Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Genres
إذا أنت لم تحي الحياة كبيرة
ولم تبق ذكرا في البرية خالدا
وعشت تعيد الأمس في اليوم خاملا
فقد عشت يوما في الحقيقة واحدا!
إلى أن سرى الأصيل، فتنقلت من شاطئ إلى شاطئ، ولفظتني ضفة إلى ضفة؛ وكنت أخذت من كلمة النسر في صرفي، وما رسم له ربه من الوقوف بي على الفسطاط، والإشراف بي على معالمها، واطلاعي على مواكب دولة العرب فيها، أن بساط الرؤيا قد انطوى فيما يتعلق بمنف والدول الأولى، وأنا قادمان على الفسطاط، مستقبلان وجوه العرب، وافدان على هذه الدولة التي وصف الرشيد ما كانت عليه من انبساط الظل، وامتداد النفوذ، واتساع الملك والسلطان، في قوله لغمامة ظللته ولم تمطر، وكان يرجو أن يستدفع الحر بمطرها: «أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يجبى إلي!» وفي ضوء هذا الفخر سرى الإسبانيون في أيام دولتهم، حيث زعموا الشمس لا تغيب عن أملاكهم؛ ثم زالت هذه الكلمة عنهم إلى الإنكليز، فهي آية ملكهم اليوم؛ ثم ترثها أمة غيرهم؛ سنة الله في خلقه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
قال: فلما صرت في منف، رأيت الدهر قد جعل عاليها سافلها، وصيرها كبعض القرى، ولم يبق عليها من أنقاض ذلك البنيان الباذخ، وبقايا تلك العمارة الكبرى، إلا آثارها هنا وهنا؛ منها القائم وكان قاعدا، والقاعد وكان قائما، وبعضها مشوه في أحسن محاسنه، منقوص من أطرافه، أو مفقود تفتش عن مكانه لا تجده، فقعدت أعجب للدهر كيف طال على ذلك الطول، وعلا فوق تلك العلياء، وأتقصى النظر فأرى قصور الرومان موحشة مهجورة، وكانت بالأمس آهلة معمورة، أخنى عليها الذي أخنى على منازل الفراعنة من قبل، وأنظر أكواخ الفلاحين تموج بنسائهم وصغارهم كبيوت النمل، وقد سكنوا إلى الدولة القائمة كما سكنوا إلى الدول من قبلها، فأقول في نفسي: «هكذا الحكماء وإلا فلا، فلو رد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الحياة - وهو أزهد خلق الله في الدنيا - لما أخذ حقيقة الزهد إلا عن هذه الأمة!»
وبينما أنا أنظر حولي بعين تعتبر، وأخرى تستعبر، إذا صوت النسر يستسيرني إليه، فوافيته، وكان عند قدمي رمسيس وهو من حجر، وعهدته بالأمس عند رأسه وهو بشر محتضر؛ فابتدر خطابي يقول: ما بال الهدهد يستعبر؛ أيبكيه من الأيام أن تتصرف بالأنام، ورحاها تطحن على الدوام، وسيفها على رقاب الأقوام في الحرب والسلام؟
انظر يا بني إلى الحسد كيف حمل الأمم على الإزراء بالقوم بعد اندثارهم، والعيث في ديارهم، والعبث بآثارهم، وهدم البقية الباقية من منازلهم؛ فقاتلوا الحجر، وحاربوا الأثر، وسبوا التماثيل والصور، ودخلوا على الأموات الحفر؛ ولو استطاعت إحداهن أن تدعي صنعا لبعض هذه الآثار لفعلت، ولامتلأت منها فارس، فأتينا، فروما؛ فقد صدر عن الرومان أنهم كانوا يستعيرون رءوس التماثيل مما ترك اليونان، لأجسام مما صنعت أيديهم، وبالعكس، ثم يوهمون أن الكل من عملهم، وهذا عند ذكر السرقة غاية. أتى على شيطاني يا بني عشرون قرنا يجاور الآثار، ويندب على طلول الديار، وهي نهب بيد البلى والدمار، فلم أعهد أن أيدي العاثين انتفضت منها، وأكف المخربين انكفت عنها، إلا منذ هبط العرب أرض مصر.
قلت: إنك لتطري القوم يا مولاي.
قال: وإنهم لأهله يا بني، فما حكم بين الناس أعدل من عمر، ولا سادهم أفضل منه، ولئن صدق أن في القول شيئا من القائل فعمر هو الإنسان الكامل، حيث يقول: «رأيت جميع البر فلم أر برا أفضل من الرحمة!» والرحمة في اعتقادي أعلى مراتب الأخلاق، وقد جازت بعض الأنبياء في بعض الأمر ولم تجز عمر في شيء منه.
Unknown page