا فى كل العوارض، فإن من العوارض ما يلزم الماهية لزوما أوليا بينا ليس بواسطة عارض آخر، فيكون سلبه عن الماهية مع استثبات الماهية وإخطارهما معا بالبال مستحيلا، إذا كان ليس هو له بسبب وسط بينه وبينه. وذلك مثل كون المثلث بحيث يمكن إخراج أحد أضلاعه على الاستقامة توهما، أو معنى آخر مما يشبه هذا مما هو عارض له. وقد يمكن أن يكون وجود العارض بواسطة، فإذا لم تخطر تلك الواسطة بالبال، أمكن سلبه، مثل كون كل زاويتين من المثلث أصغر من قائمتين. ولولا صحة وجود القسم الثانى لما كانت لوازم مجهولة، ولولا صحة القسم الأول لما كا ما نبين لك بعد من إثبات عارض لازم للماهية بتوسط شىء حقا. وذلك لأن المتوسط،إن كان لا يزال يكون لازما للماهية غيربين الوجود لها، ذهب الأمر إلى غير النهاية، وإن كان من المقومات، صار اللازم المجهول كما تعلم لازمأ لهذا المقوم، لا مقومأ، إذ مقوم المقوم مقوم، وكان لازما آخر الأمر بلا واسطة. فما كان من اللوازم غير بين الشيء صح فى الذهن أن يتوهم الشىء مرفوعا عنه ذلك اللازم من جهة، ولم يصح من جهة، أمأ جهة الصحة فمن حيث أن تصوره قد يحصل فى الذهن مع سلب اللازم عنه بالفعل، واعتبار هذه الصحة والجواز حسب الذهن المطلق. وأما جهة الاستحالة فأن يتوهم أنه يجوز أن لو كان يحصل فى الأعيان، وقد سلب عنه فيها اللازم، حتى يكون مثلا كما يصح أن لوكان يكون هذا الشخص موجودا، ولا الندب الذى لزمه فى أصل الخلقة، فصار يصح أيضا أنه كان يكون هذا المثلث موجودا، ولا زاويتاه أقل من قائمتين؛ فإن هذا التوهم فاسد لا يجوز وجود حكمه، وليس كالمذكور معه. واعتبا ر هذه الصحة والجواز بحسب ذهن مطابق للموجود. فقد بان لك من هذا أن من الصفات ما يصح سلبه وجودا، ومنها ما يصح سلبه توهما لا فى الوجود، ومنها ما يصح سلبه توهما مطلقا، ومنها ما لا يصح سلبه بوجه وهو عارض، ومنها ما لا يصح سلبه وهو ذاتى، لكن يتميز من العارض بأن الذهن لا يوجب سبق ثبوت ما الذاتى له ذاتى قبل ثبوت الذاتى، بل ربما أوجب سبق ثبوت الذاتى. وأما العرض فإن الذهن يجعله تاليا، و إن وجب ولم ينسلب. فقد اتضح لك كيف لم يحصل معنى الذاتى والعرضى من اقتصر على البيانين المذكورين
[الفصل السابع] (ز) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الدال على الماهية
Page 37
إن الدال على الماهية قد قيل فيه: إنه هو الدال على ذاتى مشترك كيف كان، ولم يبلغنا ما هو أشد شرحا من هذا. فلننظر الأن هل المفهوم من هذه اللفظة، بحسب التعارف العاى، هو هذا المعنى أو لا، وهل ما تعارفه الخاص واتفقوا عليه بسبيل النقل يدل عليه؟ فإنا إذا فعلنا هذا، اتضح لنا غرض كبير. أما المفهوم بحسب التعارف العامى فليس يدل عليه؛ وذلك لأن الدال على ماهية الشىء هو الذى يدل على المعنى الذى به الشىء هو ما هو. والشىء إنما يصير هو ما هو بحصول جميع أوصافه الذاتية المشترك فيها، والتى تخص أيضا؛ فإن الإنسان ليس هو ما هو بأنه حيوان، وإلا لكانت الحيوانية تحصل الإنسانية. نعم الحيوانية محتاج إليها فى أن يكون هو ما هو، وليس كل ما يحتاج إليه فى أن يكون شيء هو ما هو، يكون هو الذى يحصل بحصوله وحده الشىء هو هو. فإذا كان كذلك لم يكن الذاتى المشترك للشىء مع غيره وحده، ولا الخاص وحده هو ماهية الشىء بل جزء ماهيته، والعجب أن جماعة ممن يرى أن الذاتى والدال على الماهية واحد لا يجعل الذاتى الخاص دالا على ماهية ما هو ذاتى له، وهو الذى نسميه بعد فصلا، فهذا هذا. وأما تعرف الحال فى الدال على الماهية على سبيل الوضع الثانى والتعارف الخاص، فهو أنا نجد الحيوان والحساس محمولين على الإنسان والفرس والثور، ثم نجد أهل الصناعة يجعلون الحساس وما يجرى مجراه من جملة أمور يسمونها فصولا لأمور يسمونها أجناسا ذاتية، ثم لايجعلونها من جملة ما يسمونه أجناسا، ويجعلون كل ما يكون دالا على الماهية لعدة أشياء مختلفة جنسا لها. وكذلك حال الإنسان والناطق بالقياس إلى أشخاص الناس، فيجعلون الإنسان يدل عليها بالماهية، ولايجعلون الناطق كذلك، ويجعلون الإنسان ذلك نوعا للحيوان دون الناطق. فإن الشىء الذى يقولون إنه دال على الإنية الذاتية المشتركة، يجعلونه شيئا غير الدال على الماهية الذاتية المشتركة، ولا يجعلون الشىء الواحد صالحا لأن يكون