الشعر العامي اللبناني
في هذا الجبل موسيقى داخلية لا تنقطع أبدا، موسيقى بعيدة القرار، عذبة الهينمة. فمن غابة توشوش وتهمهم، إلى واد يترنم، ومن نهر يثرثر، إلى كهوف ناطقة كالببغاء، أنغام أجراس كبيرة وصغيرة، منها ما يتأرجح في القباب، ومنها ما ينوس في الرقاب، رقاب الدواجن على اختلاف أنواعها، رنات تحيا وتموت رويدا رويدا، موسيقى آبدة لها طعمها ولونها، لا تطفر على الذرى حتى تهبط إلى الأودية، فتتغلغل في ثناياها قاطعة طريقها إلى اللانهاية.
اللهم رحماك! لقد استيقظ مارون عبود العتيق، ولكن ما يضر، فلنمض في أسلوب هجرناه وتنكرنا له، إن لكل شيء في لبنان موسيقاه الهائمة في منعطفاته، التائهة في التواءاته، المندسة في الآبار والهوى.
الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان، يتعاونون في لبنان تعاونا لا تشوبه السياسة، فيؤلفون جميعا موسيقى لاهوتية، توقظ الناسوت الكامن وراء اللاشعور.
إذا استيقظت في لجة الليل فلست تظفر بسكوت تام إن كنت ممن يسمعون، لا بد من شيء يناجيك فتشرئب حواسك الهاجعة، وتثور عاطفتك المهومة إذا كنت لشيء آخر في الليل تسهر، أشباح وهمسات تهبط مع الندى، وضبابات تسربل القمم فتعممها، فتهيم وعليها أبهة المحرم وجلاله، ثم ترتفع محتشمة، جارة أذيالها بوقار لتتحول في الأعالي صورا وتماثيل لا عيب فيها غير أنها لا تدوم.
أما الفجر الرمادي فيصب في نفسك ذوب ترانيمه وطيوبه فتسكر ولا تفيق، حتى يقبل القرص الذهبي فتخاله في متناول يدك، لو تطاولت قليلا.
إن الشمس في معظم القرى اللبنانية، وخصوصا في ضيعتنا، قريبة من الناس، فنحن وهي في مناجاة أبدية، لا تبتعد عنا إلا إذا اعتدل ميزان النهار ثم تعود إلى الدنو منا لتودعنا، ولكننا لا نلتقي، فكأننا طفلان يلعبان على رمل الأبدية ولا يدرك أحدهما الآخر.
أما أعراس لبنان فكثيرة؛ هنا راع ينفخ في شبابته أو يرقص أصابعه على حجرات قصبتيه المضمومتين. وهناك مكار يزمجر بالعتابا، ويترنح بالميجانا والمعنى والمواليا والروزانا واليادي اليادي على إيقاع أجراس بغاله وجلاجل مركوبه. وفي هذا المنحنى امرأة تنتجع لأهلها الهندباء والخبيزة والقرصعني والحماضة والكراث وهي تنوح على فقيد عزيز، وإذا قعدت في بيتها تنقي القمح والبرغل من الزوان والشيلم غنت طروبة ولسان حال سامعيها يقول: «خليها تنقي وتغني، ولا تسلق وتنوح!» حتى إذا ما بكى صغيرها هزت له السرير وغنت مموتة صوتها لينام على سرور:
نم لله يا عيني
وعينك عز من عيني
Unknown page