Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Genres
ثم طلب القاضي من صاحب الحانة أن يشرح دعواه، فتقدم رجل أسمر اللون، صغير الهامة، رقيق العنق، قبيح الوجه، فسأله الحاكم: من أنت؟ قال: فلان الكاتب يا مولاي، أنابني صاحب الحانة عنه في تقرير شكواه، وشرح دعواه.
قال: إذن تكلم.
فأقسم الرجل ثم شرع يقول: دخل السيد الأستاذ بنتاءور، وصديق ملك العالم، حانتنا التي بشارع الصناعة، يصحبه فتيان، فلبث ريثما شرب قدحا من نبيذ منفيس، ثم خرج فلم ندر به إلا وقد وقف بباب الحانة فمنعه، واعترض للناس في طريقهم إليها فقطعه، وخطب في المارة بعد ذلك فاستوقفهم، وجلب الزحام بعضه بعضا حتى خيل للرائي أن الحانة قتل فيها قتيل، أو حدث فيها حادث جليل، وكانت الخمر موضوع خطبته، أولها وآخرها، فوصفها بأقبح الأوصاف، ونهى عن شربها، وحذر من عواقبها، وذكر مضارها، وبين نصيب كل طبقة من طبقات الأمة منها، وطالت خطبته حتى سمعها خلق كثير، ومن فاته أولها لم يفته آخرها. ويعلم القضاة من جهة أن تجارة الأهلين حرة في بلاد جلالة الملك، وأن قوانين جلالته لا تحرم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ويعلمون من جهة ثانية أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ فلو قال الأستاذ في الخمر ما قال وهو في التعبد بالهيكل أو في التعليم بالمدرسة، لما وجد لائما ولا مؤاخذا؛ لكنه عمد لشخص معين فأزرى به وبتجارته، بمرأى ومسمع من الكافة، ويعلمون كذلك أن ألاف الحانات بين الناس هم العامة في الغالب، وهؤلاء يتأثرون بذكر اسم الأستاذ بنتاءور، فكيف إذا سمعوا حديثه، وكان مداره ذم الخمر في بيتها، وتقبيح تجارتها بين أعين تجارها، ويعلمون أيضا أن المارة في أي قسم من أقسام المدينة، إنما يكون معظمهم من أهله وسكانه، وحانتنا إنما جعلت لأبناء تلك الناحية التي خطب الأستاذ عليها، فكل ضرر ينشأ عن خطبته إنما يلحق بالحانة خاصة ويصيب صاحبها بالذات.
هذه شكوانا بسطناها للحاكم وأعوانه، آملين من عدالتهم أن يقدروا الخسارة التي سببها الأستاذ لنا بخطبته، وأن يسوموه أداء العوض إلينا.
فحين فرغ الرجل من شرح الشكوى، لم يتمالك بنتاءور أن ضحك ثم قال: أيها القضاة، أعطوا الخمار من مالي ما شئتم، ولا تعطوا هذا الأحمق منه فتيلا!
فسأله الحاكم: وأي علاقة بينكما وليس هو إلا محاميا عن صاحب الحانة؟
قال: علمت أنهما اشترطا أن يكون له النصف مما تحكمون به علي، وأن الخمار عارضه في ذلك بادئ بدء، فكان جوابه أن التجارتين سواء؛ فكما أن الخمار يسلب الناس أموالهم، كذلك المحامي يشاطرهم أرزاقهم.
زعم الخصم أن قوانين جلالة الملك لا تحرم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ونحن نقول إنها تبيح السم أيضا ولا تحظر الاتجار به، ما دام من العقاقير، وكلما أخذ بمقادير.
على أننا لم نحرم الخمر ولم ننه عنها، وكيف وقد شربنا منها قدحا باعتراف الخصم؛ لكن دعونا الناس إلى الاعتدال في أمرهم وأخذ القليل منها إذا لم يكن من شربها بد؛ فمثلنا كمن يقول لهم وهو على باب صيدلية لا حانة: يا أيها الناس، لا تأخذوا السم إلا بمقدار! فهل علينا إن قلنا هذا من حرج؟ شتان بين النوعين من السم، هذا يأخذه المرء وهو يعافه، وهذا يتناوله وهو يلذه؛ هذا يتجرعه وهو يدري، وهذا يتعاطاه وهو لا يدري؛ هذا إذا أخذ قليله نفع، وإذا أخذ كثيره أراح، وهذا صحة تزول، وشعور يعتوره ذبول، وعلة تطول، وميتة عذابها يهول.
وزعم الخصم أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ ونحن نقول إن الموقف لم يكن أصلح منه للخطابة؛ لأن مدمن الخمر لا يرثى له إلا في الحانة، كما أن الميت لا يؤبن إلا في القبر.
Unknown page