بالقياس إلى أشياء إنية وماهية، حتى يكون، من حيث يشترك فيه، هو ماهية لها، ومن حيث يتميز به عن أشياء أخرى هو إنية لها، حتى يكون الشىء المقول على الكثرة من حيث تشترك فيه الكثرة جنسأ أو نوعأ، ومن حيث تتميز به فصلا. فيكون ذلك الشىء لتلك الأشياء جنسا أو نوعا، ومع ذلك يكون لها فصلا؛ بل إذا وجدوا جنسأ ارتادوا شيئا آخر ليكون فصلا يقوم الجنس، إن كان جنسا له فصل يقومه. وكذلك إذا وجدوا نوعا طلبوا شيئا من ذاته هو الفصل، ولوكان الشىء إنما هو دال على الماهية، حتى هو جنس ونوع، لأنه دال على ذاتى مشترك فيه، لكان الأمر بخلاف هذه الأحكام. وها هنا موانع أخرى عن أن يكون ما قالوه من كون الدال على ذاتى مشترك، دالا على الماهية حقا. فإن زاد أحدهم شرطا ليتخصص به ما يسمونه جنسا ونوعا فى كونه دالا على الماهية،وهو أنه يجب أن يكون أعم الذاتيات المشتركة مضمونا فى الدلالة التى للذاتى المشترك، وذلك الأعم هو الأعم الذى لايدل على إنية أصلا، حتى يكون الفرق بين الأمرين أن الدال على الإنية هو الذى بكليته وكما هويدل على الإنية. وأما هذا الذى يتضمن الدلالة على أعم الذاتيات المشتركة فإنما يدل على الإنية بالعرض، لأنه يدل بجزء منه دون جزء، كالحيوان فإنه وإن تميز به أشياء عن النبات، فإنه ليس ذلك بجميع ما بحصوله الحيوان حيوان، بل بشىء منه؛ فإنه لا يفعل ذلك بأنه جسم، بل بأنه حساس، وهذا هو الدال على الإنية أولا، ولأجله يدل الحيوان على التمييز والإنية. فيكون الحيوان ليس لذاته صالحا لتمييز، بل بجزء منه، ويكون الحساس كذلك لذاته، فنقول: إن هذا أيضا تكلف غير مستقيم. أما أولا فلأنه لو كان كذلك لكان إذا أخذنا أعم المعانى كالجوهر، وقرنا به أخص ما يدل على الشيء فقلنا مثلا:. جوهر ناطق، لكان يكون دالا على ماهية، وكان يكون نوع الإنسان أد جنسه، وكان يكون حد الانسان أو حد جنسه أنه جوهر ناطق. وليس كذلك عندهم، بل حده أنه حيوان ناطق، وليس الحيوان والجوهر واحدا، ومن المحال أن يكون للشىء الواحد حد تام حقيقى إلا الواحد. وإن تكلفوا أن يوجهوا مع المشترك الأول سائر التى فى الوسط على الترتيب كله، فقد حصل ما نذهب إليه من أن الدال على الماهية يجب أن يكون مشتملا على كمال الحقيقة، فيكون حينئذ هذا التكلف يؤدى إلى أن لا يحتاج إلى نقل هذه اللفظة عن الموضوع فى اللغة إلى اصطلاح ثان؛ فإنا سنوضح من بعد أن استعمال هذه اللفظة على ما هى عليه يحفظ الوضع الأول لها مع استمرار فى الوجوه التى يتعوق معها ما يتعوق. وبعد هذا كله، فإت ذلك يفسد بوجوه أخرى، منها أن الحساس أيضا حكمه حكم الحيوان، وأنه أيضا محصل من معان عامة وخاصة، وأن المعانى العامة فيه، ككون الجسم أو الشىء ذا قوة أو صورة أو كيفية لا تمييز بها، إنما تميزبما هو أخص منها، وهو كون الحسم أو الشىء ذا قوة دراكة للشخصيات على سبيل كذا. ومنها أن الحيوان، وإن كان لا يميز بجزء من معناه كالجسم، ويميز بجزء كالحساس، فليس سبيلنا فى هذا الاعتبار هذا السبيل، ولا نظرنا هذا النظر. وذلك لأنا إنما ننظر فى الحيوان، من حيث هو حيوان؛ والحيوان، من حيث هو حيوان، شىء واحد، ومن حيث هو ذلك الواحد لا يخلو إما أن يميز التمييز الذى عن النبات أو لا يميز، فإن لم يميزوجب أن يكون النبات يشارك الحيوان فى أنه حيوان، وهذا حلف، وإن ميز، فقد صدر عنه بما هو حيوان تميز، و إن كان قد يصدر أيضا عن جزء له، وكان الجزء علة أولى فى ذلك التمييز، وليس إذا كان للشىء علة بها يصير بحال، ولعلة تلك الحال، يجب أن تكون تلك الحال له بالعرض، فكثير من الأشياء بهذه الصفة. ثم لا أمنع أن يكون ها هنا شروط أخرى تلحق بالبيان الذى جعلوه للدال على الماهية، يتميز بها ما يسمى جنسا أونوعا عن الفصل؛ وشروط أخرى تلحق بالتمييز يكون ذلك للحساس دون الحيوان؛ إلا أن ذلك لا يكون بحسب الوضع الأول، ولا بحسب نقل منصوص عليه من المستعملين لهذه الألفاظ فى أول ما استعملوا، بل يكون اضطرارات ألجأ إليها أمثال هذه المقاومات. وإذا وجد فى ظاهر المفهوم من لفط ما هو ما يقع به استغناء واقتصار، كان المصير عنه إلى غيره ضربا من العجز ومن اللجاج الذى تدعو إليه الأنفة من الإذعان للحق، والاعتراف بذهاب ذلك على من لم يخطر بباله ما أوردناه من المباحث إلى حين سماعها.
[الفصل الثامن] (ح) فصل فى قسمة اللفط المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة
Page 41
نقول الآن: إنه قد تبين لك أن اللفظ المفرد الكلى إما ذاتى و إما عرضى، وأن الذاتى للشىء إما صالح للدلالة على الماهية بوجه، وإما غير صالح للدلالة على الماهية أصلا. والدال على الماهية إما أن يدل على ماهية شىء واحد أو أشياء لاتختلف اختلافا ذاتيا؛ وإما أن تكون دلالة على الماهية إنما هى بحسب أشياء تختلف ذواتها اختلافا ذاتيا. مثال الأول لفظة الشمس إذا وقعت على هذه المشار إليها؛ ولفظة الإنسان إذا وقعت على زيد وعمرو؛ ومثال الثانى دلالة لفظة الحيوان إذا وقعت على الثور والحمار والفرس معا، فسأل سائل مثلا: ما هذه الأشياء: فقيل: حيوانات، فإن لفظة الحيوان تدل على كمال حقيقتها، من حيث هو مسئول عنها جملتها، ومطلوب كنه الحقيقة التى لها بالشركة. والفرق بين الوجهين أن الوجه الأول يكون دالا على ماهية الجملة، وماهية كل واحد؛ فإن لفظة الإنسان تدل أيضا على كمال الحقيقة الذاتية التى لزيد وعمرو، وإنما يفضل عليها ويخرج عنها ما يختص كل واحد منهما به من الأوصاف العرضية، كما قد فهمته مما قيل سالفا. وأما الوجه الثانى فإنك تعلم أن الحيوانية وحدها لا تكون دالة على ماهية الإنسان والفرس وحدها، فليس بها وحدها كل واحد منهما هو هو، وليس إنما يفضل عليها بالعرضيات بل بالفصول الذاتية؛ و أما الذى لها من الماهية بالشركة فلفظة الحيوان تدل عليه. وأما الحساس فيدل على جرء من جملة ما تشتمل عليه دلالة لفظة الحيوان، فهو جزء من كمال حقيقتها المشترك فيها دون تمامها، وكذلك حال الناطق بالقياس إلى الإنسان. لكن لقائل أن يقول: إنه لا دلالة للحيوان إلا ومثلها للحساس، وكما أنه لا يكون الحيوان إلاجسما ذا نفس،كذلك لايكون الحساس إلاجسما ذا نفس. فنقول فى جوابه: إن قولنا إن اللفظ يدل على معنى ليس على الوجه الذى فهمته، أعنى أن يكون إذا دل اللفط لم يكن بد من وجود ذلك المعنى، فإنك تعلم أن لفظ المتحرك إذا دل، لم يكن بد من أن يكون هناك محرك، ولفظة السقف، إذا دلت، لم يكن بد من أن يكون هناك أساس، ومع ذلك لا نقول إن لفظة المتحرك مفهومها ودلالتها المحرك، ولفظة السقف مفهومها ودلالتها الأساس، وذلك لأن معنى دلالة اللفط هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الأول، فإن كان هناك معنى آخر يقارن ذلك المعنى مقارنة من خارج، يشعر الذهن به مع شعوره بذلك المعنى الأول، فليس اللفط دالا عليه بالقصد الأول، وربما كان ذلك المعنى محمولا على ما يحمل عليه معنى اللفط، كمعنى الجسم مع معنى الحساس؛ وربما لم يكن محمولا كمعنى المحرك مع المتحرك. والمعنى الذى يتناوله اللفظ بالدلالة أيضا يكون على وجهين: أحدهما أولا والآخر ثانيا؛ أما أولا فكقولنا الحيوان، فإنه يدل على جملة الجسم ذى النفس الحساس، وأما ثانيا فكدلالته على الجسم، فإن معنى الجسم مضمن فى معنى الحيوانية ضرورة، فمادل على الحيوانية اشتمل على معنى الجسم، لا على أنه يشير إليه من خارج، فيكون ها هنا دلالة بالحقيقة، إما أولية وإما ثانية، ودلالة خارجية، إذا دل اللفظ على ما يدل عليه، عرف الذهن أن شيئا آخر من خارج يقارنه، وليس داخلا فى مفهوم اللفط دخول اندراج ولا دخول مطابق. فإن أردنا أن نختصر هذا كله ونحصله، جعلنا الدلالة التى للألفاظ على ثلاثة أوجه: دلالة مطابقة، كما يدل الحيوان على جملة الجسم ذى النفس الحساس؛ ودلالة تضمن، كما تدل لفظة الحيوان على الجسم، ودلالة لزوم كما تدل لفظة السقف على الأساس. فإذا كان كذلك فلنرجع إلى مانحن فيه فنقول: إن المفهوم من الحساس هو أنه شيء له حس تم من خارج ما، نعلم أنه يجب أن يكون جسما وذا نفس، فتكون دلالة الحساس على الجسم دلالة لزوم. وأما الحيوان فإنما نعنى به بحسب الاصطلاح الذى لأهل هذه الصناعة، أنه جسم ذو نفس حساس، فتكون دلالته على كمال الحقيقة دلالة مطابقة، وعلى أجزائها دلالة تضمن، وأما دلالة الحساس على سبيل المطابقة، فإنما هى على جزء فقط، وأما الكل وسائر الأجزاء، فإنما تدل عليها على سبيل اللزوم. ولسنا نذهب ها هنا فى قولنا لفظ دال، إلى هذا النمط من الدلالة؛ فقد تقرر أن اللفظ الدال على الماهية ما هو وكيف هو، ومن ها هنا تزول الشبهة المذكورة. فأما اللفظ الذاتى للشىء الذى لا يدل على ماهية ما اعتبرذاتيته له، لا بسبيل شركة ولا خصوص، فانه لا يجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة، وإلا لدل على الماهية المشتركة بوجه، فهو إذن أخص منه، فهو صالح لتمييز بعض ما تحته عن بعض، فهو صالح للإنية؛ فكل ذاتى لا يدل بوجه على ماهية الشىء فهو دال على الإنية. فإن قال قائل: إن الذى يصلح للإنية هو بعينه يصلح للماهية، فإن الحساس، وإن رذلت كونه دالا على ماهية الإنسان والثور والفرس، بحال خصوص أو شركة، فإنك لا ترذل دلالته على ماهية مشتركة للسميع والبصير واللامس؛ فليس يجب أن يكون الذاتى ينقسم إلى مقول فى جواب ما هو، ومقول فى جواب أى شىء، انقساما على أن لا يدخل أحدهما فى الآخر، ولذلك لم يتبين لك أنه إذا كان الشىء دالا على الماهية، فليس بدال على الإنية، بل يلزمك ما ألزمت القوم، فنقول له: أما التشكك المقدم فينحل بأن تعرف أنا لا نمنع أن يكون ماهو دال على إنية أشياء دالا على ماهية أشياء أخرى، بل ربما أوجبنا ذلك؛ إنما نمنع أن يكون الحساس مثلا دالا على ماهية خاصة أو مشتركة للإنسان والفرس والثور، كدلالة الحيوان مع مشاركة الحيوان الحساس فى الذاتية للإنسان والفرس والثور؛ فإن الحساس ذاتى مشترك لعدة أشياء، كما أن الحيوان ذاتى مشترك لها؛ إنما تمنع حكما آخر فنقول: إنهما بعد الاشتراك فى الذاتية المشترك فيها، يفترقان فيكون الحيوان وحده منهما دالا على ماهية مشتركة للأمور التى هما ذاتيان لها. ويجب أن تعلم أنا إذا قلنا: لفظ ذاتى، عنينا ذاتيا لشىء، ثم نقول: ماهية أوغير ماهية، فنعنى بذلك أنه كذلك لذلك الشىء لا غيره، وإذا خلينا عن هذا فيكون ما هو أبعد من هذا، فإن الذاتى للشىء، كاللون للبياض، قد يكون عرضيا لشىء آخر، كما هو للجسم، وهذا لا يوجب منع قولنا: إن الذاتى لا يكون عرضيا، فإن غرضنا يتوجه إلى أنه لا يكون عرضيا لذلك الشىء الذى هو له ذاتى. وأما التشكك الآخر فينحل بأن نقول: إنا نعنى بالدال على الإنية ما إنما صلوحه للإنية فقط دون الماهية، حتى إنه لا تكون دلالته على معنى مقوم يتمم ماهية مشتركة أو خاصة، بل على معنى مقوم يخص؛ فإذا قلنا: الدال على الإنية عنينا هذا المعنى. فإن تشكك متشكك، واستبان حال قول الحيوان على السميع والبصير واللامس، هل هو قول فى جواب ما هو أوليس، وكيف يجوز أن يكون مقولا فى جواب ما هو، فتكون هذه أنواع الحيوان وأمورا مختلفة متباينة أيضا، فحينئذ لا يكون الحساس مقولا عليها فى جواب ما هو، لأن الحيوان اتم دلالة. وكيف لا يكون كذلك وهوأكل محمول على ما نحمله عليه بالشركة؟ فيجب أن ينتظر هذا المتشكك أصولا وأحوالا نعطيها إياه فى حمل الجنس على الفصل، وذلك بعد فصول. فإذ قد تبين هذا فنقول: إن الذاتى الدال على الماهية يقال له: المقول فى جواب ما هو؛ والذاتى الدال على الإنية يقال له: القول فى جواب أى شىء هو فى ذاته، أو أى ما هو. وأما العرضى فربما كان خاصا بطبيعة المحمول عليه لا يعرض لغيره كالضحاك والكاتب للإنسان، ويسمى خاصة،؛ وربما كان عارضا له ولغيره كالأبيض للإنسان ولغيره، ويسمى عرضا عاما. فيكون كل لفظ كلى ذاتى إما دالا على ماهية أعم، ويسمى جنسا، وإما دالا على ماهية أخص، ويسمى نوعا، وإما دالا على إنية ويسمى فصلا، وأما الكلى العرضى فيكون إما خاصيا ويسمى خاصة، وإما مشتركا فيه و يسمى عرضا عاما. فكل لفظ كلى إما جنس، وإما فصل، و إما نوع، وإما خاصة، وإما عرض عام. وهذا الذى هو جنس ليس جنسا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل جنسا لتلك الأمور التى تشترك فيه. وكذلك النوع ليس هو نوعا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل بالقياس إلى الأمور التى هو أعم منها. وكذلك الفصل إنما هو فصل بالقياس إلى ما يتميز به فى ذاته. والخاصة أيضا إنما هى خاصة بالقياس إلى ما يعرض لطبيعته وحده. وكذلك العرض إنما هو عرض عام بالقياس إلى ما يعرض له لا وحده. فلنتكلم الآن فى كل واحد منها بانفراده، ثم لنبحث عن مشاركاتها ومبايناتها، على حسب العادة الجارية، سالكين فيه مسلك الجماعة.
Page 46
[الفصل التاسع] (ط) فصل فى الجنس
Page 47
فنقول: إن اللفظة التى كانت فى لغة اليونانيين تدل على معنى الجنس، كانت تدل عندهم بحسب الوضع الأول على غير ذلك، ثم نقلت بالوضع الثانى إلى المعى الذى يسمى عند المنطقيين جنسا. وكانوا أولئك يسمون المعنى الذى يشترك فيه أشخاص كثيرة جنسا، مثل ولديتهم كالعلوية، أوبلديتهم كالمصرية. فإن مثل العلوية كانت تسمى عندهم باسم الجنس بالقياس إلى أشخاص العلويين، وكذلك المصرية كانت تسمى عندهم جنسا بالقياس إلى أشخاص المولودين بمصر، أو الساكنين بها، وكانوا أيضا يسمون الواحد المنسوب إليه الذى تشترك فيه الكثرة جنسا لهم، فكان على مثلا عندهم يجعل جنسا للعلويين، ومصر جنسا للمصريين، وكان هذا القسم أولى عندهم بالجنسية، لأن عليا سبب لكون العلوية جنسا للعلويين، ومصر سبب لكون المصرية جنسا للمصريين. ونظن أن السبب أولى بالاسم من المسبب إذا وافقه فى معناه، أو قاربه. ويشبه أيضا أنهم كانوا يسمون الحرف والصناعات أنفسها أجناسا للمشتركين فيها، والشركة نفسها أيضا جنسا. فلما كان المعنى الذى يسمى الآن عند المنطقيين جنسا هو معقول واحد له نسبة إلى أشياء كثيرة تشترك فيه، ولم يكن له فى الوضع الأول اسم، نقل له من اسم هذه الأمور المتشابهة له اسم، فسمى جنسا، وهو الذى يتكلم فيه المنطقيون ويرسمونه بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو. وقبل أن نشرع فى شرح هذا التحديد، فيجب أن نشير إشارة خفيفة إلى معنى الحد والرسم، ونؤخر تحقيقه بالشرح إلى الجزء الذى نشرح فيه حال البرهان فنقول: إن الغرض الأول فى التحديد هو الدلالة باللفظ على ماهية الشىء، فإن كان الشىء معناه معنى مفردا غير ملتئم من معان، فلن يصلح أن يدل على ذاته إلا بلفظ يتناول تلك الذات وحدها، و يكون هو اسمها لا غير، ولا يكون له ما يشرح ماهيته بأكثر من لفط هو اسم؛ ور بما أتى باسم مرادف لاسمه يكون اكثر شرحا له. لكن دلالة الاسم إذا لم تفد علما بمجهول، احتيج إلى بيان آخر لايتناول ذاته فقط، بل يتناول نسبا وعوارض ولواحق ولوازم لذاته، إذا فهمت تنبه الذهن حينئذ لمعناه منتقلا منها إلى معناه، أو يقتصر على العلامات دون الماهية، فلا ينتقل إليها، وعلى ما هو أقرب إلى فهمك فى هذا الوقت. فمثل هذا الشىء لاحد له، بل له لفظ يشرح لواحقه من أعراضه ولوازمه. وأما إن كان معنى ذاته مؤلفا من معان، فله حد، وهو القول الذى يؤلف من المعانى التى منها تحصل ماهيته حتى تحصل ماهيته، ولأن أخص الذاتيات بالشىء إما جنسه، وإما فصله، على ما يجب أن نتنبه له مما سلف ذكره؛ فأما فصل الفصل، وجنس الجنس، وما يتركب من ذلك، فهو له بواسطة، وهو فى ضمن الجنس والفصل. فيجب أن يكون الحد مؤلفا من الجنس والفصل؛ فإذا أحضر الجنس القريب، والفصول التى تليه، حصل منها الحد، كما نقول فى حد الإنسان: إنه حيوان ناطق. فإن كان الجنس لا اسم له، أتى أيضا بحده، كما لو لم يكن للحيوان اسم أتى بحده فقيل: جسم ذو نفس حساس، ثم ألحق به ناطق. وكذلك من جانب الفصل. فالحد بالجملة يشتمل على جميع المعانى الذاتية للشىء، فيدل عليه إما دلالة مطابقة، فعلى المعنى الواحد المتحصل من الجملة، وإما دلالة تضمن، فعلى الأجزاء. وأما الرسم فإنما يتوخى به أن يؤلف قول من لواحق الشىء يساويه، فيكون لجميع ما يدخل تحت ذلك الشىء لا لشىء غيره، حتى يدل عليه دلالة العلامة. وأحسن أحواله أن يرتب فيه أولا جنس، إما قريب وإما بعيد، ثم يؤتى بجملة أعراض وخواص، فإن لم يفعل ذلك كان أيضا رسما، مثال ذلك أن يقال: إن الإنسان حيوان عريض الأظفار، منتصب القامة، بادى البشرة، ضحاك، أوتذكر هذه دون الحيوان. فالمقول فى شرح اسم الجنس هو كالجنس للشىء الذى يسمى جنسا، فمن المقول ما يقال على واحد فقط، ومنه ما يقال على كثيرين، فيكون القول على كثيرين كالجنس الأقرب. وأما المقول لا على كثيرين، فلايتناول الجنس. ثم المقول على كثيرين يتناول الخمس المنكورة، إلا أنا لما قلنا: مختلفين بالنوع فى جواب ما هو، اختص بالجنس، ونعنى بالمختلفين بالنوع المختلفين بالحقائق الذاتية، فإن النوع قد يقال لحقيقة كل شىء فى ماهيته وصورته غير ملتفت إلى نسبته إلى شىئ آحر، خصوصا إذا كان يصح فى الذهن حمله على كثيرين، تشترك فيه بالفعل أو لاتشترك فيه بالفعل بل بالقوة، أو احتمال التوهم، وليس يحتاج فى تحقيق الجنس إلى أن يلتفت إلى شىء من ذلك. وإذا كانت أشياء مختلفة الماهيات، ثم قيل عليها شىء آخر هذا القول، كان ذلك الشى الآخر جنسا. فافهم من قولنا: إن هذا الشىء يقال على هؤلاء الكثيرين فى جواب ماهو، أن ذلك بحال الشركة كما علمت. وأما الفصل، فإنه غير مقول فى جواب ماهو بوجه. وأما النوع، فإنه ليس، من حيث هو نوع، مقولا على شىء قولا بهذه الصفة، بل مقولا عليه، فإن اتفق أن قيل هو بعينه هذا القول، فقد صار جنسا. فإنا يلزمنا أن نعلم فى الحدود التى للأشياء الداخلة فى المضاف، أنا نريد بها كونها لشىء، من حيث هى لها معنى الحدود، كأنا لما قلنا هذا الحد للجنس، استشعرنا فى أنفسنا زيادة يدل عليها قولنا: من حيث هو كذلك، لو صرحنا بها. وأما الشىء الذى يخص من بعد باسم النوع، فستعلم أنه لا يقال على كثيرين مختلفين بالنوع، بل بالعدد. وأما العرضيات، فلا يقال شىء منها فى جواب ما هو، فلا شىء غير الجنس موصوفا بهذه الصفة، وكل جنس موصوف بهذه الصفة، لأنا حصلنا معنى هذا الحد، وجعلنا لفظ الجنس اسما له. وقد يعرض هاهنا شبه: من ذلك أنه إذا كان للجنس شىء كالجنس، وهو المقول على كثيرين، كان للجنس جنس، إذا قيل الجنس على المقول على الكثيرين الذى هو جنسه، وكان الجنس مقولا على الجنس نفسه، فنقول فى جوابه: إن القول على الكثيرين يقال على الجنس كقول الجنس، والجنس يقال عليه لا كقول الجنس بل كقول العرض له، إذ ليس يقال: إن كل مقول على كثيرين جنس، وكل ما هو جنس، فإنما يقال على كل ما هو له جنس، بل المقول على كثيرين تعرض له الجنسية عند اعتبار ما، كما تعرض للحيوان الجنسية باعتبار ما، وهو اعتبار العموم بحال، وكما نشرح لك كل هذا عن قريب، من غير أن تكون الجنسية مقومة للحيوان ألبتة البتة . ولا يمنع أن يكون المعنى الأخص قد يقال على الأعم، لا على كله، ولو كان الجنس يقال على المقول على الكثيرين قول المقول على الكثيرين على الجنس لكان شططا محالا. ومما يشكك ها هنا استعمال لفظة النوع فى حد الجنس. فإنك إذا أردت أن تحد النوع، يشبه أن لاتجد بدا من أن تدخل فيه اسم الجنس، كما يبين لك بعد، إذ يقال لك إن النوع هو المرتب تحت الجنس، وكلاهما للمتعلم مجهول، وتعريف المجهول بالمجهول ليس بتعريف ولا بيان، وكل تحديد أو رسم فهو بيان. وقد أجيب عن هذا فقيل: إنه لما كان المضافان إنما تقال ماهية كل واحد منهما بالقياس إلى الآخر، وكان الجنس والنوع مضافين، وجب أن يؤخذ كل واحد منهما فى بيان الآخر ضرورة، إذ كان كل واحد منهما إنما هو هو بالقياس إلى الآخر فهذا الجواب هو زيادة شك فى أمور أخرى غير الجنس والنوع، يشكل فيها ما يشكل فى الجنس والنوع. وزيادة الإشكال ليست بحل، فإن المحقق يقول: ورد حدود المضافات على حد الجنس والنوع، وعرفنى أنها إذا كانت مجهولة معا، فكيف يعرف الواحد منها بالآخر؟ وأيضا فإن من شأن الحل أن تقصد فيه مقدمات الشك فتنكر جميعها، أو واحدة منها. وليس فى الحل الذى أورده هذا الحال تعرض لشىء من تلك المقدمات،؛ فإنه لم يقل إن الجنس والنوع ليسا معا مجهولين عند المبتدئ المتعلم، ولم يقل إنه إذا عرف كل واحد منهما بالآخر وهو مجهول، فليس هو تعريف مجهول بمجهول، فإن هذا لا يمكن إنكاره؛ ولا أيضا يسوغ إنكار الثالثة وهى أن تعريف المجهول بالمجهول ليس ببيان، ولا الترتيب الذى لهذه المقدمات غير موجب لصحة المطلوب بها؛ فإذا كان هذا الحال لم يتعرض لمقدمة من قياس الشك، ولا لتأليفه، فلم يعمل شيئا. وأيضا فقد وقع فيه غلط عظيم: وهو أنه لم يميز فيه الفرق بين الذى يعرف مع الشىء، وبين الذى يعرف به الشىء؛ فإن الذى يعرف به الشىء هو مما يعرف بنفسه ويصير جزءا من تعريف الشىء، إذا أضيف إليه جزء اخر توصل إلى معرفة الشىء، ويكون هو قد عرف قبل الشىء. وأما الذى يعرف مع الشىء فهو الذى إذا استتمت المعرفة بتوافى المعرفات للشىء معا عرف الشىء وعرف هو معه، ولا تكون المعرفة به تسبق معرفة الشىء حتى يعرف به الشىء، فذلك لا يكون جزءا من جملة تعريف الشىء؛ فإن أجزاء الجملة التى تعرف الشىء ما لم تجتمع معا، لم تعرف الشىء، والواحد منها يكون دالا على جزء من المعنى الذى للشىء فقط. فما دامت الأجزاء تذكر ولم تستوف جميعها، يكون الشىء بعد مجهولا؛ فإذا توافت عرف الشىء حينئذ، وعرف ما يعرف مع الشىء. والمضافات إنما تعرف معا، ليس بعضها يعرف بالبعض، فتكون معرفة بعضها قبل معرفة البعض، فتكون معرفة البعض لا مع معرفته، و بالجملة مايعرف مع الشىء غير الذى يعرف به الشىء؛ فإن الذى يعرف به الشىء هو فى المعرفة قبل الشىء. وكذلك فإنا نقول: إن المتضايفات لاتحد على هذه المجازفة التى أومأ إليها من ظن أنه يحل هذا الشك، بل فى تحديدها ضرب من التلطف يزول به هذا الانغلاق ولهذا موضع بيان آخر. وأما مثاله فى العاجل، فهو أنك إذا سئلت: ما الأخ؟ لم تعمل شيئا إن أجبت: إنه الذى له أخ، بل تقول: إنه الذى أبوه هو بعينه أبو إنسان آخر الذى يقال إنه أخوه، فتأتى بأجزاء بيان ليس واحد منها متحددا بالمضاف الآخر؛ فإذا فرغت تكون قد دللت على المتضايفين معا. وإذ قد تقرر أن هذا الحل غير مغن، فلنرجع نحن إلى حيث فارقناه فنقول: إن تحديد الجنس يتم،وإن لم يؤخذ النوع فيه نوعا من حيث هو مضاف إليه، ل من حيث هو الذات؛ فإنك إذا عنيت بالنوع الماهية والحقيقة والصورة، وقد يعنى به ذلك كثيرا فى عادتهم، لم يكن النوع من المضاف الى الجنس. وإذا عنيت بالمختلفين بالنوع المختلفين بالماهية والصورة، تم لك تحديد الجنس. فإنك إذا قلت: إن الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق والماهيات والصور الذاتية فى جواب ما هو، تم تحديد الجنس، ولم تحتج إلى أن تأخذ لنوع من حيث هو مضاف فتورده فى حده، وإن كانت الإضافة تندرج فى ذلك اندراجا لا يكون معه جزء الحد متحددا بالمحدود بالحد. أما الاندراج فلأنك إذا قلت: مقول على المختلف بالماهية، جعلت المختلف بالماهية مقولا عليه، وهذه إشارة إلى ماعرض لها من الإضافة، وأما أنك لم تجعل جزء الحد متخددا بالمحدود بالحد، فلأن جزء الحد هو الماهية، أوكلية تخالف بالماهية والماهية من حيث هى ماهية، والكلية المخالفة بالماهية، غير متحددة بالجنس، فتكون قد حددت الجنس حدا نبهت فى اخره وبالقوة معه على تحديد النوع الذى يضايفه، من غير أن جعلته بالفعل من حيث هو مضاف جزء حده. وأما شرح هذا التدبير فى الحدود التى للمتضايفات، وأنه لم ينبغى أن يكون هكذا، وكيف يحصل معه مراعاة ما لكل واحد من المتضايفين من خاصية القول بالقياس إلى الآحر، فسترى ذلك فى مكان آخر.
[الفصل العاشر] (ى) فصل فى النوع ووجه انقسام الكلى إليه
Page 54
والنوع أيضا قد يقال فى لغة اليونانيين على معنى غير معنى النوع المنطقى؛ فإن اللفظ الذى نقلته الفلاسفة اليونانيون فجعلته لمعنى النوع المنطقى، كان مستعملا فى الوضع الأول عند اليونانيين على معنى صورة كل شىء وحقيقته التى له دون شىء آخر ، فوجدوا صورا وماهيات لأشياء التى تحت الجنس، يختص كل واحد منها بها، فسموها، من حيث هى كذلك، أنواعا. وكما أن لفظة الجنس كانت تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، ولفظة النوع مطلقا كانت تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، فكذلك لفظة النوع المنطقى تتناول عند المنطقيين معنيين: أحدهما أعم والآخر أخص، فأما المعنى الأعم فهو الذى يرونه مضايفا للجنس، و يحدونه بأنه المرتب تحت الجنس، أو الذى يقال عليه الجنس، وعلى غيره بالذات، وما يجرى هذا المجرى. وأما المعنى الخاص فهو الذى ربما سموه باعتبار ما، نوع الأنواع، وهو الذى يدل على ماهية مشتركة لجزئيات لا تختلف بأمور ذاتية. فهذا المعنى يقال له نوع بالمعنى الأول؛ إذ لايخلو فى الوجود من وقوعه تحت الجنس؛ ويقال له نوع بالمعنى الثانى. وبين المفهومين فرق، وكيف لا! وهو بالمعنى الأول مضاف إلى الجنس، وبالمعنى الثانى غير مضاف إلى الجنس، فإنه لايحتاج، فى تصوره مقولا على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ماهو، إلى أن يكون شىء آخر أيضا أعم منه مقولاعليه. ومعنى النوع بالوجه الأول ليس كالجنس بمعنى النوع بالوجه الثانى، وذلك لأنه ليس مقوما له؛ إذ قد يجوز فى التوهم أن لا يكون الشىء الذى هو نوع بهذه الصفة نوعا بالصفة الثانية؛ إذ لايمتنع فى الذهن أن نتصور كليا هو رأس ليس تحت كلى آخر، وهو مع ذلك ليس مما ينقسم بالفصول، كالنقطة عند قوم. وما كان حمله هكذا وعلى هذه الصورة، وجاز رفعه فى التوهم، لم يكن كما علمت ذاتيا، وما لم يكن ذاتيا لم يكن جنسا، بل إن كان لا بد فهو عارض لازم له. وقد يقال لهذا نوع الأنواع، وليس المفهوم من كونه نوع الأنواع هو المفهوم من كونه نوعا، بمعنى أنه مقول على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ما هو، وكيف ومن حيث هو نوع الأنواع. فإن النوع المطلق له كالجنس وداخل فى تحديده، وهو به مضاف إلى أنواع فوقه. ثم لست أحقق أن أى الوجهين هو فى اصطلاح المنطقيين أقدم ؛ فإنه لا يبعد أن يكون أول نقل اسم النوع إنما هو إلى هذا المطلق على الأفراد، ثم لما عرض له أن كان عليه عام آخر، سمى كونه تحت العام بهذه الصفة نوعية. ولا يبعد أيضا أن يكون الأقدم هو المعنى الآخر؛ فلا كان هذا المعنى يلزمه أن يكون نوع الأنواع، ويختص فى إضافاته بالنوعية فقط من غير جنس، جعل أولى باسم النوعية، وسمى من حيث هو ملاصق لأشخاص نوعا أيضا. وهذا شىء ليس يمكننى تحصيله، وإن كان أكثر ميلى هو إلى أن أول التسمية وقع بحسب اعتبار النوع المضايف، لكنه يجب علينا أن نعلم أن النوع الذى هو أحد الخمسة فى القسمة الأولى، هو بأى المعنيين نوع، فنقول: إنه قد يمكن أن تخرج القسمة المخمسة على وجه يتناول كل واحد منهما دون الآخر، فإنه إذا قيل: إن اللفظ الكلى الذاتى، إما أن يكون مقولا بالماهية أو لايكون، والمقول بالماهية إما أن يكون مقولا بالماهية المشتركة لمختلفين بالنوع، أو لمختلفين بالعدد دون النوع، كان قسمة المقول بالماهية تتناول الجنس والنوع الملاصق للأشخاص، فيضيع اعتبار النوع بالمعنى الذى يكون بالإضافة إلى الجنس فى القسمة الأولى، بل ينقسم بعد ذلك ماهو مقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو إلى ماهو كذلك، ولا يقال عليه مثل ذلك، فيكون الذى يسمى جنسا فقط، و إلى مايكون مقولا على كثيرين، و يقال عليه آخر هذا القول فيصير هذا الاعتبار نوعا. لكن هذه القسمة لا تخرج طبيعة النوعية بالمعنى المضاف مطلقا، بل تخرج قسما من هذه النوعية بهذا الاعتبار، وهو ماكان جنسا وله نوعية، وتخرج طبيعة النوع بالاعتبار الخاص سالما صحيحا. وقد يمكن أن يقسم بحيث يخرج النوع بمعنى الأعم، فيكون النوع بالمعى الخاص فى القسمة الثانية، حتى يكون ما هو نوع: إما الذى هو نوع الأنواع الذى يعرض له أن يكون النوع بالمعنى الذى يجعله أخص، وإما الذى هو نوع يتجنس. لكنك إذا قسمت الكلى من حيث هو كلى فأولى الاعتبارات به أن تقسمه قسمة تكون له بالقياس إلى موضوعاته التى هو كلى بحسبها، فهنالك يذهب النوع الذى بالمعنى الأعم؛ وإنما يحصل من بعد باعتبار ثان، وهنالك يصير النوع المشعور به أولا هو النوع بالمعنى الحاص. وإن لم يراع هذا بل روعى أحوال الكليات وعوارضها فيما بينها من حيث هى كلية، مثل الزيادة فى العموم والخصوص التى لبعضها عند بعض، لاعند الجزئيات خرج لك النوع المضاف، على ما نورده عن قريب. وليس يجب أن يكون هذا التخميس مشتملا على كل معنى تكون إليه قسمة الكلى؛ فإن الشىء قد ينقسم أقساما قسمة تامة، وتفلت منها أقسام له أخرى إنما تاتى سليمة بقسمة أخرى؛ فإن الحيوان، إذا قسمته إلى ناطق وأعجم، لم يكن إلا قسمين، وأفلت المشاء والطائر، واحتاج إلى ابتداء قسمة. وليس يجب أن نتعسر ونقول: إن هذه القسة المخمسة يجب أن تشتمل على كل معى يكون من أقسام الكلى واعتباراته، بل يجب أن تعلم أنه إنما يحمل على هذا التعسر اشتراك قسمين متباينين فى اسم وهو اسم النوع، بل الأحرى أن نقول: إن هذه الخمسة إذا تحصلت، حصل من المناسبات التى بينها أمر آخر، هو حال الأخص من المقولات فى جواب ما هو عند الأعم، حتى يكون ذلك نوعية الأخص، وكما يعرض مثل ذلك أيضا شخصية وجرئية، ولكن تلك قد تركت إذ لا التفات إليها. فإن آثرنا أن نجعل القسمة مخرجة للنوع بالمعنى المضاف الذى هو أعم، وجب أن نقول: إن اللفظ الذاتى إما مقول فى جواب ماهو، و إما غير مقول؛ ونعنى بالمقول فى جواب ماهو، ما يصلح أن يكون إذا سئل عن أشياء كثيرة ما هى جوابا. ثم نقول: والمقول فى جواب ماهو قد يختلف بالعموم والخصوص فيكون بعضها أعم وبعضها أخص، فأعم المقولين فى جواب ما هو هو جنس للأخص، وأخصهما نوع لاعم. فإذا وجدنا النوع فهناك يقسم قسمة أخرى فنقول: إنه لايخلو إما أن يكون النوع من شأنه أن يصير جنسا لنوع آخر، وإما أن لا يكون ذلك من شأنه ، فهذه القسمة تنتهى إلى الخمسة انتهاء ظاهرا، وتكون طبيعة النوع متحصلة فيه، والنوع بالمعنى الآخر يدخل فيه بوجه. وأما القسمة الأولى فلم تكن كذلك. وأما القسمة المشهورة التى لهذه الخمسة، فهى أقرب من القسمة الأولى، وذلك لأنهم يقسمون هكذا: إن كل لفظ مفرد إما أن يدل على واحد أو على كثير، والدال على الواحد هو اللفظ الشخصى، وأما الدال على الكثير فإما أن يدل على كثيرين مختلفين بالنوع، أوكثيرين مختلفين بالعدد. والدال على كثيرين مختلفين بالنوع إما أن يكون ذاتيا، وإما أن يكون عرضيا؛ فإن كان ذاتيا، فإنما أن يكون فى جواب ما هو، وإما أن يكون فى جواب أى شىء هو. فيجعلون الدال على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو جنسا، والدال عليه فى جواب أى شىء هو فصلا. وأما العرضى فهو العرض العام. ثم يقولون: إن الدال على كثيرين مختلفين بالعدد إما أن يكون فى جواب ما هو، وهو النوع، وإما فى جواب أى شىء هو، وهو الخاصة. فهذه القسمة منهم قد فاتها النوع بالمعنى المضاف، وفاتها طبيعة الفصل، بما هو فصل؛ بل إنما دخل فيها من الفصول ما يحمل على أنواع كثيرة، وليس ذلك هو طبيعة الفصل، بما هو فصل؛ إذ ليس كل فصل كذلك، على ما سيتضح لك، إلا أن يراعى شىء ستعرفه، وتعلم أنهم لم يراعوه ولم يفطنوا له، فليس يمكننا أن نجعل ذلك عذرا لهم، اللهم إلا أن يكون المعلم الأول راعاه. وأيضا فإن هذه القسمة لم يفرق فيها بين الخاصة وبين الفصل الذى لايكون إلا للنوع، وفاتها الخاصة التى هى خاصة نوع متوسط بالقياس إليه، فلم يوردوا الخاصة بما هى خاصة للنوع، بل بما هى خاصة لنوع أخير، كا لم يوردوا النوع إلا نوعا أخيرا.
[الفصل الحادى عشر] (يا) فصل فى تعقب رسوم النوع
Page 59